ظلمُ الميراثِ*
محمد محمد
ظلمُ الميراثِ-3-7-1446هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري
الحمدُ للَّهِ حمدًا كثيرًا طيِّبًا مبارَكًا فيهِ مبارَكًا عليْهِ كما يحبُّ ربُّنا ويرضى.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ-صلى اللهُ وَسَلَّمَ وبَارَكَ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ-.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَـمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، أَمَّا بَعْدُ: فيا إخواني الكرامُ:
فِي وَسَطِ غَزوةِ أُحُدٍ العظيمةِ، وبَينَ تِلكَ الأَحدَاثِ الكبيرةِ، يَتَذَكَّرُ النَّبيُّ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ-رُجلًا مِن أَصحَابِهِ، فَيَقُولُ لِزَيْدِ بنِ ثَابِتٍ-رَضِيَ اللهُ عَنهُ-: "اُطْلُبْ سَعْدَ بنَ الرَّبِيْعِ، فَإِنْ رَأَيْتَهُ، فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: يَقُوْلُ لَكَ رَسُوْلُ اللهِ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ يَقُولُ: فَطُفْتُ بَيْنَ القَتْلَى، فَأَصَبْتُهُ وَهُوَ فِي آخِرِ رَمَقٍ، وَبِهِ سَبْعُوْنَ ضَرْبَةً، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: عَلَى رَسُوْلِ اللهِ السَّلَامُ وَعَلَيْكَ، قُلْ لَهُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، أَجِدُ رِيْحَ الجَنَّةِ، وَقُلْ لِقَوْمِي الأَنْصَارِ: لَا عُذْرَ لَكُم عِنْدَ اللهِ إِنْ خُلِصَ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ-وَفِيْكُم عَينٌ تَطْرُفُ، ثُمَّ فَاضَتْ نَفْسُهُ".
تَرَكَ سَعدٌ-رَضِيَ اللهُ عَنهُ-زَوجَتَهُ وابنَتيهِ، فَحَزِنَا عَلى فِرَاقِهِ أَشَدَّ الحُزنِ، وَزَادَ مُصِيبَتَهُم مَا حَدَثَ لَهُم مِن الظَّلمِ، فَمَا الذي حَدَثَ؟ ...
"جَاءَتْ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ إِلَى رَسُولِ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ-بِابْنَتَيْهَا مِنْ سَعْدٍ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ فِي أُحُدٍ شَهِيدًا، وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا، فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالًا، وَلَا يُنْكَحَانِ إِلَّا وَلَهُمَا مَالٌ، فَقَالَ: يَقْضِي اللهُ فِي ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ-إِلَى عَمِّهِمَا، فَقَالَ: أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وَأُمَّهُمَا الثُّمُنَ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ".
بِبَركَةِ أَمَثَالِ هَؤلاءِ الشَّهَدَاءِ، تَتَنزَّلُ آيَاتُ العَدلِ مِنَ السَّمَاءِ، فَبِنُزُولِ آيَاتِ المَوَاريثِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ أُسدِلَ السِّتَارُ عَلى قَصَصِ مِنَ الظُّلمِ دَامَتْ عَلى مَدَى دُهُورٍ وسِنِينَ، فقَد حُرِمَ فِي الجَاهِليَّةِ مِن المِيرَاثِ كَثيرٌ مِنَ النَّساءِ والبَنَاتِ والبَنِينَ، بِحُجَّةِ أَنَّهُ لا يَستَحِقُ المِيراثَ إلا الرجلُ الذي قَاتَلَ عَلَى ظُهُورِ الخَيلِ، وَطَاعَنَ بِالرُّمحِ، وَضَارَبَ بِالسَّيفِ، وَحَازَ الغَنِيمَةَ.
إخواني: إنَّ اللهَ-تَعالى-هُو الذي تَولَّى بِنَفسِهِ تَوزيعَ المِيرَاثِ عَلى أَصحَابِ الحُقُوقِ، وجَعَلَها فَرِيضَةً يَجِبُ العَمَلُ بِهَا عَلى كُلِّ مَخلُوقٍ، (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)، وسَمَّاهَا حُدُودًا حَتَى يَقِفَ عِندَهَا المُطيعُ فَيُؤْجَرَ، وَمَن تَجَاوزَهَا فَفِي نَارِ جَهَنَمَ يُسْجَرُ، فَقَالَ-سُبحَانَهُ-: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ*وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ).
والعَجِيبُ أَنَّنَا ما زِلنَا نَسمَعُ فِي هَذَا الزَّمانِ، أَنَّ هَنَاكَ مَن يَتَلاعَبُ فِي حُدُودِ الرَّحمَنِ، فَيَأَكُلُ مِيرَاثَ الإخوانِ والأَخَواتِ، أَو يَنتَقِصُ حُقُوقَ الأَيتَامِ والزَّوجَاتِ، بِطُرُقٍ مِنَ المَكرِ والدَّهَاءِ والاحتِيَالِ، وحُجَجٍ بَاطِلَةٍ لِيَأَخُذَ العَقَارَ والأَموَالَ، فَأَينَ سَيَذهَبُ مِن القَويِّ الكَبيرِ المُتَعالِ، يَقُولُ أَحدُهم: "بَعدَ أَن مَاتتْ أَمي بِسِنِينَ، دَعَاني خَالي وهُو فِي سَكَراتِ المَوتِ، فَأَخرَجَ لِي مَالًا كَثيرًا وَقَالَ لي: هَذا مِيراثُ أُمِّكَ مِن أَبينَا قدْ حَرمتُهَا مِنهُ، فَخُذهُ لَكَ ولإخوَتِكَ، فَقَالَ لَهُ: اتْرُكْهُ عِندَكَ فَلا حَاجَةَ لَنَا بِهُ، فَإنَّ أَمي قَد أَخبَرتنَا أَنَّها تَنتَظِرُكَ عِندَ اللهِ-تَعالى-يومَ القيامةِ؛ لِتَأَخُذَ حَقَّهَا".
وَمِن الظُّلمِ الذي يَقَعُ مِنَ الـميِّتِ قَبلَ مَوتِهِ فِي المِيرَاثِ أَن يَخُصَّ بَعضَ الوَرَثَةِ بِوَصيَّةٍ، وَقَد قَالَ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ"، أَو يَخُصَّ بَعضَ الأَبنَاءِ والبَنَاتِ بِعَطَاءٍ قَبلَ وَفَاتِهِ، مِن مَالِهِ أو أَرَاضِيهِ أو شَرِكَاتِهِ أَو عَقَارَاتِهِ، وَقَد "جَاءَ رَجُلٌ لِيُشهِدَ النَّبيَّ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ-عَلى عَطِيَّتِهِ لِوَلَدِهِ، فَقَالَ: أفعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِك كُلِّهم؟ (أعطيتَهم كلَّهم) قَالَ: لا، قَالَ: فَلا تُشهِدْني إذَنْ؛ فَإنِّي لا أَشهَدُ عَلى جَورٍ (ظُلْمٍ)"، تَقُولُ إحدَاهُنَّ: "واللهِ لا أَستَطيعُ أَن أَترَّحَمَ عَلى أَبي، ولا أَدعُو لَه بِالـمَغْفِرةِ، كُلَّمَا تَذَكَّرتُ أَنَّهُ ظَلَمَني فِي الـمِيرَاثِ، وَسَجَّلَ العَقَاراتِ باسمِ إخواني الذُّكورِ، وبَدَلَ أَن يُواسُوني وَيَكُونُوا لِي أَبًّا بَعَدَ الأَبِّ، وَجدتُ نَفسِي وَحِيدَةً أَصَارِعُ غَلاءَ الإيجَارَاتِ، وأُقَاتِلُ الفَقرَ حَتى أَجِدَ لُقمَةَ الحَياةِ".
إخواني: مِنَ الظُّلمِ الذي يَقَعُ عَلى الأَخَوَاتِ، أَن تُحرَمَ مِن الأَراضِي والعَقَاراتِ، بِحُجَّةِ أَنَّ هَذِهِ أَملاكٌ خَاصَةٌ بالرِّجَالِ، أَو أَنَّ زَوجَهَا وأَولادَهَا لَيسوا مِن العَائلَةِ أَو القَبيلَةِ، (قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ)؟ ومِنهُم مَن يَأكُلُ أَموالَ الصِّغَارِ، لأَنَّهُم لا يتصرفونَ فيها كالكبارِ، وَقَد قَالَ النَّبيُّ-صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ-: "اللَّهُمَّ إنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَينِ: اليَتِيمِ وَالمَرْأةِ"، يَعنَي: أُلْحِقُ الحَرَجَ (الإثْمَ) بـِمَنْ ضَيَّعَ حَقَّهُمَا، وَأُحَذِّرُ مِنْ ذلِكَ تَحْذِيرًا بَليغًا، وَأزْجُرُ عَنْهُ زجرًا أكيدًا، وَمَن لَم يَرتَدِعْ فَوَيلٌ لَهُ ثُمَّ وَيلٌ لَهُ مِنَ النَّارِ: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا).
إخواني: إنَّ مِنَ الخَطَأِ التَّأَخُرَ فِي قِسمَةِ المِيراثِ بَعدَ العَزاءِ، خَاصَّةً إن كَانَ هُنَاكَ مُحتَاجُونَ فِي الوَرَثَةِ مِن رِجَالٍ ونِسَاءٍ، فَتَجِدُ الأَخَ الأَكبَرَ وَهُوَ فِي خَيرٍ وَسَعَةٍ يَنتَظِرُ ارتِفَاعَ العَقَارِ، وإخوَانُهُ وأَخوَاتُهُ بِينَ غلاءِ الأسعارِ وارتفاعِ الإيجَارِ، واسمَعْ إلى أَنينِ المَحَاكِمِ مِن قَضَايا القَطِيعَةِ والخِصَامِ، بِينَ الآبَاءِ والأَبنَاءِ والأَشِقَّاءِ وَذَوي الأَرحَامِ، وَصَدَقَ اللهُ-تَعَالى-: (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا)، تَأَكلُونَ المِيرَاثَ أَكلًا شَدِيدًا.
أستغفرُ اللهَ لي ولكم وللمسلمينَ...
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ كما يحبُ ربُنا ويرضى، أَمَّا بَعْدُ:
فَالحَذَرَ الحَذَرَ مِنَ الاعتِدَاءِ عَلى مِيرَاثِ الضُّعفَاءِ، فَإنَّ لَكُم وإيَّاَهُم بَينَ يَدي اللهِ لِقَاءٌ، قالَ رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: "أَتَدْرُونَ ما الـمُفْلِسُ؟ قالوا: الـمُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ: إنَّ الـمُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ (انتهتْ) حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ."
اللَّهمَّ إنِّا نسألُكَ بأنَّ لَكَ الحمدُ، وأَنَّا نَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ، لا إلَهَ إلَّا أنتَ، الْأَحَدُ، الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، المنَّانُ، بديعُ السَّمواتِ والأرضِ، ياذا الجلالِ والإِكرامِ، يا حيُّ يا قيُّومُ.
اللَّهُمَّ أصلحْ وُلاةَ أُمورِنا وأُمورِ المسلمينِ وبطانتَهم، ووفقهمْ لرضاكَ، ونَصرِ دِينِكَ، وإعلاءِ كَلمتِكَ.
اللَّهُمَّ انصرْ جنودَنا المرابطينَ، ورُدَّهُم سالـمينَ غانـمينَ.
اللَّهُمَّ الطفْ بنا وبالمسلمينَ على كُلِّ حالٍ، وبَلِّغْنا وإياهُم من الخيرِ والفرجِ والنصرِ منتهى الآمالِ.
اللَّهُمَّ أحسنْتَ خَلْقَنا فَحَسِّنْ أخلاقَنا.
اللَّهُمَّ إنَّا نسألك لنا ولوالدِينا وأهلِنا والمسلمينَ من كلِّ خيرٍ، ونعوذُ ونعيذُهم بك من كلِّ شرٍ، ونسْأَلُكَ لنا ولهم العفوَ والْعَافِيَةَ، والهُدى والسَّدادَ، والبركةَ والتوفيقَ، وَصَلَاحَ الدِّينِ والدُنيا والآخرةِ.
اللَّهُمَّ يا شافي اِشْفِنا وأهلَنا والمسلمينَ والمسالِمين.
اللَّهُمَّ (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا).
اللَّهُمَّ صلِ وسلمْ وباركْ على نبيِنا محمدٍ، والحمدُ للهِ ربِ العالمينَ.
المرفقات
1735829197_ظلمُ الميراثِ-3-7-1446هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.pdf
1735829197_ظلمُ الميراثِ-3-7-1446هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.docx