ظاهرة التسول

تركي المطيري
1446/08/12 - 2025/02/11 23:37PM

الخطبة الأولى

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اَللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الْدِّينِ. أَمَّا بَعْدُ: فَاتُّقُوا اَللَّهَ حق التقوى، واستمسكوا من الإسلامِ بالعروةِ الوثقى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ۝ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾.

أيُّها المسلمون: إِنَّ منْ قبيحِ الفعالِ وذميمِ الخصالِ كَثْرَةَ السُّؤَالِ، "فَإِنَّ الطَّلَبَ مِنَ الْخَلْقِ فِي الْأَصْلِ مَحْظُورٌ، وَغَايَتُهُ: أَنْ يُبَاحَ لِلضَّرُورَةِ، كَإِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ، وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ.

قال شيخ الإسلام عن السُّؤَالِ: هُوَ ظُلْمٌ فِي حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ، وَظُلْمٌ فِي حَقِّ الْخَلْقِ، وَظُلْمٌ فِي حَقِّ النَّفْسِ.

أَمَّا فِي حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ فَلِمَا فِيهِ مِنَ الذُّلِّ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَإِرَاقَةِ مَاءِ الْوَجْهِ لِغَيْرِ خَالِقِهِ، وَالتَّعَوُّضِ عَنْ سُؤَالِهِ بِسُؤَالِ الْمَخْلُوقِينَ، وَالتَّعَرُّضِ لِمَقْتِهِ إِذَا سَأَلَ وَعِنْدَهُ مَا يَكْفِيهِ يَوْمَهُ.

وَأَمَّا فِي حَقِّ النَّاسِ فَبِمُنَازَعَتِهِمْ مَا فِي أَيْدِيهِمْ بِالسُّؤَالِ، وَاسْتِخْرَاجِهِ مِنْهُمْ. وَأَبْغَضُ مَا إِلَيْهِمْ مَنْ يَسْأَلُهُمْ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَحَبُّ مَا إِلَيْهِمْ مَنْ لَا يَسْأَلُهُمْ. فَإِنَّ أَمْوَالَهُمْ مَحْبُوبَاتُهُمْ، وَمَنْ سَأَلَكَ مَحْبُوبَكَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِمَقْتِكَ وَبُغْضِكَ.

وَأَمَّا ظُلْمُ السَّائِلِ نَفْسَهُ فَحَيْثُ امْتَهَنَهَا، وَأَقَامَهَا فِي مَقَامِ ذُلِّ السُّؤَالِ."

وللسائلِ عقوبتان؛ عقوبةٌ في الدنيا وعقوبةٌ في الآخرة: أما التي في الدنيا، فكلُّ مَن سأل الناسَ تكثرًا وعنده ما يغنيه يفقره الله في الدنيا. قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- :« ثَلاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ: مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلاَ ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ عِزًّا، وَلاَ فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ.)

أما عقوبتُهُ في الآخرة؛ ألَّا يكون في وجهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ-أي قطعةُ لحم-رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِيِ صَحِيِحَيْهِمَا مِنْ حَدِيِثِ ابْنِ عُمَرَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ، حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ القِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ.)

 وَقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: (مَن سَأَلَ النَّاسَ أمْوالَهُمْ تَكَثُّرًا، فإنَّما يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ، أوْ لِيَسْتَكْثِرْ.)

عباد الله: إنِّ العملَ والتكسبَ هو ما يقتضيه أمر الله، قال تعالى:﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُور﴾ أمرَهُمْ أن يَأْكُلُوا من رزقِهِ الَّذِي أودعهُ فِيها، فذلّلها لَهُم ووطّأها، وفتق فِيها السبل والطرق الَّتِي يَمْشُونَ فِيها، وأودعَهَا رزقَهُم.

والعمل ولو كانت أجرتُه قليلةً خيرٌ من سؤال الناس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:لأَنْ يَغْدُوَ أحَدُكُمْ، فَيَحْطِبَ علَى ظَهْرِهِ، فَيَتَصَدَّقَ به ويَسْتَغْنِيَ به مِنَ النَّاسِ؛ خَيْرٌ له مِن أنْ يَسْأَلَ رَجُلًا، أعْطاهُ، أوْ مَنَعَهُ ذلكَ، فإنَّ اليَدَ العُلْيا أفْضَلُ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وابْدَأْ بمَن تَعُولُ.

وكان لقمانُ الحكيم ينصحُ ابنه قائلاَ: يا بني، استعِنْ بالكسبِ الحلالِ على الفقرِ؛ فإنه ما افتقرَ رجلٌ قط إلا أصابتهُ ثلاثُ خصالٍ: رقَّةٌ في دِينه، وضعفٌ في عقله، وذهابُ مروءته، وأخطر مِن هذه الثلاث: استخفافُ الناسِ به.

فما دامَ المرءُ صحيحًا معافًا، قويُ البدنِ فلا تحلُّ عليه الصدقة؛ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلاَ لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» أَيِ: الْقَوِيِّ صَحِيحِ الْبَدَنِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ وَبَذْلِ الْجُهْدِ لِكَسْبِ مَا يَكْفِيهِ مِنَ الْمَالِ.

أيهُّا المؤمنون: علينا أن نقف ضدّ ظاهرة التسوّل، وألا نتعاطف مع المتسوّلين، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ المُتَسَوِّلِينَ يَتُمُّ اسْتِخْدَامُهُمْ مِنْ أَفْرَادٍ، وَجِهَاتٍ خَارِجِيَّةٍ، بِهَدَفِ جَمْعِ الأَمْوَالِ بِطُرُقٍ غَيْرِ مَشْرُوعَةٍ، تُسْتَخْدَمُ لِلإِضْرَارِ فِي المُجْتَمَعَاتِ. وعلينا ألا ننهر أيَ سائلًا امتثالًا لأمر الله عز وجل؛ حيث قال: ﴿ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ﴾.

نسأل الله تعالى أن يغنينا بحلاله عن حرامه، وبفضله عمن سواه.

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.


 

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وامْتِنَانِهِ، وأَشْهَدُ ألا إِلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الدَّاعِي إلى جنته وَرِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وصَحْبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا

أما بعدُ: فَالواجبُ على المسلمِ ألا يدفعَ زكاتَه إلا لمن تحلُّ له الزكاة، وينبغي له أن يبذلَ غايةَ الجهدِ في تحرّي المحتاجين للزكاة والصدقة، الذين يمنعهم الحياءُ والعفَّةُ من سؤالِ الناسِ، كما قال تعالى في وصفهم: (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا).

اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِينَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَزْوَاجِهِ الطَّيِّبِينَ وَصَحَابَتِهِ الْغُرِّ الْمَيَامِينِ وَتَابِعِيَّهِمْ بِإحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

اللَّهُمَّ أعِزَّ الإسْلامَ وَالمُسلمينَ، وَاجْعَلْ هَذَا البلدَ آمِنَاً مُطْمَئنَاً وَسَائرَ بِلادِ المُسلمينَ.

اللَّهُمَّ وفِّق خَادَمَ الحَرَمينَ الشَريفينَ، وَوليَ عَهدِهِ لمَا تُحبُ وترضى، يَا ذَا الجَلالِ والإكْرَامِ.

اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْغَيْثَ وَلاَ تَجْعَلْنَا مِنَ الْقَانِطِينَ. اللَّهُمَّ سُقْيَا رَحْمَةٍ، لَا سُقْيَا عَذَابٍ، وَلَا بَلَاءٍ وَلَا هَدْمٍ وَلَا غَرَقٍ.

عبادَ الله: اذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكركم، واشكُرُوهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُم، وَلَذِكْرُ اللهِ أكبرُ واللَّهُ يَعلَمُ ما تصنعون.

المرفقات

1739306240_ظاهرة التسول.pdf

1739306246_ظاهرة التسول.docx

المشاهدات 55 | التعليقات 0