طلب الرزق وواقع الناس في الآونة الأخيرة

فيصل التميمي
1438/02/10 - 2016/11/10 20:23PM
خطبة تناسب كثيراً لما يدور في واقع الناس هذه الأيام
طلب الرزق وواقع الناس في الآونة الأخيرة 10/2/1438هـ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره؛ ونعوذ بالله من شرور أنفسنا؛ ومن سيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له؛ ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً..
أما بعد: فأيها الناس اتقوا الله تعالى واخشوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
معاشر المؤمنين ـ ثمة أمرٌ يُقلقُ جميع الناس إلا من رحم الله ، يتقاتلون عليه ويتنافسون، ويتدابرون ويتقاطعون ، وقد يدفع بالبعض إلى الإجرام فيسرق ويرتشي ويخون ، مع أن هذا الأمر قد حسمه ربّ العالمين وجعل تقديره وقسمه بيده جل وعلا ، ذلكم ـ أيها المؤمنون ـ هو أمر الرزق.
ولو تأملنا عباد الله في سلوك كثير من الناس في معاشهم بهذه الحياة لوجدناها تدور مع طلبهم للرزق وحرصهم عليه، وقد استغرق تفكيرهم وأصابهم القلق من فقده أو قلته ، مع أنه أمر قد فرغ الله عز وجل منه وقضاه. وهذه قضية هامة ينبغي للعبد المؤمن أن يعيها ويعتقدها ، ولعلنا نقف اليوم مع أصول أربعة ، متى ما استقرَّت هذه الأصول في قلب المؤمن فإنه يطمئن ولا يجزع عند تغير أحواله وقلة ما بيده.
أما الأصل الأول: فهو أن الله عز وجل تكفَّل بأرزاق العباد، ولم يجعلها عند أحد من خلقه، فلا يُطلبُ الرزق إلاَّ منه جل وعلا، و قد أقسم الله عزوجل على ذلك بنفسه الكريمة فقال سبحانه: (وَفِى ٱلسَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبّ ٱلسَّمَاء وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ) ، فبين جل وعلا أن رزق العباد جميعًا، بَرِهم وفاجرِهم، مؤمنهم وكافرهم، كل أرزاقهم عنده جل وعلا ، ثم أقسم على هذه الحقيقة فقال: (فَوَرَبّ ٱلسَّمَاء وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ)أي: هذا الذي أخبر جل وعلا عنه، (مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ) أي: كما أنكم تنطقون لا تشكون في هذه الحاسة التي وهبكم الله إياها وهي من أوضح الحواس كما يقول أهل العلم، فلو كان الرجل شمه معدومًا لا يدرك الناس ذلك ، ولو كان حسه معدومًا لا يدركون ذلك أيضًا، فضرب الله مثلاً بهذه الحقيقة، وأنها حق واضح لا مِرية فيه، (مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ) فهذا قسم من الله عز وجل لعباده بأن الأرزاق عنده وحده جل وعلا، ليطمئن قلب العبد المؤمن.
وثاني هذه الأصول التي ينبغي أن يعرفها العبد المؤمن أنه لن يموت حتى يستوعب رزقه كاملا غير منقوص كما قسمه الله جل وعلا له.
ففي الحديث الصحيح: ((إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته)) (السلسلة الصحيحة رقم 2866/مجلد6).
فلا يحملنّك ـ أيها المؤمن ـ استبطاء الرزق أي: تأخره أحيانًا أن تطلبه بمعصية الله، فإن ما قسمه الله عزوجل لك يأتيك دونَ معصية. ولذلك كان بعض أهل العلم يُقسِم أنه لو صبر السارق لرُزق ما سرَقَه؛ لأنه كتب له أن يستمتع بهذا المال، ولو صبر المرتشي لجاءه بالحلال ما أخذه بالحرام.
وأما الأصل الثالث ـ معاشر المؤمنين ـ فهو أن هذه الأرزاق قسمها رب العالمين وفرغ منها، فحينما يستكمل أحدنا في بطن أمه أربعة أشهر ويُخلَّق ، يرسل الملك فيؤمر بكتابه أربع، أولها بكتابة رزقه ثم أجله ثم عمله ثم شقيٌ أم سعيد، فيكتب الله عز وجل أرزاق العباد ويقسمها لهم، وهذا أمر فرَغ الله عز وجل منه، (وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ٱللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ) وكان بعض الصالحين قد أصابهم جوعٌ وعطش شديد فبعثوا أحدهم يسأل بعضَ أصحابهم رزقًا من طعام وشراب ، فلما وصل باب داره فإذا به يسمع الرجلَ يقرأ: (وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ٱللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ)، فوقف الرجل وقال:والله، إني وأصحابي أكرم على الله من الدَّواب، فرجع ولم يسأل، فيسر الله له رزقه وصحبه لما فوض أمره إليه سبحانه.
فهذه الأرزاق ـ معاشر المؤمنين ـ قسمها الله عز وجل وكتبها لعباده حتى الدواب التي تدب في الأرض، بل حتى إبليس اللعين كتب الله رزقه، ففي الحديث الصحيح أن إبليس قال: يا رب، كل خلقك بينت رزقه ففيم رزقي؟ هذا الذي كفر بالله ولعنه الله وطرده يسأل: أين رزقي؟ فهل حرمه الله الرزق؟! وهل منعه الله الرزق؟! بل قال الله له كما في الحديث الصحيح: ((رزقك فيما لم يُذكر اسمي عليه)) صححه الألباني، فكل طعام وكل شراب لا يُذكر اسم الله عليه فهو رزقٌ رزقه الله إبليس، لذلك في الحديث الصحيح ، أن الرجل إذا دخل بيته فسمى قال الشيطان لأصحابه: فاتكم المبيت، وإذا أكل وسمى قال: فاتكم العشاء، وأما إذا أكل ولم يسم، قال: أدركتم العشاء، وأحيانًا يدرك المبيت والعشاء، بل ويكون له نصيب من أهل الرجل أيضًا إن لم يسم الله عز وجل.
فرزقُ إبليس ـ معاشر المؤمنين ـ قد كتبه الله عز وجل له، فينبغي على العبد الذي يَقلَق على رزقه والذي يرتكب الحرام من أجل الرزق، ويسعى دون تفكر ولا ورع ولا تقوى أن يضع هذا الحديث نصب عينيه، إبليسُ الذي لعنه الله وقال له: (فَٱخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) [الحجر:34]، قد قسم الله له رزقه ((رزقك فيما لم يذكر اسمي عليه)).
وما أجمل قول الإمام الشافعي رحمه الله إذ قال:
تَوكلْتُ في رِزْقي عَلَى اللَّهِ خَالقي..
وأيقنتُ أنَّ اللهَ لا شك رازقي
وما يكُ من رزقي فليسَ يفوتني..
وَلَو كَانَ في قَاع البَحَارِ الغَوامِقِ
سيأتي بهِ اللهُ العظيمُ بفضلهِ..
ولو لم يكن مني اللسانُ بناطقِ
ففي أي شيءٍ تذهبُ النفسُ حسرة ً..
وَقَدْ قَسَمَ الرَّحْمَنُ رِزْقَ الْخَلاَئِقِ
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ( وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) (وَفِى ٱلسَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبّ ٱلسَّمَاء وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ)
بارك الله لي ولكم في القران العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا.
أَمَّا بَعْدُ: فاتقوا عباد الله ، ثم اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ بأن خاتمة هذه الأصول أن يعلم العبد المؤمن أن هذه الأرزاق قسمها الله بعلمه وحكمته ولطفه بعباده، فلم يقسمها على الخلق بمعيار التقوى ولا الصلاح، وإلا لكان أغنى الخلق أحبُّهم إليه وسيدهم جميعًا نبينا صلوات ربي وسلامه عليه، فهذه الأرزاق قال الله عنها: (وَلَوْ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى ٱلأَرْضِ وَلَـٰكِن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ) ، أي: هو جل وعلا خبير بعباده بصير بأحوالهم، يعلم ما يصلحهم وما يطغيهم، ولذلك كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يُقسم لأصحابه ويخبرهم: ((والله، ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسها الذين من قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم))، فوالله ما الفقر يخشاه النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه، وإنما يخشى عليهم أن تفتح عليهم الدنيا. فلا تجزعن ـ
يا عبد الله ـ إن رأيت عبدًا وسع الله عليه في رزقه، فاعلم أن هذا المال فتنة عظيمة، لن تزول قدم هذا العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أمرين يتعلقان بهذا المال الذي بين يديه ، ولا يسأل عن شيء مرتين وسؤالين سوى عن هذا المال: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟
فهذا الأمر ـ معاشر المؤمنين ـ وهو أن الله يقسم الأرزاق بعلمه وخبرته وهو الخبير اللطيف بعباده، يجعل قلب المؤمن مطمئنًا، لا يروعه فقده ولا يقلقه نقصه وقد فوض أمره إلى خالقه ورازقه عز وجل.
سهرتْ أعينٌ ونامتْ عيــونُ..
في أمور تكونُ أو لا تكونُ
فادرأ الهمَّ ما استطعتَ عن النفـ..
سِ فحملانكَ الهمومَ جُنونُ
إِن رباً كفاكَ بالأمسِ ما كــا..
ن سيكفيكَ في غدٍ ما يكونُ
والله سبحانه وتعالى يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وما يضيق رزق أحد من خلقه وقد بذل السبب في طلبه إلا لحكمة يعلمها سبحانه.
وعليه أن لا ييأس ولا يقنط من رحمة الله تعالى، وليجتهد في بذل أسباب الرزق مرات ومرات مع تعلق قلبه بمسبب الأسباب وتوكله عليه سبحانه وتعالى وليبشر بالسعة في رزقه وتنزل بركاته ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ وقال صلى الله عليه وسلم: ((لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ؛ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا)) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)
أسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقني وإياكم أعظم الغنى غنى القلب ، وأن يغنينا بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه.
هذا وصلوا وسلموا على خير البرية وأزكى البشرية رسول الله محمد بن عبدالله كما أمركم بذلك ربكم فقال قولا كريما..
المشاهدات 1473 | التعليقات 0