عاشورا، والذكرى السعيدة والحزينة في الشرع
عبدالكريم الخنيفر
الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسنِا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِهِ اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يُضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ ألا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبِه وسلَّم تسليما كثيرًا.
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فإن التقوى هي هدايةُ الحائر، ودليلُ السائر ومادّةُ العامر، كيف لا يكون ذلك وقد تعهّد اللهُ بولايةِ المتقين عندما يتولى الظالمون بعضُهم بعضا فلا يغني أحدٌ عن أحد شيئا، قال تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ).
أيها المسلمون، تأتي على الناس أحداثٌ عظامٌ منها السعيدُ ومنها الحزين، فتختلفُ أفعالُهم في التعامل معها، كما تتنوّعُ مشاربُهم في تذكّرها إذا جاءتهم ذكراها، ودينُنا الكاملُ الواضحُ ما ترك أمراً يقرِّبُ إلى الله إلا دل الناسَ عليه، وما ترك أمراً يُباعد من الله إلا حذرهم منه، فشريعته كاملةٌ كما أخبر الرسولُ ﷺ: في قوله: ((تركتُكم على البيضاءِ ليلِها كنهارِها لا يزيغُ عنها بعدي إلا هالِكٌ)).
فعلى سبيل المثال: هذا يوم عاشوراءَ المنصرمِ أمسِ، رأينا كيف صامه عمومُ المسلمين اقتداءً بمن أُمرنا أن نقتديَ به نبيِّنا وحبيبِنا وقدوتِنا محمدٍ ﷺ، الذي صامه فرحًا بذكرى انتصارِ الإيمانِ على الكفر، والعدلِ على الظلم، حين أنجى اللهُ نبيَّه موسى ﷺ وأغرقَ فرعونَ وجنودَه.
ولو لم يصمْه رسولُنا ﷺ لما صمناه؛ لأنَّ العباداتِ توقيفيَّةٌ على الدليل، فليس لكلِّ ذِكرى جميلةٍ شعائرُ وأفعالٌ تعظِّم من شأن ذلك اليوم، وإلَّا لكان يومُ بدرٍ الذي سمَّاه اللهُ يومَ الفرقان أو سواه من تلك الأيامِ العِظامِ ذكرى معظَّمة، لكنَّ الرسولَ ﷺ لم يفعلْ من ذلك شيئًا.
فهذه علةُ الصيامِ ابتداءً، كما أنَّه قد ترتّب على صيام عاشوراءَ أجرٌ عظيمٌ ذكره رسولُنا الكريم ﷺ.
وغيرُ ذلك يكفي أنها قُربةٌ لله تعالى، وكم نحن بحاجة لأنواعِ القُرباتِ علَّ اللهَ أن يتقبّل منا، ويعفوَ عن تقصيرِنا.
فلنتقِ اللهَ يا عبادَ الله، ولنجعلْ كلَّ شأنٍ من أمورنا وفقَ ما أمر اللهُ سبحانه وتعالى نغنمِ الخيرَ الكثير، ونسلمْ من شرٍّ عظيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
(قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)أقول قولي هذا وأستغفر الله من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدلله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، أما بعد، عباد الله…
فكما أن عاشوراءَ ذكرى سعيدةٌ لعموم المسلمين، ففي مثل هذا اليوم أيضًا كانت حادثةٌ حزينة، يوم استُشهد الحسينُ رضي الله عنه حفيدُ رسولِ الله ﷺ عندما خرج يريد إقامةَ العدل بعد أن استوثق من وجود النصيرِ له، لكنَّ أولائك المناصرينَ خذلوه، فامتدّت له يدُ الجور الآثمةُ لتُرديه شهيدًا في سبيل الله،
فرضي الله عنه وأرضاه ريحانةُ النبي ﷺ سيّدُ شبابِ أهلِ الجنة.
عباد الله، إنَّ المسلمَ حين يتذكّر هذا الحادثَ الأليمَ من تاريخ الإسلام وسواه من الأحداث، فيجب ألا يتجاوزَ مجردَ الاتعاظِ والاعتبار، فإننا أيها المسلمون نُهينا عن المبالغةِ في الحزن والبكاء، خاصةً إذا كان ذلك الحزنُ يُعطّل مصالحَ العباد والبلاد، فكيف بمن لا يزالُ يستجلبُ مشاعرَ الحزنِ والتفجعِ مئاتِ السنين.
كما أننا نهينا عن تعظيمِ الأيامِ بشعائرَ وأفعالٍ لم تردْ في الشرع، فالعباداتُ توقيفيةٌ كما أقررنا في الخطبة الأولى.
وأعظمُ من ذلك وأشنعُ أن تكونَ تلكم الأفعالُ بإيذاءِ النفسِ وإهلاكِ المالِ وترويعِ الناس، وإظهارِ صورةٍ بشعةٍ عن الإسلامِ والمسلمين لم يأذنْ بها الله ورسولُه، قال الرسول ﷺ: ((ليس منا من لطم الخدودَ وشقَّ الجيوبَ ودعا بدعوى الجاهلية)). والسؤال الخطيرُ: من أين جاءت هذه التصرفاتُ الشنعاء ما دامت لم ترد في الشرع؟! يجيب الله سبحانه بقوله: ( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ). وإنا يا عباد الله في رؤية هؤلاء المنكوسين يجب ألا نتجاوزَ استشعارَ نعمةِ اللهِ بنا أنْ هدانا للطريق القويم، مع تبيينِ الصوابِ إن نفعت الذكرى، دون سخريةٍ أو استهزاء، فالله هو الذي هداك عندما ضلَّ غيرُك.
اللهم أرنا الحقَّ حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم ارفع عنا الوبا والبلا والغلا يا رب العالمين،
اللهم أصلح أحوال المسلمين، وولِّ عليهم خيارَهم واكفهم شرَّ شرارِهم.
اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفقه ونائبَه لما فيه خيرُ البلاد والعباد.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمدلله رب العالمين.