طريق الجنة

محمد بن سليمان المهوس
1445/07/05 - 2024/01/17 09:32AM

« طريق الجنة »

محمد بن سليمان المهوس / جامع الحمادي بالدمام

الخُطْبَةُ الأُولَى

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَا أَبَا سَعِيدٍ، مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ».

فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ، فَقَالَ: أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ، فَفَعَلَ، ثُمَّ قَالَ: «وَأُخْرَى يُرْفَعُ بِهَا الْعَبْدُ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الجَنَّةِ، َما بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ»، قَالَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبيلِ اللهِ، الجِهادُ فِي سَبيلِ اللَّهِ».

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: هَذَا الْحَدِيثُ حَدِيثٌ عَظِيمٌ، فِيهِ بَيَانٌ لأَعْظَمِ الطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى مَرْضَاتِ اللهِ وَالْفَوْزِ بِجَنَّتِه، فَاَلرِّضَا بِاللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- رَبًّا؛ أَوَّلُ الْفُرُوضِ وَآكَدُهَا؛ فَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ -جَلَّ وَعَلاَ- رَبًّا لَمْ يَصِحَّ لَهُ إِسْلاَمٌ وَلاَ عَمَلٌ! وَذلِكَ لأَنَّ الرِّضَا بِاللَّهِ يُثْمِرُ إِخْلاَصَ العِبَادَةِ لَهُ، وَكَمَالَ التَّعْظِيمِ وَالانْقِيَادِ وَالْخُضُوعِ لأَمْرِهِ جَلَّ فِي عُلاَهُ، وَتَحْقِيقَ الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي لأَجْلِهَا خَلَقَ اللهُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *لاَ شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾[الأنعام: 162-163]

وَالرِّضَاءُ بِاللهِ رَبًّا لاَ يَصِحُّ إلا بِثَلاثَةِ شُرُوطٍ ذَكَرَهَا ابْنُ الْقَيِّمِ فِي تَفْسِيرِهِ، فَقَالَ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ أَحَبَّ الأَشْياءِ إِلَى الْعَبْدِ، وَأَوْلَى الأَشْيَاءِ بِالتَّعْظِيمِ، وَأَحَقَّ الأَشْيَاءِ بِالطَّاعَةِ.

وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ- الرِّضَاءُ بِاللهِ رَبًّا ، هُوَ رِضَا الْعَبْدِ بِمَا يَأْمُرُهُ بِهِ، وَيَنْهَاهُ عَنْهُ، ويَقْسِمُهُ لَهُ ، ويُقَدِّرُهُ عَلَيْهِ، وَيُعْطِيهِ إِيَّاهُ، وَيَمْنَعُهُ مِنْهُ.

فَمَتَى لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ كُلِّهِ لَمْ يَكُنْ قَدْ رَضِيَ بِهِ رَبًّا مِنْ جَمِيعِ الوُجُوهِ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَالرِّضَاءُ بِاللهِ رَبًّا: يَسْتَلْزِمُ الرِّضَاءَ بِدِينِهِ سُبْحَانَهُ الَّذِي أَكْمَلَهُ وَأَتَمَّهُ وَرَضِيَهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]

 وَالرِّضَاءُ بِالإِسْلاَمِ دِينًا: أَنْ تَتَّبِعَ شَرَائِعَهُ، وَتَنْصَاعَ لأَوَامِرِهِ، وَتَلْتَزِمَ حُكْمَهُ، وَلَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِكَ حَرَجٌ مِنْ حُكْمِهِ، وَتُسَلِّمَ لَهُ تَسْلِيمًا وَلَوْ كَانَ مُخَالِفًا لِمُرَادِ نَفْسِكَ أَوْ هَوَاكَ.

وَيَسْتَلْزِمُ أَيْضًا: الرِّضَاءَ بِنَبِيِّهِ رَسُولاً، وَالَّذِي يَتَضَمَّنُ كَمَالَ الاِنْقِيَادِ لَهُ، وَالتَّسْلِيمَ الْمُطْلَقَ إِلَيْهِ، وَتَمَامَ التَّصْدِيقِ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ، وَطَاعَتَهُ بِكُلِّ مَا أَمَرَ ، وَاجْتِنَابَ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ، وَأَنْ لاَ يُعْبَدَ اللهُ إِلاَّ بِمَا شَرَعَ، وَلاَ يُتَلَقَّى الْهُدَى إِلاَّ عَنْهُ وَمِنْ طَرِيقِهِ، وَلاَ يُحَاكَمَ إِلاَّ إِلَيْهِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65].

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ أَبَى» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى» [رواه البخاري].

وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» أَيْ: ثَبَتَتْ وَتَحَقَّقَتْ لَهُ هَذِهِ الْبُشْرَى؛ فَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ قَطْعًا، وَإِنْ دَخَلَ النَّارَ لاِسْتِيفَاءِ ذُنُوبٍ عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ لاَ يُخَلَّدُ فِيهَا؛ لأَنَّهُ عَلَى التَّوْحِيدِ.

اللَّهُمَّ ارْضَ عَنَّا، وَامْلأْ قُلُوبَنَا بِالرِّضَا بِكَ وَبِدِينِكَ وَبِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ،  عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِالله رَبًّا، وَبِالإِسْلامَ دِيناً، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً».

فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلإِيِمَانِ حَلاَوَةً يَشْعُرُ بِهَا الْمُؤْمِنُ الصَّادِقُ فِي قَلْبِهِ، وَلَذَّةً لاَ تَعْدِلُهَا لَذَّةٌ ، وَأُنْسٌ لاَ يَعْدِلُهُ أُنْسٌ، وَهَذِهِ الْحَلاَوَةُ هِيَ سَبَبُ سَعَادَتِهِ، وَانْشِراحِ صَدْرِهِ، وَاسْتِنَارَةِ قَلْبِهِ، ورِضَاهُ، وَذَهَابِ هُمُومِهِ وَغُمُومِهِ، وَفَلاَحِهِ، وَنَجَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.

فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَاعْلَمُوا أَنَّ النَّجَاةَ بَعْدَ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى بِتَحْقِيقِ هَذِهِ الثَّلاَثَةِ الأُمُورِ: الرِّضَا بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- رَسُولاً؛ فَإِنَّنَا جَمِيعًا سَوْفَ نُسْأَلُ فِي قُبُورِنَا عَنْهَا، عِنْدَمَا نُودَعُ فِي قُبُورِنَا، وَيَتْرُكُنَا الْوَلَدُ وَالأَهْلُ وَالْخِلاَّنُ وَالْمَالُ، وَلاَ يَبْقَى مَعَنَا إِلاَّ الْعَمَلُ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: «يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاَثَةٌ فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ؛ يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ» [رواه البخاري].

ثُمَّ يَكُونُ سُؤَالُ الْمَلَكَيْنِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ لِهَذَا الْمَيِّتِ عَنْ هَذِهِ الثَّلاَثِ الأُصُولِ: مَنْ رَبُّكِ؟ وَمَا دِينُكَ؟ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ فَاجْعَلُوا حَيَاتَكُمْ كُلَّهَا فِي الاسْتِعْدَادِ لِهَذَا الاخْتِبَارِ الْعَظَيمِ، وَالْفَوْزِ بِرِضَا الْجَوَادِ الْكَرِيمِ.

هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، وَقَالَ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رَوَاهُ مُسْلِم].

 

 

 

المرفقات

1705473153_طريق الجنة.doc

1705473165_طريق الجنة.pdf

المشاهدات 1372 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا