عَاشُورَاءَ، وَشَيءٌ مِنْ عِبَرِ قِصَّةِ مُوسَى عَلَيهِ السَّلامُ
مبارك العشوان 1
إنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيْهِ، وَنَعُوْذُ بِهِ تَعَالَى مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى أيُّهَا النَّاسُ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
عِبَادَ اللهِ: شَهْرُنَا هَذا أحَدُ الأشْهُرِ الحُرُمِ، وَعَنْ صَومِهِ يقولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
أمَّا عَنِ العَاشِرِ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ؛ فَهُوَ يَومُ عَاشُورَاءَ؛ وَفِيهِ وَقَعَ حَدَثٌ عَظِيمٌ، وَنَصْرٌ لِلمُؤمِنينَ مُبِينٌ، وَذُلٌ للطُّغَاةِ الكَافِرِينَ، أعْلَى اللهُ تَعَالَى فِيهِ الحَقَّ وَأظْهَرَه، وَأزْهَقَ البَاطِلَ وَدَحَرَهُ، نَصَرَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ عَلى عَدُوِّهِ فِرْعَونَ وَجُنُودِه.
وَقِصَّةُ مُوسَى وَفِرْعَونَ مِنْ أَشْهَرِ مَا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى مِنْ قَصَصِ أَنْبِيَائِهِ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ؛ وَفِيهَا ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ، وَعِبَرٌ لِلمُعْتَبِرِينَ: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } يوسف111
أَمَّا قِصَّةُ مُوسَى عِلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ؛ فَلِعِظَمِهَا وَكَثْرَةِ عِبَرِهَا؛ وَرَدَتْ فِي القُرْآنِ الكَرِيْمِ كَثِيرًا، فَجَاءَتْ مَبْسُوطَةً مُفَصَّلَةً فِي مَوَاضِعَ؛ كَمَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَطَهَ، وَالشُّعَرَاءِ وَالْقَصَصِ، وَجَاءَتْ مُخْتَصَرَةً مُجْمَلَةً فِي مَوَاضِعَ أُخْر؛ وَمِنْ أَخْصَرِهَا قُولُهُ تَعَالى: { وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ، فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ }الذاريات 38 – 40
عِبادَ اللهِ: أَلَا وَإِنَّ مِنْ أَبْرَزِ الْعِبَرِ فِي هَذِهِ القِصَّةِ: بَيَانُ كَمَالِ قُدْرَةِ اللهِ جَلَّ وَعَلا؛ يُصَرِّفُ الكَونَ كَيفَ يَشَاءُ؛ جَعَلَ البَحْرَ لِمُوسَى طَرِيقًا يَبَسًا، ولِفِرْعَونَ هَلَاكًا وغَرَقًا؛ فَسُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: { إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } يس 82 خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، وبِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ.
ومِنْ أَبْرَزِ الْعِبَرِ فِي هَذِهِ القِصَّةِ: أنَّ النَّصْرَ بِيَدِ اللهِ جَلَّ وَعَلَا وَهُوَ نَاصِرٌ أَوْلِيَاءَهُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } غافر 51 لَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، الخَلْقُ خَلْقُهُ وَالمُلْكُ مُلْكُه؛ { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } آل عمران 27 – 27
عِبَادَ الله: وَقَدْ يَتَخَلَّفُ النَّصْرُ عَنِ المُؤمِنِينَ زَمَنًا يُقَدِّرُهُ اللهُ عَزَّ وجلَّ؛ وَلِحِكْمَةٍ يُرِيدُهَا سُبْحَانَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: { وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ }آلِ عِمْرَانَ 140- 141
وَقَد يَتَخَلَّفُ النَّصْرُ لِأسْبَابٍ مِنَ العِبَادِ؛ كَالعُجْبِ بِالقُوَّةِ وَالاغْتِرَارِ بِهَا، وَكَالتَّقْصِيرِ فِي الوَاجِبَاتِ وارتِكَابِ المُحَرَّمَاتِ، وَتَرْكِ الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنكَرِ؛ قَالَ تَعَالَى: { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } الحج 40 -41
أَلَا فَتَنَبَّهُوا أيُّهَا النَّاسُ لِهَذَا، وَحَاسِبُوا أنْفُسَكُم؛ قُومُوا لِلهِ تَعَالَى بِمَا أَمَرَكُم؛ يُنْجِزْ لَكُم مَا وَعَدَكُم؛ { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } النور 55 يَقُولُ الإمُامُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: فَهَذَا مِن آياتِ اللهِ العَجِيبَةِ البَاهِرَةِ، وَلَا يَزَالُ الأمْرُ إِلى قِيَامِ السَّاعَةِ، مَهْمَا قَامُوا بِالإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، فَلَا بُدَّ أنْ يُوجَدَ مَا وَعَدَهُم اللهُ، وَإِنَّمَا يُسَلِّطُ عَلَيْهِمُ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ، وَيُدِيْلُهُم فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ، بِسَبَبِ إِخْلَالِ المُسْلِمِينَ بِالإيمانِ والعَمَلِ الصَّالِح. أ هـ
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيْمِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيْهِ مِنَ الْآيِ وَالذِّكْرِ الحَكِيْمِ، وَأَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ الجَلِيْلَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ للَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، أَمَّا بَعْدُ: فَاعلَمُوا وَفَّقَكُمُ اللهُ أنَّ هُنَاكَ أُمُورًا تَتَعَلَّقُ بِيَومِ عَاشُورَاءَ: فَمِنهَا: اسْتِحْبَابُ صِيَامِهِ، يَقُولُ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: ( وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ ). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْهَا: أَنْ يُصَامَ التَّاسِعُ مَعَهُ، لِتَحْقِيقِ مُخَالَفَةِ اليَهُودِ؛ فَإِنْ لَمْ يُفْعَلْ فَالحَادِيَ عَشَر؛ لِقَولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْهَا أنَّهُ لَا يُشرَعُ فِي عَاشُورَاءَ وَلَا فِي غَيرِهِ أيُّ عَمَلٍ لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمِ؛ والذي ثَبَتَ فِي هَذَا اليومِ إنَّمَا هُوَ الصِّيام.
وَمِنْهَا: تَعْوِيدُ الصِّبيَانِ صِيامَ ذلكَ اليَومِ: تَقُولُ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ رضي الله عنها: ( فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا وَنَجْعَلُ لَهُمْ اللُّعْبَةَ مِنْ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ) رواه البخاري.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ ينَبَغِي لِلمؤمنِ أنْ يَفْرَحَ بِكُلِّ نَصْرِ لِلإِسْلامِ وَأَهْلِهِ، وَخُذْلَانٍ لِلكُفْرِ وَأَهْلِهِ، يَفْرحُ عِندَمَا يَرْتَفِعُ الحَقُّ وَيَظْهَرُ، وَعِنَدمَا يُزهقُ الباطلُ ويُدحَر؛ قال تعالى: { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } الروم.4- 5
وَمِنْهَا: أَنَّ النِّعَمَ تُقَابَلُ بِالشُّكْرِ؛ شُكْرُ القَلْبِ وَشُكْرُ اللِّسَانِ وَشُكْرُ العَمَلِ؛ وَالشُّكْرُ سَبَبٌ لِدَوَامِ النِّعَمِ وَلِلْمَزِيدِ؛ كُلَّمَا تَجَدَّدَتْ لَكَ نِعْمِةٌ، وَانْدَفَعَتْ عَنْكَ نِقْمَةٌ؛ فَأَحْدِثْ لَهَا عِنْدَ ذَلِكَ لِلهِ تَعَالَى شُكْرًا؛ نَصَرَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ فَصَامَ شكرًا للهِ تَعَالى .
جَعَلَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ الشَّاكِرِينَ السُّعَدَاءِ، وَجَنَّبَنَا الشَّقَاءَ وَأَهْلَهُ .
ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: { إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ .... حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ...، اللَّهُمَّ وَانْصُرْ عِبَادَكَ المُوَحِّدِينَ، اللَّهُمَّ وَعَلَيْكَ بِأَعْدَئِكَ يَا قَوِيُّ يَا عَزِيزُ؛ اللَّهُمَّ أَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا...عِبَادَ اللهِ: اُذْكُرُوا اللهَ العَظِيمَ الجَلِيلَ يَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُم وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.