( ظاهرةُ تصويرِ العبادات )
د. عبدالله بن حسن الحبجر
( ظاهرةُ تصويرِ العبادات )
ألقيت في تأريخ: 29 / 4 / 1446 هـ
الحمدُ للهِ تَقَدَّسَ ذاتًا وصِفَاتٍ وجَمالاً، وعزَّ عَظَمةً وعُلوًّا وجَلالاً، وتعالى مَجْدًا ورِفْعَةً وكَمالاً، وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ شهادةً تَعنُو لها القلوبُ خضوعًا وامتِثالاً، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدَنا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه، خيرُ وأقومُ الناسِ أقوالًا وفِعالًا، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى صحبِه وآلهِ والتابعينَ ومن تَبِعَهُم بإحسانٍ وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: فاتقوا اللهَ - عبادَ الله -، واعلَموا أن التقوى نورُ القلوبِ إلى خشيةِ اللهِ ومِشكاتُها، وسبيلُ محبَّتِه ومَرقاتُها، وبُرهانُ رهبتِهِ ودَلالاتُها.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾
عبادَ اللهِ:
رجلٌ لم نقف على تفاصيلِ حياتِهِ، ولم نعرف اسمَهُ ولا نسبَهُ، ولا مالَهُ ولا حسبَهُ، ولا منصِبَهُ ومكانتَهُ، لم نرَ صورتَهُ، ولم نتداوَلْ مقاطعَ له، كان يسيرُ في طريقٍ وحده، بلا كاميراتِ تصوير، ولا قنواتٍ فضائية، ولا برامجَ تواصلٍ.
عملَ عملاً يتقربُ بهِ إلى اللهِ لا إلى خلقهِ، لم يُخبِر الناسَ بما فعلَ، لكن اللهَ أظهرَ حسنَتهُ، فطالت شهرتُه وما طلبَها، خلَّدَ اللهُ ذكرَ ما فعلَ وأبقاه لنسمعَ كلنا خبرَهُ ونتبعَ أثرَهُ فيكونَ أكبرَ همِّنا في القُرُباتِ أن يرضى اللهُ.
هذا الرجلُ عملَ عملاً يسيرًا لم يُعطِّلْ مسيرتَهُ، ولم يُرهِقْ عافيتَهُ، ولم يبذلْ فيه مالَهُ، لحظاتٍ من عمرِه أمضاها ثوانيَ معدودة، وعباراتٍ ردَّدَها.
فَشَكَرَ اللهُ لهُ، فَغَفَرَ لهُ، ورآهُ ﷺ يَتَقَلَّبُ في الجنةِ، يحكي لنا النبيُّ ﷺ خبرَهُ.
فعن أَبِي هُريرةَ رضيَ الل للهُ عنه، عن النَّبيِّ ﷺ، قال:
«مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ عَلَى ظَهْرِ طَرِيقٍ، فقالَ: واللهِ لأُنَحِّيَنَّ هَذَا عَنِ المسلمينَ لَا يُؤْذِيهِمْ، فَأُدْخِلَ الجَنَّةَ»
وفي رواية:
«لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ في الجنةِ في شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانتْ تُؤْذِي المسلمينَ».
عباد الله :
لَمّا صَلُحَتْ نِيَّةُ هذا الرَّجُلِ وسلَّمَ للهِ قَصْدَه، لَمْ يَضُرَّهُ أَلَّمْ يَعْلَمْ بهِ أَحَدٌ مِنَ النّاسِ أوْ يَعْرِفَ خَبَرَه، بَلْ كانَ ذلِكَ رِفْعَةً لَهُ عِندَ رَبِّهِ، وتَخْليدًا لِفِعْلِهِ ومُضاعَفَةً لأَجْرِهِ.
َأَمَا لو كان عمله خالصا لله لهُدِيَ إلى صراط مستقيم في عمله ، فليس من الهدي المستقيم مايقوم به كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ اليومَ ، حين يَعْمَلُ عَمَلًا يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ ، فتراه يحَرَصَ عَلَى إِظْهارِهِ وإِشاعَتِهِ ونَشْرِهِ حَتّى أَصْبَحَ الانْشِغالُ بِالتَّصْوِيرِ أَثْناءَ العِبادَةِ ظاهِرَةً غَيْرَ حَمِيدَةٍ نَراها بِكَثْرَةٍ فِي الحَجِّ والعُمْرَةِ وغَيْرِها، بَلْ حَتّى أَثْناءَ خُطْبَةِ الجُمُعَةِ، يُفَوِّتُ بِها المُسْلِمُ عَلى نَفْسِهِ خَيْرًا كَثِيرًا، وفي الصَّحيحِ أنَّه ﷺ قال:
“مَن مَسَّ الحَصَى فَقَدْ لَغا، ومَن لَغا فلا جُمُعَةَ لهُ”.
وتَصْويرُ المُسْلِمِ نَفْسَه حالَ أَدائِهِ لِلنَّوافِلِ والقُرُباتِ وبَثُّ ذلِكَ لِيَشاهِدَهُ المُتابِعونَ، مَزْلَقٌ خَطِيرٌ ومَدْخَلٌ مِن مَداخِلِ الشَّيْطانِ لِلرِّياءِ لِيُفْسِدَ العِبادَةَ، ومُلْهاةٌ تَصْرِفُ صاحِبَها عَنْ عِبادَتِهِ، وأَنّى لِمَنِ اشْتَغَلَ بِتَصْوِيرِ نَفْسِهِ أَنْ يَجْمَعَ قَلْبَهُ في طاعَتِهِ أوْ يَتَبَصَّرَ حالَهُ ومَآلَه، وأَنّى لَهُ الخُشوعُ أوْ أَنْ يَجِدَ لَذَّةَ العِبادَةِ وقَدْ اشْتَغَلَ قَلْبُهُ بِما يَفْعَل، فَعَلى المُسْلِمِ أَنْ يَتَفَطَّنَ لِذَلِكَ ولا يُغامِر، ولْيَحْتَطْ لِدِينِهِ، فَالقَلْبُ يَتَقَلَّب، والنِّيَّةُ تَتَبَدَّل، واللهُ المُسْتَعان.
وقَليلٌ مِنَ النّاسِ مَن يَكُونُ بَثُّهُ لِمَصْلَحَةٍ راجِحَةٍ يَرْجُو أَثَرَها في النّاسِ وثَوابَها عِندَ اللهِ. وقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ في السَّبْعَةِ الَّذينَ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ:
“ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ أَخْفاها حَتّى لا تَعْلَمَ يَمينُهُ ما تُنْفِقُ شِمالُهُ، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خالِيًا فَفاضَتْ عَيْناه”.
فَالعِبادَةُ تَعْظُمُ في الخَفاءِ في غالِبِ أَحْوالِها، يقولُ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ:
“وَلَقَدْ أَدْرَكْنا أَقْوامًا ما كانَ عَلى الأَرْضِ مِنْ عَمَلٍ يَقْدِرُونَ أَنْ يَعْمَلُوهُ في السِّرِّ فَيَكُونُ عَلانيَةً أَبَدًا”.
ومَعَ كُلِّ ما تَقَدَّمَ فَإِنَّهُ لا يَجوزُ اتِّهامُ كُلِّ مُجاهِرٍ بِالطّاعَةِ أَوْ مُصَوِّرٍ لَها بِأَنَّهُ مُراءٍ، لأَنَّ ذَلِكَ غَيْبٌ، ومَحَلُّهُ القَلْبُ، ولكُلِّ امرِئٍ ما نَوى، ولا يَعْلَمُ ما في القُلوبِ إِلّا عَلاّمُ الغُيوبِ، وقد قالَ بَعْضُ مَن سَلَفَ:
“واللهِ إِنَّ العَبْدَ لَيَصْعُبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ نِيَّتِهِ في عَمَلِهِ فَكَيْفَ يَتَسَلَّطُ عَلى نِياتِ الخَلْق”.
اللهمَّ طَهِّرْ قُلوبَنا مِنَ النِّفاقِ وأَعْمالَنا مِنَ الرِّياءِ وأَلْسِنَتَنا مِنَ الكَذِبِ وأَعْيُنَنا مِنَ الخِيانَةِ إِنَّكَ تَعْلَمُ خائِنَةَ الأَعْيُنِ وما تُخْفِي الصُّدور.
الخُطْبَةُ الثّانِيَة:
الحَمْدُ للهِ وكَفى، وصَلّى اللهُ وسَلَّمَ وبارَكَ عَلى نَبِيِّهِ المُصْطَفى، أَمّا بَعْد:
عِبادَ الله:
قد قالَ سُبحانَهُ في الصَّدَقات:
﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُم﴾
“وهذا يُفيدُ أنَّ إخفاءَ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ مِن إِبْدَائِها؛ لأنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الإِخْلاصِ، وأَسْتَرُ لِلمِسْكين؛
لَكِن إذا كانَ في إِبْدَائِها مَصْلَحَةٌ تَرجُحُ على إِخفَائِها - مِثلَ أَنْ يَكُونَ إِبْدَاؤُها سَبَبًا لِاقْتِداءِ النّاسِ بَعْضِهِم بِبَعْض، أوْ يَكُونَ في إِبْدَائِها دَفْعُ مَلامَةٍ عَنِ المُتَصَدِّقِ، أو غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ المَصالِح - فَإِبْدَاؤُها أَفْضَل.”
وقد قالَ سُبحانَهُ: ﴿إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ﴾
فَقولُهُ “نِعِمَّا هِيَ” مَدْحٌ لِلصَّدَقَاتِ المُعْلَنَةِ الظّاهِرَة، فَمَنْ تَهَيَّأَتْ لَهُ الصَّدَقَةُ عَلانيَّةً فلا يُؤَخِّرْ صَدَقَتَهُ العَلانيَّةَ بَعْدَ حُضورِ وَقْتِها إلى وَقْتِ السِّرِّ فَتَفوتَ أوْ تَعْتَرِضَهُ المَوانِع، ويُحالَ بَيْنَهُ وبَيْنَ قَلْبِه، أوْ بَيْن وبين إخراجها.
وبهذا يتبيَّنُ لنا أنَّ إظهارَ العبادةِ وإخفاءَها تتفاوَتُ أحوالُهُ بحَسَبِ المصلحةِ وحسبَ نيةِ صاحبِها.
اللهمَّ وفِّقْنا لسبيلِ مرضاتِك، يا ربَّ العالمين.
ثم صلُّوا وسلِّموا على نبيِّكم الكريم، فقد أمركم اللهُ بذلك فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾