عاشوراء، وعاقبة المتقين

د عبدالعزيز التويجري
1444/01/06 - 2022/08/04 13:15PM
الخطبة الاولى   عاشوراء، وعاقبة المتقين.                                  7 / 1 /1444ه
الحمدُ لله الذي أعزَّنا بالدين، وجعلنا خيرَ أمةٍ أخرجت للعالمين، وأشهد ألا إله إلاَّ الله وحدهُ لا شريك له ولي المؤمنين، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله سيدُ الأولين والآخرين-  صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الدعاة المجاهدين وسلم- تسليما.
أما بعد:
 فاتقوا الله معشر المؤمنين ، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى. وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا .
في البلايا والمِحَن يُكشفُ عما في القلوب، ويُظهر مكنونات الصدور {وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ}
 ينتفي بالابتلاءِ الزيفُ والرياء، وتنكشفُ الحقيقةُ والصدقُ معه بجلاء {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ}
الابتلاءُ تطهيرٌ ليس معه زيفٌ ولا دَخَل، وتصحيحٌ لا يبقى فيه غبَشٌ ولا خلل {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}
الابتلاءُ محكٌّ لا يخطئ، وميزانُ لا يظلم، والرخاءُ في ذلك كالشدةِ، والمؤمنُ الصادقُ ثابتُ في السراءِ والضراءِ. {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}
 
 
تفتحُ في القلوبِ منافذَ ما كان ليعلمها المؤمنُ من نفسهِ إلا حين تتعرض للابتلاء، وعند الابتلاءِ يتميزُ الغبشُ من الصفاءِ، والهلعُ من الصبرِ، والصدقُ من الكذبِ، والثقةُ من القنوط.
يتكالبُ الأعداءُ على النبيِ r والذين معه، ويغدرُ اليهودُ، ويخونُ المنافقونَ {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} فيشتدُ البلاءُ بالنبيِ r والذين آمنوا معه، حينها تَعْرضُ لهم صخرة وكدية شديدة فيقومُ النبيُ r وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ، فَأَخَذَ المِعْوَلَ فَضَرَبَ، فَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ , فُتِحَتْ فَارِسُ» , ثُمَّ ضَرَبَ أُخْرَى فَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ , فُتِحَتِ الرُّومُ» فَعَادَ كَثِيبًا أَهْيَلَ .
في حُلكِ الظلامِ يتراءى النصرَ يتلألأُ، وفي الشدةِ يرى الفرجَ والفجرَ يسطعُ ،
صدق وإيمان ويقين بوعد الله ونصر الله يرونه رأي العين ..
{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}
وفي يومِ عاشوراء لما لحق فرعونُ موسى ومن معه حتى حاصرهم على البحرِ والتقى الجمعان، وتراءت الفئتان{قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}، فقال موسى في شدة البأس والضيق { كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}
  وكم للهِ من لطفٍ خفيٍّ       يدقُ خفاه عن فهم الذكيٍّ
{فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} فعبر عليه موسى ومن معه {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ } فكانة نهاية الطاغية المتجبر المتكبر من تعلى على الله في ألوهيته فقال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعلَى، وَقَالَ: مَا عَلِمتُ لَكُم مِن إِلَهٍ غَيرِي، فكانة نهايته ان أهلكه الله بما كان يفتخر به حين قال {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} فأجرى الله الماء من فوقه {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} وللظالمين أمثالُها ، وما هي من الظالمين ببعيد 0
وحوادثُ التاريخِ ومواقفُ الزمانِ شاهدةٌ على أنه لا يقفُ أحدٌ امامَ دعوةِ الحقِ وشريعةِ ربِ العالمين إلا أذله اللهُ وقصمه ، سُنَّةَ اللَّهِ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا، والقرآن فيه العبر والعبرة لكل مَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ.
لا تهيئ كفني يا عاذلي فأنا      لي مع الفجر مواثيق وعهد
وأين سراج النجم من نفخة الشهبِ؟! وأين ضياء الشمس من رمية الحجرِ؟!
فالإسلام كالشمس لا يغرب في مكان إلا أضاء في آخر ، فإن تخلى عنه قوم وضعفوا عن حمله ، خذلوا ووههنوا  واستبد الله النصر والتمكين بغيرهم، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ }،
 فحينما سقطت غرناطة -دولة المسلمين بالأندلس- عندما تهاونوا بأمر الله وذلوا للنصارى، في نفس الوقت كان سليمان القانوني يدق أسوار النصارى شرقاً ..
وما سارت الضعينة من مكة إلى الحيرة آمنة لا تخاف إلا الله إلا بعد ان قتل خمسمائة من قراء الصحابة في اليمامه،  وما عم الرخاء في زمن عمر بن العزيز، فكان الرجل يخرج بصدقته فلا يجد من يقبلها إلا بعد إقامة العدل ورد المظالم..
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
حينما يؤمن الإنسان إيماناً صادقا ، بأن وعد الله حق ، فإن جواذب الإيمان ترفعه عن الالتفات إلى موطن الذلة والخنوع ، وتدفعه إلى العمل لنصرة الحق وإعلاء شريعة الله ، والصبر على الشدائد ، فما يولد المولود إلا بعد شدائد وآلام ، وما يطلع الفجر إلا بعد الظلام .
فما يسبح الإنسان في لُج غَمرةٍ    من العز إلا بعد خوض الشدائدِ
قال ربنا عز وجل: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان للاوابين غفورا.
 
 
 
 
 
الخطبة الثانية ... الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أخرج البخاري ومسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ قَدِمَ رَسُولَ اللهِ r الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا، يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ لَهُمْ: «مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟» فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، أَنْجَى اللهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا، فَنَحْنُ نَصُومُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ r : «فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ فَصَامَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ» وقال «لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ» يَعْنِي مع العاشر. وصيامه يكفر ذنوب سنة.. في صحيح مسلم" وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ»
ويستحب حث الصغار واهل البيت على صيامه، قالت الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ r غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ، الَّتِي حَوْلَ الْمَدِينَةِ: «مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا، فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ» فَكُنَّا، بَعْدَ ذَلِكَ نَصُومُهُ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا الصِّغَارَ مِنْهُمْ إِنْ شَاءَ اللهُ، وَنَذْهَبُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهَا إِيَّاهُ عِنْدَ الْإِفْطَارِ " متفق عليه.
وشهر محرم من الأشهر الحرم ، قَالَ عليه الصلاةوالسلام: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ، بَعْدَ رَمَضَانَ، شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ، بَعْدَ الْفَرِيضَةِ، صَلَاةُ اللَّيْلِ»
اللهم اهدنا للحق ورزقنا الثبات عليه وأعذنا من مضلات الفتن.. اللهم كما أنجيت موسى وقومه فأنجِ المسلمين المستضعفين في كل مكان من فراعنة هذا الزمان، يا قوي ياجبار .. اللهم آمنا في دورنا واصلح ولاة أمورنا .. اللهم اجعلهم نصرة للحق وأهله وحربا على الباطل واهله
المرفقات

1659608145_عاشوراء وعاقبة المتقين.docx

1659608148_عاشوراء وعاقبة المتقين.pdf

المشاهدات 1395 | التعليقات 0