ظاهــرة غــلاء الأســعار ...
جابر السيد الحناوي
1432/01/03 - 2010/12/09 06:20AM
بسم الله الرحمن الرحيم
[align=justify]يقول الله عز وجل : " وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّـهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ " ( ) تبين هذه الآية أن الله عز وجل تكفل بالرزق لكل دابة تدب في الأرض ، وهو وحده سبحانه القادر على بسط هذا الرزق وقبضه ، قال سبحانه وتعالي : " اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ " ( ) وبيَّن جل وعلا أنه وحده العالِم بأحوال خلقه وما يصلحهم ، قال سبحانه وتعالي : " أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ " ( ) ومن كمال علمه ، وحكمته وحلمه يختار لعباده ما يصلحهم ولا يفسد حالهم بشقائهم في الدنيا أو بضلالهم في الدين ، قال سبحانه وتعالي : " وَلَوْ بَسَطَ اللَّـهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ " ( )
ثم إنه جل وعلا قد يبتلي الناس ببعض ما كسبوا في أبدانهم أو أرزاقهم أو أمنهم أو ذريتهم ليعلم الصابرين منهم والشاكرين ، وليعلم من يلجأ إليه ويستغيث به ، ممن يلجأ إلى العبيد الذين لا يملكون موتًا ولا حياة ولا نفعًا ولا ضرًا، وليعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك .
ومما يبتلى الله به عباده الغلاء ... غلاء الأسعار وقلة السلع وندرتها ، ولقد كان الحديث خلال العقود الماضية عن الغلاء في جانب واحد فقط هو المهور، لكن مشكلة الغلاء توسعت في كل شيء ، وعمت بلاد العرب من المشرق إلي المغرب ، حتى إنها وصفت بالتسونامي ، وهذا الغلاء الذي بدأ في أسعار مواد البناء والإيجارات ، امتد الآن ليشمل المواد الغذائية وخدمات التعليم والصحة ، فضلاً عن الخدمات المهنية ، والمشكلة ما زالت مستمرة ومتزايدة ، والغلاء يضرب في كل اتجاه وبلا هوادة ، والأوضاع على أرض الواقع مهيأة لمزيد من الارتفاع بمعدلات أعلى من المعتاد.
إن غلاء الأسعار له نتائج ظاهرة من خلال عجز الناس عن توفير حاجاتهم الأساسية والقدرة على شرائها، وله نتائج غير مباشرة من تحول نسبة كبيرة من الطبقة متوسطة الدخل إلى قسم الطبقة الفقيرة ، وسعي بعض الناس للحصول على المال بطرق غير مشروعة كالسرقة والرشوة ، وللشاعر (حافظ ابراهيم) أبيات يقول فيها:
أيها المصلحون ضاق بنا العيش ... ولم تحســنوا عليه القياما
وغـــــــدا القــــــــوت كالياقوت ... حتى نوى الفقير الصياما!
فما هي أسباب هذه المشكلة وما علاجها ؟
يعتقد الناس ـ في الغالب ـ أن أسباب غلاء الأسعار يرجع إلي أسباب دنيوية عديدة ، ولكل سبب نسبة معينة في حدوث تلك المشكلة ، ويصنفون هذه الأسباب إلي أسباب تتعلق بارتفاع أسعار الوقود ، أو تدهور أسعار صرف العملات ، أو انخفاض قيمة النقود ، أو تحول الناس إلي أنماط اسـتهلاكية معينة ، أو زيادة السكان وكثرة الاستهلاك ... الخ هذه الأسباب التي يرجعونها إلي النظريات الاقتصادية التي تعلموها ونقلوها إلينا من الغرب ، والتي لا تستمد من قيمة ثابتة ، ولا تسـير على نهج واضـح ، وتتأرجح بين الانفعالات الطارئة ، والتصورات العارضة ، والاندفاعات مع الأحداث والتيارات .
والباحث المنصف لابد أن يتبين له أن هذه الأسباب المزعومة ليست بأسباب لهذه المشـكلة ، إنما هي في الواقع ظواهـر قد ترتبت علي المشكلة الأم ، وإفرازات تمخضت عنها !!!
إن المسلم يجب أن يخضع كل أموره لميزان الشرع الذي جاء به محمد صلي الله عليه وسلم والذي وصفه ربه عز وجل فقال : " وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى " ( ) فالأمر في السراء والضراء يتبع قانوناً ثابتاً ، ويرجع إلى مشيئة الله سبحانه وتعالي ، فهو الذي ينعم بالرحمة ، ويبتلي بالشدة ؛ ويبسط الرزق ويضيقه وفق سنته ، وبمقتضى حكمته " اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " ( ) فهي إذا أحوال تتعاور الناس وفق حكمة الله ، وفيها للقلب المؤمن دلالة على أن مرد الأمر كله لله ، ودلالة على اطراد السنة ، وثبات النظام .
يقول الله عز وجل : " وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ " ( ) يخبر سبحانه وتعالي أنه ما أصاب العباد من مصيبة في أبدانهم وأموالهم وأولادهم وفيما يحبون ويكون عزيزا عليهم ، إلا بسبب ما قدمته أيديهم من السيئات ، وأن ما يعفو اللّه عنه أكثر، فإن اللّه لا يظلم العباد، ولكن أنفسهم يظلمون " وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ " وليس إهمالا منه تعالى تأخير العقوبات ولا عجزا. ( )
وعن النبي صلي الله عليه وسلم : " ما من اختلاج عرق ولا خدش عود ولا نكبة حجر إلا بذنب ، ولما يعفو الله عنه أكثر " ( )
و عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فَقَالَ : " يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ " ( )
هذه هي الأسباب الحقيقية ـ من وجهة نظر إسلامية ـ للمشاكل الاقتصادية وغيرها مما يعاني منه العالم عامة ، والشعوب المسلمة خاصة ... ذنوب ومعاصي يتسربلون بها ليل نهار ، إعراض عن شريعة الله واستبدالها بما تهوي الأنفس ويرضي الشيطان ، ولوغ الكثيرين في المعاملات المحرمة ، وعدم إخراج الزكاة ، وغير ذلك من صنوف الذنوب والمعاصي ... فأحوال الحياة وأوضاعها مرتبط بأعمال الناس وكسبهم ؛ وأن فساد قلوب الناس وعقائدهم وأعمالهم يوقع في الأرض الفساد ، ويملؤها براً وبحراً بهذا الفساد ، ويجعله مسيطراً على أقدارها ، غالباً عليها ، كما يقرر القرآن الكريم : " ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ..." ( )
فغلاء الأسعار كظاهرة من مظاهر الفساد ، لا يظهر عبثاً ، ولا يقع مصادفة ؛ إنما هو تدبير الله وسنته . . " لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا " ( 3 ) من الشر والفساد ، وكان لابد ـ وهذا من رحمة الله بالعباد ـ أن يحل عليهم جزاء من لم يؤمن بالقرآن ومن لم يعمل بما فيه ، تحقيقا لقوله عز وجل : " وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى "( ) أي أن جزاءه ، بسبب إعراضه عن ذكر ربه وعدم خضوعه له ، أن نجعل معيشته ـ في دار الدنيا ـ ضيقة مشقة ، بما يصيبه من الهموم والغموم والآلام ، والتي منها غلاء الأسعار ومسبباتها. " لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ " ( 3 ) حينما يكتوون بناره ، ويتألمون لما يصيبهم منه ، فيعزمون على مقاومة الفساد ، ويرجعون إلى الله وإلى العمل الصالح وإلى المنهج القويم .
وهكذا فإن الله جل وعلا قد جعل لمن اتبع هداه وتمسك بدينه أن يعيش في الدنيا عيشاً هنياً ، غير مهموم ولا مغموم ولا متعب نفسه ، كما قال سبحانه وتعالي : " فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً " ( ) وجعل لمن لم يتبع هداه وأعرض عن دينه أن يعيش عيشاً ضيقاً وفي تعب ونصب ، ومع ما يصيبه في هذه الدنيا من المتاعب ، فهو في الأخرى أشدّ تعباً وأعظم ضيقاً وأكثر نصباً . ( )
حلول مشكلة غلاء الأسعار:
إن معالجة المشكلة تحمي من التدهور ، وقد راينا أنها تكمن في الإعراض عن شرع الله سبحانه وتعالي ، وإذا كان الله هو الذي يبسـط الرزق ويقبضه ؛ وهو الذي يعطي ويمنع وفق مشيئته ؛ فهو أيضا يبين للناس الطريق الذي تربو أموالهم فيه وتربح ، لا كما يظنون هم ، بل كما يهديهم الله عز وجل ، وبعد ذلك " فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ " ( )
والحمد لله ، فقد بين سبحانه وتعالي في القرآن الكريم الحلول الناجعة لتلك المشكلة ، والتي يمكن إجمالها في قوله عز وجل في سورة نوح عليه السـلام : " فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا " ( )
" فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ " أي : اتركوا ما أنتم عليه من الذنوب، واستغفروا الله منها ،" إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا " كثير المغفرة لمن تاب واستغفر، فرغبهم بمغفرة الذنوب ، وما يترتب عليها من حصول الثواب ، واندفاع العقاب .
وهذا مثل قوله جل وعلا علي لسان هود عليه السلام : " وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ " ( ) فالاستغفار والتوبة النصوح والرجوع إلى الله من عوامل رفع البلاء عن المسلمين يقول عز وجل : " فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ " ( )
وهناك الكثير من الآيات في نفس المعني .
وأما المتتبع للسنة النبوية المطهرة فإنه يجد تفاصيل كثيرة لحل هذه المشكلة منها :
1 ــ رفض التسعير الجبري :
فقد حدث مثل هذا الغلاء في زمن النبي صلي الله عليه وسلم فجاء الناس إليه فقالوا يا رسول الله ، غلا السعر فسعِّر لنا ، فقال صلي الله عليه وسلم : " إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ " ( ) فلم يشأ النبي صلي الله عليه وسلم أن يسعِّر للناس فيغضب التجار أو يغضب غيرهم فيطالبه يوم القيامة بحق إن كان له ، بل ترك الأمر لحرية السوق وعوامل العرض والطلب ، وهي قاعدة اقتصادية لم يعرفها العالم إلا حديثا . ( )
وأهم من ذلك ، أنه صلي الله عليه وسلم أراد أن يربطهم بخالقهم ورازقهم الذي إن شاء فتح لهم بركات من السماء والأرض إذا هم آمنوا بالله واتقوه ، وإن شاء أخذهم لمَّا كذبوا بما كانوا يكسبون ؛ ولهذا ربطهم صلي الله عليه وسلم بخالقهم أن يتوجهوا إلى ربهم قاضي الحاجات ومفرج الكروب والأزمات ، والذي يفرح بسؤال عبده له ، ويغضب على مَن ترك سؤاله ، ويحب من ابتُلي فصبر ، وعف نفسه عن الحرام والنقائص ، ويبشره بالجنة التي هي سلام عليهم بما صبروا ، فيقول صلي الله عليه وسلم : " وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ : ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ " ( )
وقد سار الصحابة رضوان الله عليهم علي هذا الهدي النبوي ، فقد جاء في الأثر أن الناس في زمن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاؤوه وقالوا: نشتكي إليك غلاء اللحم فسعّره لنا.
فقال : أرخصوه أنتم؟
فقالوا: نحن نشتكي غلاء السعر واللحم عند الجزارين، ونحن أصحاب الحاجة فتقول : أرخصوه أنتم ؟ وهل نملكه حتى نرخصه ؟ وكيف نرخصه وهو ليس في أيدينا ؟؟؟
فقال قولته الرائعة : اتركوه لهم.
بل إن الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه يطرح بين أيدينا نظرية أخرى في مكافحة الغلاء ، وهي إرخاص السلعة عبر إبدالها بسلعة أخرى ؛ فعن رزين بن الأعرج مولى لآل العباس ، قال : غلا علينا الزبيب بمكة ، فكتبنا إلى علي ابن أبي طالب بالكوفة أن الزبيب غلا علينا ، فكتب أن أرخصوه بالتمر أي استبدلوه بشراء التمر الذي كان متوافراً في الحجاز وأسعاره رخيصة ، فيقلّ الطلب على الزبيب فيرخص ، وإن لم يرخص فالتمر خير بديل. ( )
2 ــ محاربة احتكار السوق :
وبجانب هذه المبادئ الاقتصادية الغالية من مبادئ اقتصاد السوق ، فإن الإسـلام لم يترك الأمر بلا ضـابط أو رادع أمام ممارسة بعض التجار للاحتكار ، بل جـرَّم الاحتكار وشـجع المنافسة ، فعن معمر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : " مَنْ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ " ( ) فقد سمى النبي صلي الله عليه وسلم المحتكر خاطئاً ، أي آثما ، فالاحتكار حرام ، وعلي أولياء أمور المسلمين أن يسنوا العقوبات الدنيوية المناسبة لجريمة الاحتكار لردع من لا يتعظ بالقرآن ، وفي هذا تصحيح لمفهوم الحرية الاقتصادية ومفهوم اقتصاد السوق ، فالحرية الاقتصادية ـ في ظل الاقتصاد الإسلامي ـ لا تعني أن التاجر حر في ممارسة الاحتكار ووضع الأسعار كيفما يريد .
3 ــ إخراج الزكاة والصدقة : فقد قال صلي الله عليه وسلم : "... مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ ... " ( ) أي : إن نقصت الصدقة المال عددياً فإنها لن تنقصه بركة وزيادة في المستقبل ، بل يخلف الله بدلها ويبارك للمتصدق في ماله ، والواقع يشهد بأن الكثير من الناس قد وجد أثراً عجيباً للصدقة في بركة المال وزيادته.
4 ــ ويتصل بذلك العناية بطلب البركة في المال قبل العناية بالكثرة : قال سبحانه وتعالي : " وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ " ( ) فالتقوى والدعاء بطلب البركة سبب لحصولها، وكذا الإكثار من قراءة سورة البقرة ، قال صلي الله عليه وسلم عنها : " ... اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ ..." ( ) .
5 ــ صلة الرحم :
قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ " ( ) و بسط الرزق توسيعه وكثرته ، وقيل : البركة فيه ، ولا يخفي علي عاقل الرخاء الذي يعيش فيه من وسـع عليه .
6 ــ الاقتصاد في المعيشة والتوسط في النفقة :
الاقتصاد في المعيشة والتوسط في النفقة ، والتخلي عن النمط الاستهلاكي المتأثر بالدعايات التجارية ، يقول الله عز وجل : " وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا " ( ) ويقول سبحانه وتعالي : " وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ " ( )
وتطبيقا لذلك أري أن يتم إعداد موازنة شخصية للموارد والمصروفات وتسجيلها مكتوبة على مستوى الأفراد والأسر للاسترشاد بها في الإنفاق .
7 ـ الثبات علي الاستقامة :
وفي مقابلة الفتن الناجمة عن استشراء الغلاء وعدم استطاعة البعض الحصول علي احتياجاتهم ، وسعيهم للحصول على المال بطرق غير مشروعة كالسرقة والرشوة ، فإن النبي صلي الله عليه وسلم يرشد إلى ما يُمَكِّن الإنسان من الثبات عند الأزمات فيقول : " ... اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ ... " ( )
" اتَّقِ الْمَحَارِمَ " أي احذر الوقوع في جميع ما حرم الله عليك .
" تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ " أي من أعبدهم لما أنه يلزم من ترك المحارم فعل الفرائض ، فباتقاء المحارم تبقى الصحيفة نقية من التبعات ، فالقليل من التطوع مع ذلك ينمو ويعظم بركته ، فيصير ذلك المتقي من أكابر العباد .
" وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ " أي اقنع بما أعطاك لله وجعله حظك من الرزق.
" تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ " فإن من قنع استغنى ، فليس الغنى بكثرة العرض ، ولكن الغنى غنى النفس ، والقناعة غنى وعز بالله عز وجل ، وضدها فقر وذل للغير، ومن لم يقنع لم يشبع أبدًا ، ففي القناعة العز والغنى والحرية، وفي فقدها الذل والتعبد للغير" تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ ..." ( )
فيتعين على كل عاقل أن يعلم أن الرزق بالقسـم والقـدر ، لا بالعلم والعقل ، قال بعض الحكماء ولو جرت الأقسام على قدر العقول لم تعش البهائم .
هذه بعض الحلول لمشكلة الغلاء مستوحاة من شريعة الله تكفل لمن يتمسك بها الحياة الطيبة ورغد العيش يقينا ، مع عدم إغفال الحلول التي تكون قد توصل إليها البشر ، ومن ذلك مثلا : وضع سياسة للحد من التضخم ، ومراقبة الأسواق والأسعار والتجار ومحاسبتهم في حال الخروج علي الشرعية ، وتعزيز الإنتاج المحلي ، وتحقيق الاكتفاء الذاتي ، وزيادة فرص التوظيف الحكومي ، ورفع سعر صرف العملة الوطنية ، و تنويع الاحتياطيات الأجنبية ... إلي غير ذلك من حلول اقتصادية بشرية ثبت جدواها ، مع عدم معارضتها لأصل صحيح في شرع الله ، ولكن مع اليقين الكامل والإيمان المطلق بأن هذه الحلول البشرية لن تؤتي ثمارها إلا بإذن الله .
كل ذك مع عدم إغفال أن التوجه إلي الله عز وجل بالدعاء المتواصل والرجاء فيما عنده سبحانه وتعالي سبيل الحسنى وزيادة ، ومع كثرة الإلحاح والدعاء ؛ يكون الفيض والعطاء ، ومع الانتظار والرجاء يكون الخير والرخاء .
والله نسأل أن يرفع عنا البلاء والغلاء .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين .
(جميع الحقوق متاحة لكافة المسلمين بمختلف الوسائل غير الربحية فإنها تحتاج إلي تصريح كتابي )[/align]
ظاهــرة غــلاء الأســعار ...
الأسباب والعلاج
[align=justify]يقول الله عز وجل : " وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّـهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ " ( ) تبين هذه الآية أن الله عز وجل تكفل بالرزق لكل دابة تدب في الأرض ، وهو وحده سبحانه القادر على بسط هذا الرزق وقبضه ، قال سبحانه وتعالي : " اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ " ( ) وبيَّن جل وعلا أنه وحده العالِم بأحوال خلقه وما يصلحهم ، قال سبحانه وتعالي : " أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ " ( ) ومن كمال علمه ، وحكمته وحلمه يختار لعباده ما يصلحهم ولا يفسد حالهم بشقائهم في الدنيا أو بضلالهم في الدين ، قال سبحانه وتعالي : " وَلَوْ بَسَطَ اللَّـهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ " ( )
ثم إنه جل وعلا قد يبتلي الناس ببعض ما كسبوا في أبدانهم أو أرزاقهم أو أمنهم أو ذريتهم ليعلم الصابرين منهم والشاكرين ، وليعلم من يلجأ إليه ويستغيث به ، ممن يلجأ إلى العبيد الذين لا يملكون موتًا ولا حياة ولا نفعًا ولا ضرًا، وليعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك .
ومما يبتلى الله به عباده الغلاء ... غلاء الأسعار وقلة السلع وندرتها ، ولقد كان الحديث خلال العقود الماضية عن الغلاء في جانب واحد فقط هو المهور، لكن مشكلة الغلاء توسعت في كل شيء ، وعمت بلاد العرب من المشرق إلي المغرب ، حتى إنها وصفت بالتسونامي ، وهذا الغلاء الذي بدأ في أسعار مواد البناء والإيجارات ، امتد الآن ليشمل المواد الغذائية وخدمات التعليم والصحة ، فضلاً عن الخدمات المهنية ، والمشكلة ما زالت مستمرة ومتزايدة ، والغلاء يضرب في كل اتجاه وبلا هوادة ، والأوضاع على أرض الواقع مهيأة لمزيد من الارتفاع بمعدلات أعلى من المعتاد.
إن غلاء الأسعار له نتائج ظاهرة من خلال عجز الناس عن توفير حاجاتهم الأساسية والقدرة على شرائها، وله نتائج غير مباشرة من تحول نسبة كبيرة من الطبقة متوسطة الدخل إلى قسم الطبقة الفقيرة ، وسعي بعض الناس للحصول على المال بطرق غير مشروعة كالسرقة والرشوة ، وللشاعر (حافظ ابراهيم) أبيات يقول فيها:
أيها المصلحون ضاق بنا العيش ... ولم تحســنوا عليه القياما
وغـــــــدا القــــــــوت كالياقوت ... حتى نوى الفقير الصياما!
فما هي أسباب هذه المشكلة وما علاجها ؟
يعتقد الناس ـ في الغالب ـ أن أسباب غلاء الأسعار يرجع إلي أسباب دنيوية عديدة ، ولكل سبب نسبة معينة في حدوث تلك المشكلة ، ويصنفون هذه الأسباب إلي أسباب تتعلق بارتفاع أسعار الوقود ، أو تدهور أسعار صرف العملات ، أو انخفاض قيمة النقود ، أو تحول الناس إلي أنماط اسـتهلاكية معينة ، أو زيادة السكان وكثرة الاستهلاك ... الخ هذه الأسباب التي يرجعونها إلي النظريات الاقتصادية التي تعلموها ونقلوها إلينا من الغرب ، والتي لا تستمد من قيمة ثابتة ، ولا تسـير على نهج واضـح ، وتتأرجح بين الانفعالات الطارئة ، والتصورات العارضة ، والاندفاعات مع الأحداث والتيارات .
والباحث المنصف لابد أن يتبين له أن هذه الأسباب المزعومة ليست بأسباب لهذه المشـكلة ، إنما هي في الواقع ظواهـر قد ترتبت علي المشكلة الأم ، وإفرازات تمخضت عنها !!!
إن المسلم يجب أن يخضع كل أموره لميزان الشرع الذي جاء به محمد صلي الله عليه وسلم والذي وصفه ربه عز وجل فقال : " وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى " ( ) فالأمر في السراء والضراء يتبع قانوناً ثابتاً ، ويرجع إلى مشيئة الله سبحانه وتعالي ، فهو الذي ينعم بالرحمة ، ويبتلي بالشدة ؛ ويبسط الرزق ويضيقه وفق سنته ، وبمقتضى حكمته " اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " ( ) فهي إذا أحوال تتعاور الناس وفق حكمة الله ، وفيها للقلب المؤمن دلالة على أن مرد الأمر كله لله ، ودلالة على اطراد السنة ، وثبات النظام .
يقول الله عز وجل : " وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ " ( ) يخبر سبحانه وتعالي أنه ما أصاب العباد من مصيبة في أبدانهم وأموالهم وأولادهم وفيما يحبون ويكون عزيزا عليهم ، إلا بسبب ما قدمته أيديهم من السيئات ، وأن ما يعفو اللّه عنه أكثر، فإن اللّه لا يظلم العباد، ولكن أنفسهم يظلمون " وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ " وليس إهمالا منه تعالى تأخير العقوبات ولا عجزا. ( )
وعن النبي صلي الله عليه وسلم : " ما من اختلاج عرق ولا خدش عود ولا نكبة حجر إلا بذنب ، ولما يعفو الله عنه أكثر " ( )
و عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فَقَالَ : " يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ " ( )
هذه هي الأسباب الحقيقية ـ من وجهة نظر إسلامية ـ للمشاكل الاقتصادية وغيرها مما يعاني منه العالم عامة ، والشعوب المسلمة خاصة ... ذنوب ومعاصي يتسربلون بها ليل نهار ، إعراض عن شريعة الله واستبدالها بما تهوي الأنفس ويرضي الشيطان ، ولوغ الكثيرين في المعاملات المحرمة ، وعدم إخراج الزكاة ، وغير ذلك من صنوف الذنوب والمعاصي ... فأحوال الحياة وأوضاعها مرتبط بأعمال الناس وكسبهم ؛ وأن فساد قلوب الناس وعقائدهم وأعمالهم يوقع في الأرض الفساد ، ويملؤها براً وبحراً بهذا الفساد ، ويجعله مسيطراً على أقدارها ، غالباً عليها ، كما يقرر القرآن الكريم : " ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ..." ( )
فغلاء الأسعار كظاهرة من مظاهر الفساد ، لا يظهر عبثاً ، ولا يقع مصادفة ؛ إنما هو تدبير الله وسنته . . " لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا " ( 3 ) من الشر والفساد ، وكان لابد ـ وهذا من رحمة الله بالعباد ـ أن يحل عليهم جزاء من لم يؤمن بالقرآن ومن لم يعمل بما فيه ، تحقيقا لقوله عز وجل : " وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى "( ) أي أن جزاءه ، بسبب إعراضه عن ذكر ربه وعدم خضوعه له ، أن نجعل معيشته ـ في دار الدنيا ـ ضيقة مشقة ، بما يصيبه من الهموم والغموم والآلام ، والتي منها غلاء الأسعار ومسبباتها. " لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ " ( 3 ) حينما يكتوون بناره ، ويتألمون لما يصيبهم منه ، فيعزمون على مقاومة الفساد ، ويرجعون إلى الله وإلى العمل الصالح وإلى المنهج القويم .
وهكذا فإن الله جل وعلا قد جعل لمن اتبع هداه وتمسك بدينه أن يعيش في الدنيا عيشاً هنياً ، غير مهموم ولا مغموم ولا متعب نفسه ، كما قال سبحانه وتعالي : " فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً " ( ) وجعل لمن لم يتبع هداه وأعرض عن دينه أن يعيش عيشاً ضيقاً وفي تعب ونصب ، ومع ما يصيبه في هذه الدنيا من المتاعب ، فهو في الأخرى أشدّ تعباً وأعظم ضيقاً وأكثر نصباً . ( )
حلول مشكلة غلاء الأسعار:
إن معالجة المشكلة تحمي من التدهور ، وقد راينا أنها تكمن في الإعراض عن شرع الله سبحانه وتعالي ، وإذا كان الله هو الذي يبسـط الرزق ويقبضه ؛ وهو الذي يعطي ويمنع وفق مشيئته ؛ فهو أيضا يبين للناس الطريق الذي تربو أموالهم فيه وتربح ، لا كما يظنون هم ، بل كما يهديهم الله عز وجل ، وبعد ذلك " فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ " ( )
والحمد لله ، فقد بين سبحانه وتعالي في القرآن الكريم الحلول الناجعة لتلك المشكلة ، والتي يمكن إجمالها في قوله عز وجل في سورة نوح عليه السـلام : " فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا " ( )
" فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ " أي : اتركوا ما أنتم عليه من الذنوب، واستغفروا الله منها ،" إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا " كثير المغفرة لمن تاب واستغفر، فرغبهم بمغفرة الذنوب ، وما يترتب عليها من حصول الثواب ، واندفاع العقاب .
وهذا مثل قوله جل وعلا علي لسان هود عليه السلام : " وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ " ( ) فالاستغفار والتوبة النصوح والرجوع إلى الله من عوامل رفع البلاء عن المسلمين يقول عز وجل : " فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ " ( )
وهناك الكثير من الآيات في نفس المعني .
وأما المتتبع للسنة النبوية المطهرة فإنه يجد تفاصيل كثيرة لحل هذه المشكلة منها :
1 ــ رفض التسعير الجبري :
فقد حدث مثل هذا الغلاء في زمن النبي صلي الله عليه وسلم فجاء الناس إليه فقالوا يا رسول الله ، غلا السعر فسعِّر لنا ، فقال صلي الله عليه وسلم : " إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ " ( ) فلم يشأ النبي صلي الله عليه وسلم أن يسعِّر للناس فيغضب التجار أو يغضب غيرهم فيطالبه يوم القيامة بحق إن كان له ، بل ترك الأمر لحرية السوق وعوامل العرض والطلب ، وهي قاعدة اقتصادية لم يعرفها العالم إلا حديثا . ( )
وأهم من ذلك ، أنه صلي الله عليه وسلم أراد أن يربطهم بخالقهم ورازقهم الذي إن شاء فتح لهم بركات من السماء والأرض إذا هم آمنوا بالله واتقوه ، وإن شاء أخذهم لمَّا كذبوا بما كانوا يكسبون ؛ ولهذا ربطهم صلي الله عليه وسلم بخالقهم أن يتوجهوا إلى ربهم قاضي الحاجات ومفرج الكروب والأزمات ، والذي يفرح بسؤال عبده له ، ويغضب على مَن ترك سؤاله ، ويحب من ابتُلي فصبر ، وعف نفسه عن الحرام والنقائص ، ويبشره بالجنة التي هي سلام عليهم بما صبروا ، فيقول صلي الله عليه وسلم : " وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ : ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ " ( )
وقد سار الصحابة رضوان الله عليهم علي هذا الهدي النبوي ، فقد جاء في الأثر أن الناس في زمن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاؤوه وقالوا: نشتكي إليك غلاء اللحم فسعّره لنا.
فقال : أرخصوه أنتم؟
فقالوا: نحن نشتكي غلاء السعر واللحم عند الجزارين، ونحن أصحاب الحاجة فتقول : أرخصوه أنتم ؟ وهل نملكه حتى نرخصه ؟ وكيف نرخصه وهو ليس في أيدينا ؟؟؟
فقال قولته الرائعة : اتركوه لهم.
بل إن الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه يطرح بين أيدينا نظرية أخرى في مكافحة الغلاء ، وهي إرخاص السلعة عبر إبدالها بسلعة أخرى ؛ فعن رزين بن الأعرج مولى لآل العباس ، قال : غلا علينا الزبيب بمكة ، فكتبنا إلى علي ابن أبي طالب بالكوفة أن الزبيب غلا علينا ، فكتب أن أرخصوه بالتمر أي استبدلوه بشراء التمر الذي كان متوافراً في الحجاز وأسعاره رخيصة ، فيقلّ الطلب على الزبيب فيرخص ، وإن لم يرخص فالتمر خير بديل. ( )
2 ــ محاربة احتكار السوق :
وبجانب هذه المبادئ الاقتصادية الغالية من مبادئ اقتصاد السوق ، فإن الإسـلام لم يترك الأمر بلا ضـابط أو رادع أمام ممارسة بعض التجار للاحتكار ، بل جـرَّم الاحتكار وشـجع المنافسة ، فعن معمر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : " مَنْ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ " ( ) فقد سمى النبي صلي الله عليه وسلم المحتكر خاطئاً ، أي آثما ، فالاحتكار حرام ، وعلي أولياء أمور المسلمين أن يسنوا العقوبات الدنيوية المناسبة لجريمة الاحتكار لردع من لا يتعظ بالقرآن ، وفي هذا تصحيح لمفهوم الحرية الاقتصادية ومفهوم اقتصاد السوق ، فالحرية الاقتصادية ـ في ظل الاقتصاد الإسلامي ـ لا تعني أن التاجر حر في ممارسة الاحتكار ووضع الأسعار كيفما يريد .
3 ــ إخراج الزكاة والصدقة : فقد قال صلي الله عليه وسلم : "... مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ ... " ( ) أي : إن نقصت الصدقة المال عددياً فإنها لن تنقصه بركة وزيادة في المستقبل ، بل يخلف الله بدلها ويبارك للمتصدق في ماله ، والواقع يشهد بأن الكثير من الناس قد وجد أثراً عجيباً للصدقة في بركة المال وزيادته.
4 ــ ويتصل بذلك العناية بطلب البركة في المال قبل العناية بالكثرة : قال سبحانه وتعالي : " وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ " ( ) فالتقوى والدعاء بطلب البركة سبب لحصولها، وكذا الإكثار من قراءة سورة البقرة ، قال صلي الله عليه وسلم عنها : " ... اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ ..." ( ) .
5 ــ صلة الرحم :
قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ " ( ) و بسط الرزق توسيعه وكثرته ، وقيل : البركة فيه ، ولا يخفي علي عاقل الرخاء الذي يعيش فيه من وسـع عليه .
6 ــ الاقتصاد في المعيشة والتوسط في النفقة :
الاقتصاد في المعيشة والتوسط في النفقة ، والتخلي عن النمط الاستهلاكي المتأثر بالدعايات التجارية ، يقول الله عز وجل : " وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا " ( ) ويقول سبحانه وتعالي : " وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ " ( )
وتطبيقا لذلك أري أن يتم إعداد موازنة شخصية للموارد والمصروفات وتسجيلها مكتوبة على مستوى الأفراد والأسر للاسترشاد بها في الإنفاق .
7 ـ الثبات علي الاستقامة :
وفي مقابلة الفتن الناجمة عن استشراء الغلاء وعدم استطاعة البعض الحصول علي احتياجاتهم ، وسعيهم للحصول على المال بطرق غير مشروعة كالسرقة والرشوة ، فإن النبي صلي الله عليه وسلم يرشد إلى ما يُمَكِّن الإنسان من الثبات عند الأزمات فيقول : " ... اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ ... " ( )
" اتَّقِ الْمَحَارِمَ " أي احذر الوقوع في جميع ما حرم الله عليك .
" تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ " أي من أعبدهم لما أنه يلزم من ترك المحارم فعل الفرائض ، فباتقاء المحارم تبقى الصحيفة نقية من التبعات ، فالقليل من التطوع مع ذلك ينمو ويعظم بركته ، فيصير ذلك المتقي من أكابر العباد .
" وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ " أي اقنع بما أعطاك لله وجعله حظك من الرزق.
" تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ " فإن من قنع استغنى ، فليس الغنى بكثرة العرض ، ولكن الغنى غنى النفس ، والقناعة غنى وعز بالله عز وجل ، وضدها فقر وذل للغير، ومن لم يقنع لم يشبع أبدًا ، ففي القناعة العز والغنى والحرية، وفي فقدها الذل والتعبد للغير" تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ ..." ( )
فيتعين على كل عاقل أن يعلم أن الرزق بالقسـم والقـدر ، لا بالعلم والعقل ، قال بعض الحكماء ولو جرت الأقسام على قدر العقول لم تعش البهائم .
هذه بعض الحلول لمشكلة الغلاء مستوحاة من شريعة الله تكفل لمن يتمسك بها الحياة الطيبة ورغد العيش يقينا ، مع عدم إغفال الحلول التي تكون قد توصل إليها البشر ، ومن ذلك مثلا : وضع سياسة للحد من التضخم ، ومراقبة الأسواق والأسعار والتجار ومحاسبتهم في حال الخروج علي الشرعية ، وتعزيز الإنتاج المحلي ، وتحقيق الاكتفاء الذاتي ، وزيادة فرص التوظيف الحكومي ، ورفع سعر صرف العملة الوطنية ، و تنويع الاحتياطيات الأجنبية ... إلي غير ذلك من حلول اقتصادية بشرية ثبت جدواها ، مع عدم معارضتها لأصل صحيح في شرع الله ، ولكن مع اليقين الكامل والإيمان المطلق بأن هذه الحلول البشرية لن تؤتي ثمارها إلا بإذن الله .
كل ذك مع عدم إغفال أن التوجه إلي الله عز وجل بالدعاء المتواصل والرجاء فيما عنده سبحانه وتعالي سبيل الحسنى وزيادة ، ومع كثرة الإلحاح والدعاء ؛ يكون الفيض والعطاء ، ومع الانتظار والرجاء يكون الخير والرخاء .
والله نسأل أن يرفع عنا البلاء والغلاء .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين .
(جميع الحقوق متاحة لكافة المسلمين بمختلف الوسائل غير الربحية فإنها تحتاج إلي تصريح كتابي )[/align]
المشاهدات 4898 | التعليقات 2
مروركم أسعدني كثيرا
أنار الله قلبك بنور الإيمان
أنار الله قلبك بنور الإيمان
بورت يا شيخ جابر ...
خطبة قيمة تشكر عليها ...
أسأل الله أن يجعلها خالصة لوجهه نافعة لعباده ... آمين
تعديل التعليق