عاشوراء.. يوم عظيم

عبدالرحمن العليان
1437/01/10 - 2015/10/23 08:38AM
بسم الله الرحمن الرحيم
يوم عاشوراء
الحمد لله الذي خَلَقَ الإنسانَ وكرَّمَه، وعلَّمَه ما لم يكن قد عَلِمَه، ذي الفضلِ العظيم، والخيرِ الواسعِ العميم؛ فلا يحصي أحدٌ نِعَمَه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، شهادةً أرجو بها النجاةَ يوم تكونُ الأعطياتُ جمّة، والنجاةَ من عذابٍ {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} [الأنعام: 16]، وأشهد أن محمدا عبدُ الله ورسولُه، نبيُّ الرحمةِ والملحمة، أتمّ اللُه به النعمة، وأقام به للدين عَلَمَه، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه، خيرِ جيل أقاموا الدين: أحكامَه وقِيَمَه، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:
فإن خيرَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد r، وأجمعَ هداهما تقوى الله تعالى؛ فاجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية، بفعل ما شرع، واجتنابِ ما عنه نهى ورَدع.
شهرُ الله المحرَّم إحدى الأشهر الحرم، التي اختصها الله بالفضل والشرف، بل هو أفضلها؛ ولذا هو أولى أشهرِ العامِ صياما بعد صيام الفريضةِ وما يتعلق بها؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t مرفوعا: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ، بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ: الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ: صِيَامُ شَهْرِ اللهِ الْمُحَرَّمِ» رواه مسلم.
وفيه يوم عاشوراء: اليوم العاشر منه، الذي شرع للمسلمين صيامُه، وقد مرّ صيامه بأربع مراحل:
المرحلة الأولى: صيامُ قريش لهذا اليوم؛ فكان يوما معظما عندهم، وتكسى فيه الكعبة، فلقد أخرج الشيخان في صحيحَيْهما عن عروة بن الزبير أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَخْبَرَتْهُ: (أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَصُومُ عَاشُورَاءَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ r بِصِيَامِهِ، حَتَّى فُرِضَ رَمَضَانُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ r: مَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْهُ)، وفي رواية للبخاري: (وَكَانَ يَوْمًا تُسْتَرُ فِيهِ الكَعْبَةُ).
المرحلة الثانية: حين قدم رسول الله - عليه الصلاة والسلام - المدينةَ مهاجرا، فوجد اليهودَ يصومونه، فصامه تعبدا لله تعالى وأمر بصيامه، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ r المَدِينَةَ فَرَأَى اليَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: «مَا هَذَا؟»، قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ: «فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ»، فَصَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. روه البخاري ومسلم، وهذا لفظ البخاري. وفي رواية للبخاري: «أَنْتُمْ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْهُمْ فَصُومُوا».
وقد كان أمره بصيامه r أمرَ إيجاب على الراجح من قولي أهل العلم.
المرحلة الثالثة: حين فُرض رمضانُ في السنة الثانية من الهجرة نُسِخَ وجوبه وبقي استحبابه، قال ابن عمرَ رضي الله عنهما: (كَانَ عَاشُورَاءُ يَصُومُهُ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ قَالَ رسول الله r: مَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَصُمْهُ) رواه البخاري ومسلم، وهذا لفظ البخاري.
أما المرحلةُ الرابعة فتتمثَّلُ في تأكيد رسول الله - صلوات ربي وسلامه عليه- على مشروعية صيامه، ومخالفة اليهود فيه، فقد قال في آخر محرَّمٍ شهده: («فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ» فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ (r. أخرجه مسلم. أي أراد أن يصوم التاسع مع العاشر مخالفةً لليهود في إفراده بالصوم.
وقد ورد في فضل صيامه ما أخرجه مسلم من حديث أبي قتادة t أن رسول الله r قال: (وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ).
إنه يوم عظيم من أيام الله تعالى، يومُ اهتداء واقتداء وشكرٍ للمولى النصير U، إنه يوم تعلّم المسلمون فيه درسا بليغا في متانةِ الرابطة الإيمانية التي تعلو في الإسلام على كل رابطة، وأن دين الإسلام دين أخوة، لا مكانَ فيه لعصبيةٍ أو عرقية؛ كيف وسَلَامُ المسلمين دوما على عباد الله الصالحين من كانوا ومتى وحيث كانوا، فنحن أحق بموسى -عليه السلام- منهم، ورسولنا r أحق بموسى منهم، فالمؤمنون أولى ببعض، وكيفَ لا نكونُ الأولى بموسى وهو الذي بشّر برسولنا، وذكره الله في كتابنا، والإيمانُ به من أركان ديننا؟!
أجل.. نحن أولى به من قوم قالوا: آمنا به بأفواههم، ثم كفروا بأقوالهم وأفعالهم، وحرَّفوا دينه، وافتروا عليه الكذبَ وهم يعلمون، واتخذوا العجلَ من بعد ما جاءتهم البينات، وقالوا: أرنِا الله جهرة، وقالوا على الله وأنبيائه إفكا مبينا، نحن أحق به من قومٍ فضلهم الله على عالمي زمانهم ولكنهم كفروا وتعنتوا، ولاقى منهم نبيهم عنتا شديدا.
نحن أحق بموسى عليه السلام؛ لأنه جاء بدين الله الحق: عبادةِ الله واجتنابِ الطاغوت، وأن محمدا عليه الصلاة والسلام هو خاتم النبيين.. إنها رابطةُ العروةِ الوثقى التي لا انفصامَ لها، تجمع المؤمنين جميعًا مهما نأت بهم الديار، ومهما تباعدت بينهم الأعصار.
فنجاة موسى - عليه السلام - ومن معه من المؤمنين؛ من آلاءِ ربنا، التي لا يتمارى بها أولياءُ الله، وهلاكُ فرعونَ وملئِه من نعمِ اللهِ التي لا يكذبون بها؛ ليَبْقَى صومُ هذا اليومِ لفتَ انتباهٍ إلى صدق موعودِ الله، وأن العاقبة للمتقين، وأن الله لا يصلح عمل المفسدين، وليعلم الظالمون أيَّ منقلب ينقلبون، وليبقى عاشوراء ملهما لمن كان حي القلب بأجل النعم، وسبيلِ الشاكرين، وتولي المؤمنين، والبراءة من الكافرين.
يوم عاشوراء تذكرة بسنة الله في مداولة الأيام، وصراعِ الحق والباطل، وكيف يكون النصر، وبالآفات التي تؤجّله إلى قدرٍ معلوم، وأن لله لطفا خفيا، يدق عن التنبؤ به الإنسان مهما كان ذكيا.
أيها المؤمنون بموعود الله الحق: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الروم: 6، 7].
إن الإنسان عاجز جاهل، يجهل ما سيكون، ويريد ما لا يكون، ويكون ما لا يريد، أما الله - تعالى - فهو على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، إذا أراد شيئا هيَّأَ أسبابَه، حدث ما حدث من قصة موسى وقومه مع فرعون وملئه، وقبل أن تَحْدُثَ لا يعلم الناس عنها شيئا، بل ربما لا يخطر على بال أحد منهم مآلُها بَلْهَ فصولَها، أما الله - تعالى - فقد شاء ذلك وقدَّرَه، وكتبه قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5-6].
يدبّر الله الأمر، ويقضي بالحقّ، والخلق لا يقضون من أمره بشيء، وهو اللطيف -تبارك وتعالى - وهو اللطيفُ بعبده ولعبده واللطفُ في أوصافِه نوعانِ
إدراكُ أسرارِ الأمورِ بخبرةٍ واللطفُ عند مواقعِ الإحسانِ
فَيُريكَ عزَّتَهُ ويُبدي لُطْفَه والعبدُ في الغَفَلَاتِ عن ذا الشانِ
من لطفه U أنه يحسن إلى عباده من طُرُقٍ لم تخطر لهم على بال، ومن حيث لم يحتسبوا.
تأمّلوا - رحمكم - كيف أوحى الله إلى أم موسى وحيَ إلهام أو رؤيا ونحو ذلك أن ترضعه، فإذا خافت عليه أن تلقيَه في اليمّ ولا تخفْ ولا تحزن؛ لأن الله تعالى رادُّه إليها وجاعله رسولا..
فلما خافت عليه أخفته ووضعته في التابوت، وألقته في اليم، وقيل في معنى ذلك: إن الله تعالى أوحى إليها أن ترضعه؛ فإذا أحسَّتْ بمجيء عيونِ فرعونَ الذين يقتّلون الأبناء، وخافت أن يبكيَ فيعلموا به؛ أن تضعَه في تابوتٍ وترسلَه في اليمّ؛ فإذا اطمأنّت سحبت الحبلَ فأخرجته، فكانت تفعل ذلك، حتى جاء أمر الله، فنسيت أن تقيِّدَ وِثَاقَ التابوت، ثم فَطِنَتْ، فذهبت تطلبه، فوجدته قد غاب عن العين، وذهب في البحر، فأصبح فؤادُها حينئذ فارغًا من كل شيء إلا من ذكر موسى {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 10].
يدبر الله هلاك فرعونَ وقومِه بأيديهم، ويمكث في كنفهم مِن عُمُره سنين مَن يُهلِكُهُم اللهُ ببعثته، وينجو وحيدا من بين الأطفالِ ليكون لهم عدوا وحزنا.
وقالت أم موسى لأخت موسى قصي خبره واتبعي أثره، فبصرت به عن بعد كيلا يعلم أنها تبحث عنه وتلحظه.. وأراد الله تعالى أن تقرَّ عين أم موسى ولا تحزن ولتعلم أن وعده تعالى حق، فحرّم عليه المراضع، حتى أتت أخته وَعَرَضَت عليهم: {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} [طه: 40].
ثم كان ما كان من أمر رسالته، حتى جاء أجل النصر الذي إذا جاء لا يؤخر، فجعل اللطيف الخبير البحر طريقا يبسا لموسى عليه السلام ومن معه، لا يخاف دركا ولا يخشى، وجعله لعدوهم عذابا وهلاكا.
لقد نصر الله موسى وقومه، وتمت عليهم كلمة ربك الحسنى بما صبروا، وقد قال لهم موسى من قبل: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]، فصبروا فكانت عاقبة أمرهم رشدا، أنجاهم الله، وكذلك ينجي المؤمنين؛ فهل يظن المؤمنون اليوم أن يعمَّروا في الذل والتبعية لأعدائهم؟!
وهل يظن الجبارون الظالمون وهم في سكرة القوة ساهون: أنهم مانعتهم حصونهم من الله، أو أن سنن الله ستحابيهم؟ وأنَّ يومَ الظالمين قد ولَّى وهو يومٌ عقيم؟!
ذلكم كلُّه ظنُّ الذين خابوا وخسروا، ظنُّ السوء ظنُّ الجاهلية، فويلٌ للذين أساؤوا الظنَّ بربهم من الهوان والعذاب.
فالله ناصرٌ دينه، ومعلٍ كلمته، ومتمٌّ نوره، فلتطمئنّ قلوب المؤمنين، ولينصروا الله ينصرهم، وليصدقوه ينجز لهم ما وعدهم، وليخشوه يعزّهم، وليرضوا عنه يرض عنهم ويرضهم.. قد قلت ما أسلفت، إن صوابا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله الخبيرِ اللطيف، والصلاةُ والسلام على ذي الخلق العظيم والنسب الشريف، محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه أما بعد:
ففي يوم عاشوراء من سنة إحدى وستين من الهجرة نزل بالمسلمين مصابٌ جلل، حَدَثَ جراءَه فتنٌ عظيمة، إنه مقتل الصحابي الجليل: الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن أبيه وأمه، حبِّ رسول الله r وسبطه وريحانتِه، وسيدِ شباب أهل الجنة هو وأخوه الحسن t.
قتل t مظلوما بعد حياة عامرة بالبرِّ والتقوى، وكان من خبره أنه لما مات معاوية t سنة ستين من الهجرة بويِع لابنه يزيد؛ إذ عهد بالأمر إليه، فكتبَ أهلُ الكوفة إلى الحسين t أن قد فشا الظلم، وفسد الأمر؛ فائتنا نبايعْك؛ فأرسل إليهم ابنَ عمه مسلمَ بنَ عقيلِ بنِ أبي طالب، يأخذُ البيعة له منهم، ثم خرج بعده يوم التروية من مكة قاصدا الكوفة، فنهاه من علم بأمره من الصحابة، كابن عباس رضي الله عنهما، وابن الزبير رضي الله عنهما الذي نهاه وقال له: "أين تذهب؟ إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك؟!" وحدَّثه عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، فأصرّ على خروجه، فاعتنقه وبكى، وقال: أستودعك الله من قتيل. وقال عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: "عجّل الحسين قَدَرَه، والله لو أدركته ما تركته يخرج إلا أن يغلبني".
وحين أقبل على الكوفة بلغه مقتل رسوله مسلم بن عقيل، فتوجه نحو الشام إلى يزيدَ بن معاوية، فلقيته خيول والي العراق عبيدالله بن زياد، فأرادوا قتله، وخذله أهل الكوفة الذين كتبوا له ووعدوه بنصرته، فناشدهم أن ينزلوه على إحدى ثلاث: أن يسيّروه إلى أمير المؤمنين يزيد، فيضعَ يدَه في يده، أو ينصرفَ من حيث جاء فيرجعَ إلى المدينة، أو يلحقَ بثغر من ثغور المسلمين، فأبوا عليه إلا أن ينزل على حكم عبيدالله بن زياد، وسمع أحدُ قادة ابن زياد ما عرضه الحسين، فقال: ألا تقبلون هذا؛ والله لو سألكم هذا التركُ والديلم ما حلّ لكم أن تردّوه.
فقاتلوه وهم بضعة آلاف، وهو ومن معه بضعةٌ وثمانون رجلا، حتى قتل رضي الله عنه وأرضاه، وقتل معه أربعة من إخوته، وخمسة من أبنائه، وبعض بني أخيه الحسن (وكان أمر الله قدرا مقدورا).
ولما قتل الحسين t حُمل رأسه إلى ابن زياد بالكوفة، فَجُعِلَ فِي طَسْتٍ، فَجَعَلَ يَنْكُتُ بعود في يده، فقال له زيد بن أرقم t: ارفع يدك، فإني رأيت رسول الله r يقبل حيث تنكت، ثم حمل نساؤه وبناته إلى يزيد بن معاوية في الشام، فلما دخلن على أهل يزيد سُمِع البكاء للقرابة التي كانت بينهن، وأظهر يزيدُ الحزن لمقتل الحسين، ودمعت عيناه وقال كما روي: قد كنت أرضى من طاعتكم بدون مقتل الحسين، لعن الله ابن مرجانة - يعني ابن زياد - لو كان بينه وبين الحسين قرابة ما قتله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن يزيدَ بنِ معاوية: "وجرت في إمارته أمور عظيمة: أحدها مقتل الحسين r، وهو لم يأمر بقتل الحسين، ولا أظهر الفرح بقتله...، لكن أمر بمنع الحسين t وبدفعه عن الأمر ولو كان بقتاله، فزاد النواب على أمره..." إلى أن قال: "وكان قتله t من المصائب العظيمة فإن قتل الحسين، وقتل عثمان قبله كانا من أعظم أسباب الفتن في هذه الأمة وقَتَلَتُهما من شرار الخلق عند الله، ولما قدم أهله y على يزيد بن معاوية أكرمهم وسيرهم إلى المدينة، وروي عنه أنه لعن ابن زياد على قتله. وقال: كنت أرضى من طاعة أهل العراق بدون قتل الحسين؛ لكنه مع هذا لم يظهر منه إنكار قتله، والانتصارُ له والأخذ بثأره كان هو الواجب عليه؛ فصار أهل الحق يلومونه على تركه للواجب، مضافا إلى أمور أخرى، وأما خصومه فيزيدون عليه من الفرية أشياء...". ا. ه.
وقد مات رسول الله - عليه الصلاة والسلام-، وأبو بكر، وقتل عمر t، كما قتل عثمان t محصورا مظلوما، وقتل علي t، وكل هؤلاء أفضل من الحسين، ومع ذلكم لم يقع ما اختلقه بعض الروافض من احمرار الأفق، وكسوفِ الشمس، ونحو ذلك.
وحال المؤمن عند المصائب هو الصبر والاسترجاع، لا النياحة واللطم والابتداع في الدين، كما يغعل الرافضة، وقد قتل أبوه علي t ولم يتخذ المسلمون يوم مقتله مأتما، وقبل ذلك وفاة رسول الله r وأبي بكر، واستشهاد عمر وعثمان t، ولم يجعل المسلمون أيام موتهم موضع نياحةٍ، كما أن أهل السنة والجماعة يسلكون منهج العدل؛ فلا تزر وازرة وزر أخرى، فاللهمّ انتقم ممن قتل سبط رسولك r أو أعان على قتله، أو رضي بذلك.
ولقد قابلت بدعةَ الروافض بدعةٌ أخرى، إما من النواصب المعادين لآل البيت، أو من ذوي جهل أرادوا الرد على الروافض ومخالفتِهم بلا علم، فجعلوا يوم عاشوراء يوم عيد وسرور، ورووا فيه ما لا يصح من مشروعية التوسعة على العيال ونحوه، وكل هذه بدع وضلالات.
بل عاشوراء يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وجنوده، فصامه النبي r وأمر بصيامه شكرا لله تعالى على ذلك، ولم يشرع فيه أكثر من ذلك، فصوموه رحمكم الله، واعرفوا لهذا الشهر حرمته وفضله، واتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم.
وإن يومَكم هذا هو يومُ التاسع حسب ما أعلنَتْ عنه المحكمةُ العليا في هذه البلاد، ويومُ غدٍ السبت هو اليومُ العاشر، والأكمل أن يصامَ هذا اليوم مع يوم غد، ومن لم يصم اليوم فليصم يوم غد السبت، مع اليوم الذي يليه وهو يومُ الأحد؛ لتتحقَّقَ بذلكم مخالفةُ اليهود، ومن قصر عن ذلكم فيكفيه صيامُ يوم السبت الذي هو عاشوراء فحسب، ولا يضره أن لم يصم قبله ولا بعده على الصحيح إن شاء الله - تعالى-، وما ورد من النهي عن إفراد يوم السبت في غير الفريضة فهو حديث شاذّ لا يصحُّ عند جمهور أهل العلم.
اللهم صل وسلم على من بلّغ الرسالة
المشاهدات 1117 | التعليقات 0