عاشوراء درسٌ في الابتلاءِ والتمكين. 10 / 1 /1445ه
د عبدالعزيز التويجري
الخطبة الاولى: عاشوراء درسٌ في الابتلاءِ والتمكين. 10 / 1 /1445ه
الحمدُ لله الذي أعزَّنا بالدين، وجعلنا خيرَ أمةٍ أخرجت للعالمين، وأشهد ألا إله إلاَّ الله وحدهُ لا شريك له ولي المؤمنين، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله سيدُ الأولين والآخرين- صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الدعاة المجاهدين وسلم- تسليما.
أما بعد:
فاتقوا الله معشر المؤمنين ، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى . وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ .
في صبيحة هذا اليومِ العاشرِ من محرم، أَرْسَلَ النبيُ r إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ: «مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا، فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ» متفق عليه.
وصامه النبي r وبين فضله فقال: وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ» صامَهُ لأن نبيّ اللهِ مُوسَى صَامَهُ شُكْرًا لله، يومَ أن لحق به الطاغيةُ فرعونُ وجنوده الذي قتل بالأمس وصلب من {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} وها هو الآن يحاصر البقيةِ الباقيةِ من المؤمنين، لِيُنهي بزعمه الإسلام، ويطمسَ بجبروته نور الإيمان من الأرض ، وهذا عملُ كلِ طاغيةِ في الأرض {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} فيقتربُ الطاغيةُ من موسى وقومِهِ، حتى التقى الجمعان، وتراءت الفئتان، فضاق على الموحدين الحال، واشتد عليهم الكرب وتنقطع بهم الأسباب {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}، سيدركنا فرعون ويقطع أيدينا وأرجلنا من خلاف، وفي شدةِ البأسِ والضيقِ ينطقُ من وثِقَ بوعدِ ربهِ، وملأ اليقينُ أرجاءَ قلبهِ {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}
وكم للهِ من لطفٍ خفيٍّ يدقُ خفاه عن فهم الذكيٍّ
{فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} فعبر عليه موسى ومن معه {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ } فكانت نهاية الطاغية المتجبر المتكبر من تعلى على الله في ألوهيته فقال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعلَى، وَقَالَ: مَا عَلِمتُ لَكُم مِن إِلَهٍ غَيرِي، فكانة نهايته ان أهلكه الله بما كان يفتخر به حين قال {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} فأجرى الله الماء من فوقه {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} ، {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، ويصدق وعد الله {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا}، {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}.
يُخلِدُ اللهُ هذا الدرسَ العظيم، ويكررهُ في كتابهِ الكريمِ، تبصرةً وذِكْرَى على أنه لا يقفُ أحدٌ امامَ دعوةِ الحقِ وشريعةِ ربِ العالمين إلا أذله اللهُ وقصمه {سُنَّةَ اللَّهِ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}.
لا تهيئ كفني يا عاذلي فأنا لي مع الفجر مواثيق وعهد
وأين سراجُ النجمِ من نفخةِ الشهبِ؟! وأين ضياءُ الشمسِ من رميةِ الحجرِ؟!
في البلايا والمِحَن يُكشفُ عما في القلوب، ويُظهر مكنونات الصدور {وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ}
ينتفي بالابتلاءِ الزيفُ والرياء، وتنكشفُ الحقيقةُ والصدقُ معه بجلاء {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ}
الابتلاءُ تطهيرٌ ليس معه زيفٌ ولا دَخَل، وتصحيحٌ لا يبقى فيه غبَشٌ ولا خلل {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}
الابتلاءُ محكٌّ لا يخطئ، وميزانُ لا يظلم، والرخاءُ في ذلك كالشدةِ، والمؤمنُ الصادقُ ثابتُ في السراءِ والضراءِ. {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}
الابتلاء يفتحُ في القلوبِ منافذَ ما كان ليعلمها المؤمنُ من نفسهِ إلا حين تتعرض للابتلاء، وعند الابتلاءِ يتميزُ الغبشُ من الصفاءِ، والهلعُ من الصبرِ، والصدقُ من الكذبِ، والثقةُ من القنوط.
يتكالبُ الأعداءُ على النبيِ r والذين معه، ويغدرُ اليهودُ، ويخونُ المنافقونَ {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} فيشتدُ البلاءُ بالنبيِ r والذين آمنوا معه، حينها تَعْرضُ لهم صخرة وكدية شديدة فيقومُ النبيُ r وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ، فَأَخَذَ المِعْوَلَ فَضَرَبَ، فَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ , فُتِحَتْ فَارِسُ» , ثُمَّ ضَرَبَ أُخْرَى فَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ , فُتِحَتِ الرُّومُ» فَعَادَ كَثِيبًا أَهْيَلَ .
صدق وإيمان ويقين بوعد الله ونصرهِ يرونه رأي العين ..
{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان للاوابين غفورا.
الخطبة الثانية ... الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين....
في حُلكِ الظلامِ يُتَراءى النصرُ يتلألأُ، وفي الشدةِ يُرى الفرجُ والفجرُ يسطعُ ،
وأين سراجُ النجمِ من نفخةِ الشهبِ؟! وأين ضياءُ الشمسِ من رميةِ الحجرِ؟!
الإسلامُ كالشمسِ لا يغربُ في مكانٍ إلا أضاءَ في آخر ، فإن تخلى عنه قومٌ وضعفوا عن حملهِ ، استبد الله النصر والتمكين بغيرِهم، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ }، {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}.
فحينما سقطت غرناطة دولةُ الإسلامِ بالأندلس، في الوقت نفسِهِ كان سليمانُ القانوني يدق أسوارَ النصارى شرقاً، ثم يعقُبه محمد الفاتح فيقيم دولةَ الإسلام في قعرِ عاصمةِ النصارى القسطنطينية.
وما سارت الضعينةُ من مكةَ إلى الحيرةِ آمنةً لا تخافُ إلا الله إلا بعد مجاهدة وصبر وابتلاء ، وما عم الرخاءُ في زمنِ عمرُ بن العزيز، فكان الرجلُ يخرج بصدقتهِ فلا يجدُ من يقبلَها إلا بعد إقامةِ العدلِ وردِ المظالم..
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
حينما يؤمن الإنسان إيماناً صادقا بأن وعد الله حق، فإن جواذب الإيمان ترفعه عن الالتفات إلى موطن الذلة والخنوع، وتدفعه إلى العمل لنصرة الحق وإعلاء شريعة الله، والصبر على الشدائد، فما يولد المولود إلا بعد شدائد وآلام، وما يطلع الفجر إلا بعد الظلام.
فما يسبح الإنسان في لُج غَمرةٍ من العز إلا بعد خوض الشدائدِ
قال ربنا عز وجل: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}
اللهم اهدنا للحق ورزقنا الثبات عليه وأعذنا من مضلات الفتن.. اللهم كما أنجيت موسى وقومه فأنجِ المسلمين المستضعفين في كل مكان.. اللهم آمنا في دورنا واصلح ولاة أمورنا .. اللهم اجعلهم نصرة للحق
المرفقات
1690443090_عاشوراء درسٌ في الابتلاءِ والتمكين.docx
1690443121_عاشوراء درسٌ في الابتلاءِ والتمكين.pdf