طلحة الفياض!

د. محمد بن سعود
1441/02/18 - 2019/10/17 01:12AM

.....

الحمد لله، الحمد لله تفرَّد بكل كمال، له الحمد على كل حال وفي كل حال، أحمده -سبحانه- تفضَّل بجزيل النوال، وأشكره جل وعلا في جميع الأحوال، جواد كريم يبدأ بالإحسان قبل السؤال، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، تنزَّه عن الأشباه والأنداد والأمثال، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، الصادق الأمينُ شريفُ الخصال، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه خير صحب وآل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وسار على الحق واجتنب سُبُلَ الضلال، وسلم تسليما كثيرا مزيدا إلى يوم المآل .أما بعد:-

فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله -رحمكم الله- وأحسِنوا العملَ في هذه الدار، واجتهِدوا فيما بقي من الأعمار، طهِّروا بفيض الدمع أدرانَ القلوبِ، وأيقِظوها بتجافي الجنوب )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ(

عُميرةَ ودّعْ إن تجهزْتَ غاديًا ** كفى الشيبُ والإسلامُ للمرء ناهيا

عباد الله: في كل أمة رجالٌ تفاخر بهم، وتسطِّر تاريخَهم، فدعونا اليوم نحلق مع أحدِ عظماء الرجال، فقد مللنا من سماع تعظيم البسطاءِ الصغار. التي ما هي إلا ضِغثٌ على إبالة.

ستطرب الآذان بالحديث عن أحدِ العشرة المبشرين بالجنة، وأهلِ الشورى والمنّة، وَأَحَدِ السَّابِقَيْنَ إِلَى الْإِسْلَام والجنة.

يأتي الحديث عن هذا الرجل الفذ في زمنٍ صُدِّر فيه التافه، ورُفع فيه قدر الحقير، علّنا نستلهم عبقًا من سيرةٍ زكية، وتحت الرغوة اللبن الصريحُ

ولولا احتقارُ الأُسْدِ شبهتُها بهم *** ولكنها معدودةٌ في البهائمِ

كان -t-من السابقين إلى الإسلام، وممن أوذي في الله جل جلاله. وقد رُوي عن النبي r أنه قال: (من أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَهِيْدٍ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْهِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى هذا الرجل).

وهذا الرجل صاحبُ  المنقبة العظيمة والسبق التأريخي، فهو الذي وقى رسولَ الله r يوم أحد، حتى صارت يدُه شلاءَ t. وله في أُحُدٍ اليدُ البيضاء. وهذا الإنجاز مسجل في موسوعة الأرقام القياسية.

وَقَاهُ بِكَفَّيْهِ الرِّمَاحَ فَقُطِّعَتْ *** أَصَابِعُهُ تَحْتَ الرِّمَاحِ فَشُلَّتِ

وقد رُوي عن النبي r أن هذا الرجلَ سيكون جارَه في الجنة.

إنه أبو محمد؛ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ، الْقُرَشِيُّ التَّيْمِيُّ.

ورثوا المكارم كابرا عن كابر *** إن الخيارَ همُ بنو الأخيارِ

وإذا تحدثتم عن الجود والكرم يا عباد الله فاذكروا طلحةَ الخير، وطلحةَ الجود، وطلحةَ الفياض. أينما قّلبتَها إليه تصيرُ. ولما أتاه t مالٌ من حَضْرَمَوْتَ سَبْعُ مئة أَلْفٍ، بَاتَ لَيْلَتَهُ يَتَمَلْمَلُ. فَقَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ: مَا لَكَ؟ قَالَ: تَفَكَّرْتُ مُنْذُ اللَّيْلَةِ، فَقُلْتُ: مَا ظَنُّ رَجُلٍ بِرَبِّهِ يَبِيْتُ وَهَذَا المَالُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: فَأَيْنَ أَنْتَ عَنْ بَعْضِ أَخِلاَّئِكَ؟ فَإِذَا أَصْبَحْتَ، فَادْعُ بِجِفَانٍ وَقِصَاعٍ، فَقَسِّمْهُ. فَقَالَ لَهَا: رَحِمَكِ اللهُ، إِنَّكِ مُوَفَّقَةٌ بِنْتُ مُوَفَّقٍ، وَهِيَ أُمُّ كُلْثُوْم بِنْتُ الصِّدِّيْقِ. فَلَمَّا أَصْبَحَ، دَعَا بِجِفَانٍ، فَقَسَّمَهَا بَيْنَ المُهَاجِرِيْنَ وَالأَنْصَارِ، فَبَعَثَ إِلَى عَلِيٍّ مِنْهَا بِجَفْنَةٍ. فَقَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ: أَبَا مُحَمَّدٍ! أَمَا كَانَ لَنَا فِي هَذَا المَالِ مِنْ نَصِيْبٍ؟ قَالَ: فَأَيْنَ كُنْتِ مُنْذُ اليَوْم؟ فَشَأْنُكِ بِمَا بَقِيَ. قَالَتْ: فَكَانَتْ صُرَّةً فِيْهَا نَحْوُ أَلْفِ دِرْهَمٍ.

إنا إذا اجتمعت يوما دراهمنا *** ظلّت إلى طرق المعروف تستبقُ

لا يألفُ الدرهمُ المضروبُ صُرّتنا *** لكنْ يَمرُّ عليها وهو منطلقُ

كان t مقدِّما أقاربه على غيرهم في الفضل والإحسان، وَكَانَ لاَ يَدَعُ أَحَداً مِنْ بَنِي تَيْمِ عَائِلاً إِلاَّ كَفَاهُ، وَقَضَى دَيْنَهُ، وَلَقَدْ قَضَى عَنْ أحد بني تيم ثَلاَثِيْنَ أَلْفاً. وهذا اتباعٌ منه t للشرع. فالأقربون أولى بالمعروف.

ومع كرمه وجوده، كان t شجاعا ضرغاما، فقد جُرح يَوْمَ أُحُدٍ أَرْبَعاً وَعِشْرِيْنَ جِرَاحَةً، وَقَعَ مِنْهَا فِي رَأْسِهِ شَجَّةٌ مُرَبَّعَةٌ، وَقُطِعَ نِسَاهُ –أي: العِرْقَ- وَشُلَّتْ أُصْبُعُهُ، وَكَانَ سَائِرُ الجِرَاحِ فِي جَسَدِهِ، وَغَلَبَهُ الغَشْيُ، وَرَسُوْلُ اللهِ -r- مَكْسُوْرَة رَبَاعِيَتُهُ، مَشْجُوْجٌ فِي وَجْهِهِ، قَدْ عَلاَهُ الغَشْيُ، وَطَلْحَةُ مُحْتَمِلُهُ يَرْجعُ بِهِ القَهْقَرَى، كُلَّمَا أَدْرَكَهُ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكِيْنَ، قَاتَلَ دُوْنَهُ، حَتَّى أَسْنَدَهُ إِلَى الشِّعْبِ. حتى قال طلحة: عُقِرْتُ يَوْمَ أُحُدٍ فِي جَمِيْعِ جَسَدِي، حَتَّى فِي ذَكَرِي.

وَكَانَ الصِّدِّيقُ إِذَا حَدَّثَ عَنْ يَوْمِ أُحُدٍ يَقُولُ: ذَاكَ يَوْمٌ كَانَ كُلُّهُ لِطَلْحَةَ. وَقَدْ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ، r، يَوْمَئِذٍ: " «أَوْجَبَ طَلْحَةُ».

وَطَلْحَةُ يَوْمَ الشِّعْبِ آسَى مُحَمَّداً *** لَدَى سَاعَةٍ ضَاقَتْ عَلَيْهِ وَسُدَّتِ

وَقَاهُ بِكَفَّيْهِ الرِّمَاحَ فَقُطِّعَتْ *** أَصَابِعُهُ تَحْتَ الرِّمَاحِ فَشُلَّتِ

وَكَانَ إِمَامَ النَّاسِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ *** أَقَرَّ رَحَا الإِسْلاَمِ حَتَّى اسْتَقَرَّتِ

أستغفرَ الله لي ولطلحةَ الخير، فاستغفروه يغفر لكم.

 

 

 

الحمد لله على نعمائه شكرا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أُعدها ليومِ العرض ذُخرا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، دعا إلى دين الله سِرًّا وجَهْرًا، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه أعلى لهم ربُّهم ذِكْرًا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وسلَّم تسليما كثيرا عشية وبكرا. أما بعد:-

فاقرأ في سيرة الشرق والغرب ما شئت، ولعلك تجد في قلبك ظلمة وكآبة، فإذا فتحتَ صفحة من سير الصحابة، فكأنك وجدت نفسك بعد ضلالها، إنْ عبتَ الصحابة بشيء، لم تعِبهم إلا أنهم دون الأنبياء

خلائف الله جلّوا عن موازنة *** فلا تقيسن أملاكَ الورى بهمُ

ولئن تفاخر الناس بالمال والجاه؛ فحسبُ طلحةَ فخرًا أَنَّه مِنْ أَهْلِ الجنة. بل روى الإمام الترمذي في جامعه أن النبي r قال: طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ جَارَايَ فِي الجَنَّةِ. قال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.

عباد الله: إن سبّ الصحابة أو الوقيعةَ فيهم، ذنب عظيم، وهو من أقبح ما يصنعه أهل البدع، وعاقبةُ فاعله وخيمة؛ فقد ذكر أهل السير أن رجلا كان يسبُّ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيّا، فَجَعَلَ سَعْدٌ يَنْهَاهُ وَيَقُولُ: لَا تَقَعْ فِي إِخْوَانِي. فَأَبَى. فَقَامَ سَعْدٌ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا مُسْخِطًا لَكَ فِيمَا يَقُولُ، فَأَرِنِي فِيهِ الْيَوْمَ آيَةً وَاجْعَلْهُ لِلنَّاسِ عِبْرَةً. فَخَرَجَ الرَّجُلُ فَإِذَا هُوَ بِبُخْتِيٍّ يَشُقُّ النَّاسُ فَأَخَذَهُ بِالْبَلَاطِ، فَوَضَعَهُ بَيْنَ صدره وَالْبَلَاطِ، فَسَحَقَهُ حَتَّى قَتَلَهُ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: فَأَنَا رَأَيْتُ النَّاسَ يَتَّبِعُونَ سَعْدًا وَيَقُولُونَ: هَنِيئًا لَكَ أَبَا إِسْحَاقَ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكَ.

وقد كَانَ طلحة t مَجْدُوْداً فِي التِّجَارَةِ، خَلَّفَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقُوِّمَتْ أُصُوْلُهُ وَعَقَارُهُ ثَلاَثِيْنَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. كما خَلَّفَ ثَلاَثَ مئةِ حِمْلٍ مِنَ الذَّهَبِ. وهو الغني المتصدق الشاكر t. وما كانت الدنيا إلا في يده، ولم تكن في قلبه.

مات طلحة مقتولا سنة ستٍ وثلاثين من الهجرة، وعمره اثنانِ وستونَ سنة. وقد رآه عَلِيٌّ t فِي وَادٍ مُلْقَى، فَنَزَلَ، فَمَسَحَ التُّرَابَ عَنْ وَجْهِهِ، وَقَالَ: عَزِيْزٌ عَلَيَّ أَبَا مُحَمَّدٍ بِأَنْ أَرَاكَ مُجَدَّلاً فِي الأَوْدِيَةِ تَحْتَ نُجُومِ السَّمَاءِ، إِلَى اللهِ أَشْكُو عُجَرِي وَبُجَرِي. ثم قال علي: بَشِّرُوا قَاتِلَ طَلْحَةَ بِالنَّارِ.

لَعَمْرُكَ مَا وَارَى التُّرَابُ فِعَالَهُ        وَلَكِنَّهُ  وَارَى  ثيابًا  وَأَعْظُمًا

 ثم اعلَموا - رحمكم الله - أن من أعظم ما تزدلِفون به إلى ربِّكم: كثرةَ صلاتكم وسلامكم على الحبيبِ المُصطفى، والرسولِ المُجتبى. كما أمرك بذلك ربكم جل وعلا.

 ...

المرفقات

الجود-2

الجود-2

المشاهدات 1120 | التعليقات 0