طرغود باشا ..أ , شريف عبدالعزيز- عضو الفريق العلمي

الفريق العلمي
1440/10/09 - 2019/06/12 20:26PM

من الظواهر التاريخية المتواترة عبر التاريخ ظاهرة "القمر والنجوم"، والمقصود بها وجود شخصية تاريخية آسرة ذات شهرة كبيرة وأثر تاريخي ظاهر بصورة غطت وأخفت جهود العديد من الشخصيات الهامة والمؤثرة في صناعة الأحداث وبناء الأمجاد في ذات الفترة؛ كالنجوم التي تسطع في وجود القمر متكملاً، مهما اشتد وهجها تظل دون القمر في التوهج ولفت الأنظار وجذب الانتباه واستحقاق الثناء والمدح. رأينا هذه الظاهرة بين صلاح الدين الأيوبي ونور الدين محمود وعماد الدين زنكي، ورأيناها بين يوسف بن تاشفين ويحيي بن عمر، وغير ذلك كثير عبر التاريخ. وصاحبنا في هذا المقام.

 

التعريف به:

أسد البحار وأحد أمهر قادة البحرية العثمانية، الشهيد السعيد، والمجاهد السديد، الذي قضى 70 عاماً متصلة في الغزو والجهاد البحري نصرة لدين الله وإعلاء لراية الدولة الإسلامية، البطل المغوار طرغود باشا العثماني، وهكذا اسمه في المصادر التركية طرغود، وفي المصادر العربية طرغود ، وفي أخرى طرغول.

 

ولد طرغود في قرية سرابالاز الساحلية تابعة للواء منتشة (موغلة) في سنة (890 هـ - 1485م)، وتعلق من صغره بالبحر فأحبه كثيراً، وقرر أن يلتحق بالعمل على إحدى السفن  العاملة في بحر إيجه وفي الحوض الشرقي للبحر المتوسط، كان وقتها في العاشرة من العمر، فعمل مساعد ملاح، ثم أخذ يترقى في العمل البحري خطوة خطوة حتى أصبح ملاحاً معروفاً وهو ابن 25 سنة، وقد استطاع جذب انتباه الأمير شاه زاد كركود الأخ الأكبر للسلطان سليم الأول العثماني، فعمل على ضمه إلى الأسطول العثماني الذي كان يشهد وقتها صحوة كبيرة على يد البطل الكبير خير الدين باربروسا وإخوته المشهورين.

 

طرغود وباربروسا

في إحدى رحلاته البحرية نزل طرغود بجزيرة جربة التونسية قادما من البحر الأدرياتيكي، وقد استولى على سفينتين كبيرتين للبنادقة. وفي الجزيرة باع الأسرى والغنائم التي ظفر بها. ثم كسر السفينتين وصنع بأخشابهما أربع سفن حربية صغيرة وخفيفة ذات مجاديف وهي أصغر وأسرع من الغراب وهي السفينة الحربية العادية.

 

لم ينزل طرغود بجربة مصادفة فقد نزل قبله بها البطل الشهيد عرّوج ثم أخوه خضر المعروف باسم باربروسا؛ ذلك أنها كانت الجزيرة الاسلامية الوحيدة التي تقع في الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط والتي تصلح أن تكون مأوى للغزاة، ومشتى لهم، وسوقا لبيع غنائمهم وشراء ما يحتاجون إليه من المؤونة والعتاد بفضل ثراء الجزيرة ونشاط سكانها، وميناء آمنا لإرساء سفنهم وتنظيفها وإصلاح المعطوب منها وصنع سفن جديدة، ومعقلا عند الاقتضاء لقوة قلب أهل جربة وعشقهم للحرية واستعدادهم الدائم للجهاد.

 

أُعجب باربروسا ببطولة طرغود وإنجازاته البحرية فأهداه سفينة بحرية مقاتلة، فضمّها إلى مراكبه وأصبح يقود مجموعة من السفن الحربية، فكان عمل طرغود مع خير الدين باربروسا فاتحة خير كبيرة على طرغود، فباربروسا هو أعظم بحارة القرن العاشر الهجري، والسادس عشر الميلادي، وواحد من أشهر بحارة الإسلام على مر العصور، والعمل تحت إمرته كان حلم طرغود منذ سن المراهقة، بل إن إعجابه بشخصية خير الدين وبطولاته العظيمة كان أحد أسباب التحاقه بالبحرية، وقد لمس فيه خير الدين الموهبة والشجاعة والحمية للدين والوفاء للدولة العثمانية ما جعله يوليه اهتماماً خاصاً.

 

اشترك طرغود مع باربروسا في كل غزواته البحرية في الحوض الشرقي ثم الغربي للبحر المتوسط، وقام بغارات في بحر الأدرياتيكي وغزا سواحل إيطاليا وصقلية، كما شارك مدة سنوات عدّة في الغزوات التي كان يشنّها خير الدين على سواحل إسبانيا؛ لإنقاذ الأندلسيين المضطهدين ونقلهم إلى موانئ الجزائر وتونس، وعمل قائدا لقطعة من الأسطول النظامي العثماني (العمارة العثمانية) تحت إمرة خير الدين عندما عيّنه السلطان سليمان القانوني قبودان باشا أي قائدا أعلى للعمارة العثمانية.

 

وعندما قدم خير الدين باشا على استانبول لتعيينه قائدا للقوات البحرية في سنة (941هـ-1534م) استصحب معه طرغود الذي تعاظمت شهرته، على السلطان سليمان القانوني كأحد القادة الـ19، كان عمره آنذاك 48 سنة، وقد منح القانوني، طرغود رئيس رتبة لواء بحري وأصبح اسمه في الوثائق العثمانية الرسمية (طرغود جه بك). وعندما أثنى عليه خير الدين باربروسا عليه أمام السلطان سليمان القانوني عهد إليه بإدارة الصاعقة البحرية، فشغل هذا المنصب لسنوات طويلة.

 

ومن شدة حب وإعجاب باربروسا بطرغود زوّجه ابنته الوحيدة، وجعله ساعده الأيمن في عظائم الأمور على الرغم من وجود قادة أقدم منه رتبة في البحرية العثمانية، إلا إن شجاعته وإقدامه كانا مضرب الأمثال، فلم يختلف عليه أحد.

 

سطوع نجم طرغود

قضّى طرغود سنوات عدة تحت قيادة خير الدين وشارك مع غيره من الغزاة العثمانيين الآخرين؛ مثل قلج علي وحسن الطواشي وسنان في عمليات إنقاذ الأندلسيين المضطهدين ونقلهم من إسبانيا إلى المدن الساحلية المغربية. ولكن طرغود لم يطف على سطح الأحداث إلاّ في سنة 945هـ/1538م عندما كان قائدا للجناح الأيمن للعمارة العثمانية في معركة "بريفيزا" البحرية الشهيرة التي تغلب فيها الأسطول العثماني، وقد كان يتألّف من مائة وخمسين سفينة حربية بقيادة خير الدين باشا على تجمّع ضخم للأساطيل الحربية لإسبانيا والبرتغال والبندقية وجنوة والدويلات الإيطالية التي تعترف بسلطة البابا يعدّ مائتي سفينة حربية معززة بمائتين وخمسين مدفعا يركبها ستون ألف مقاتل.

 

وكانت جميع الأساطيل التابعة لإسبانيا أو الحليفة لها بقيادة أمير البحر الجنوي الأكثر شهرة في أوروبا أندريا دوريا الذي قدم خدماته منذ سنة 934هـ/1528م للإمبراطور شارل الخامس فعيّنه قائدا أعلى للأسطول الأسباني.

 

وعندما خرجت العمارة العثمانية في السنة الموالية 946هـ/1539م، من إستانبول بقيادة خير الدين باشا قاصدة حصن كاستلنووفو بمقاطعة طسيا اليونانية على ساحل البحر الأدرياتيكي كان طرغود مساعدا لخير الدين باشا. وبعد احتلال الحصن عادت العمارة إلى إستانبول. وكلّف خيرُ الدين باشا طرغود بالقيام بعمليات تخريب على شواطئ إسبانيا وإيطاليا كانت دائما باستخدام السفن الصغيرة والمتوسطة؛ لخفتها وسرعتها وقدرتها على مباغتة العدوّ وهي تستخدم في أغلب الأوقات المجاديف فقط غير رافعة للقلاع.

 

وقوع البطل في الأسر

ركّز طرغود جهوده في تلك السنة على شنّ غارات مدمرة على القرى الواقعة على خليج جنوة. واحتل في تلك المنطقة جزيرة كابراك وأسر جميع سكانها وعددهم سبعمائة نسمة. وكأنّه أراد أن يتحدّى أمير البحر الاسباني أندريا دوريا في مسقط رأسه مدينة جنوة وعقر بيته. وفي السنة التالية 947هـ/1540م.

 

ومن كثرة ما أوجع طرغود وأثخن في السواحل الإيطالية، قرر أندريا دوريا أن يبحث عن طرغود في مكامنه المحتملة لمنازلته في البحر. فتوجّه ومعه خمسة وخمسون غرابا إلى خليج قابس. ولكن لمّا وصل إلى تلك المنطقة علم أنّ طرغود يهاجم في ذلك الوقت نفسه سواحل خليج جنوة من جديد. فعاد إلى جنوة ولم يلاق طرغود في طريق العودة. فكلّف مساعده الشاب وابن أخيه جيانتينو دوريا بالبحث عن البطل الغازي الذي اختفى بعد عملياته التخريبية في منطقة خليج جنوة. وأمره أن يستعين بأسطول صقلية الذي كان راسيا بميناء مسينا. وخرج دوريا الأصغر من جنوة بعشرة أغربة وذهب إلى مسينا حيث ضمّ إلى سفنه سفن أسطول صقلية وكان عددها أحد عشر غرابا فأصبح يقود واحدا وعشرين غرابا. فطاف الأسطول بجزيرة صقلية كلها فلم يعثر على أثر لطرغود ولم يسمع عنه شيئا. فطاف بعد ذلك بجزيرة سردينيا الإيطالية باحثا، سائلا الناس دون جدوى. وفي طريق العودة إلى جنوة عثر دوريا الأصغر مصادفة على طرغود وقد التجأ إلى مرفأ صغير في جزيرة كورسيكا قريبا من مدينة باستيا للراحة وإصلاح مراكبه المعطوبة. وكان عدد تلك المراكب سبعة عشر سفينة صغيرة فقط.

 

خرج طرغود من المرفأ ولاقى أسطول جيانتينو بكل شجاعة رغم قلة عدد سفنه. ودارت معركة عنيفة وقع خلالها طرغود في الأسر، سيق طرغود مكبلا أمام الأميرال الصغير فوق سفينة القيادة، وكان دوريا الصغير لم يبلغ الرابعة والعشرين من عمره، واستصغر طرغود هذا القائد وغضب وحنق أن يقع أسيرا في قبضة هذا الفتى الأمرد مكبل الرجلين بالحديد، ولا حظ دوريا الصغير استخفاف طرغود به فقام بضربه بالسياط فضربه ضربا مبرحا وأهينت كرامته وأمر بربطه بالصواري، وبقي طرغود في الأسر أربع سنوات مربوطا في مجاديف أندريا دوريا وكان وقتها قد بلغ الستين من العمر.

 

حاول الدولة العثمانية فداء البطل طرغود عدة مرات، وتدخل السلطان سليمان القانوني بنفسه في الأمر، ومع ذلك رفض الإمبراطور شارلكان الأمر، ورفضت الإمارات الإيطالية العرض؛ بسبب حنقهم الشديد على البطل طرغود الذي دوخهم وقضّ مضاجعهم لسنوات طويلة.

 

بعد أن أعيت السبل الدبلوماسية السلطان سليمان وقائد أسطوله خير الدين باربروسا، قام باربروسا بقيادة أسطول بحري كبير ورسا به أمام السواحل الإيطالية؛ ليجبر حكومة جنوة على تسليم طرغود مهددا إياها بضربها ودك مينائها ومهاجمة سفنها إذا امتنعت عن تسليمه. وأمام هذا التهديد الجدي وخوفا من التعرض لنقمة العثمانيين قام الجنويون بإطلاق سراح البطل طرغود من الأسر، فعاد البطل إلى أسطوله ورجاله ولم يزده الأسر والضيم الذي لاقاه إلا إصرارا على المضي في عمله دون هوادة أو خوف،  فمنحه خير الدين باشا خمسا وعشرين سفينة حربية وسلّم له عقدا رسميا يعيّنه فيه مشرفا باسمه على العمليات الحربية التي يقوم بها الغزاة في الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط.

 

طرغود في مواجهة شارلكان ودوريا

ركّز طرغود جهوده على مقاومة الشوكة الصليبية العنيدة "فرسان يوحنا المقدسي" المعروفين باسم فرسان مالطا الذين وهب لهم الإمبراطور شارلكان جزيرة مالطة ومدينة طرابلس الغرب سنة 937هـ/1530م، بعد طردهم من جزيرة رودس في سنة 929ه/1523م من قبل الأسطول والجيش العثمانيين بقيادة السلطان سليمان القانوني نفسه حتى يكونوا مساعدين له؛ لتحقيق مخططه الذي كان يهدف إلى الاستيلاء على جميع موانئ الساحل الشرقي للمغرب العربي.

 

فما فتئ "فرسان يوحنا المقدسي" يطاردون المسلمين في البحر ويتعرضون لسفن المسلمين التجارية مثلما كانوا يصنعون عندما كانوا مقيمين بجزيرة رودس وشاركوا في جميع الحملات التي قام بها الأسطول الاسباني ضد موانئ المغرب العربي. ولذلك قرر طرغود إضعافهم وكسر شوكتهم.

 

وكان أبرز العمليات التي قام بها كانت تخريبه لجزيرة قزو التابعة لمالطة (953ه/1546م)، كما نزل بجزيرة مالطة نفسها ودمر ثلاث من قراها (954هـ/1547م)، واستولى في عرض البحر في خليج نابلي على سفينة من سفن فرسان مالطة كانت تحمل عشرين ألف دينار ذهبا هي محصول جميع الأملاك الإيطالية التابعة للفرسان. وقد استهدفت تلك الغزوة مدينة كاستلا ماري التي نهبت وأسر عدد كبير من سكانها.

 

ثم استطاع طرغود باشا أن يحكم سيطرته على مدينة المهدية الساحلية ذات الموقع الاستراتيجي الخطير سنة 956 ه/1549م، مما أدى لثورة وضجة كبيرة في أوروبا، فقد أرسل نائب الملك بصقلية إثر فتح المهدية من قبل طرغود إلى الإمبراطور شارلكان مقارنا المهدية بمدينة الجزائر من ناحية أهميتها الاستراتيجية ومدّعيا تفوقها على الجزائر. فأرسل شارلكان بأسطول يحمل أربعة آلاف مقاتل بقيادة نائب الملك بصقلية وحاصر المهدية وقت انشغال طرغود بغزو الجزر الإيطالية، فقاومت حامية المهدية من الأتراك وأهاليها المهاجمين ببسالة نادرة. ودام الحصار ثلاثة أشهر. والتحق طرغود بساحة العمليات. وحاول فكّ الحصار فلم يفلح ورميت المدينة وأسوارها بثلاثين ألف قذيفة من حديد. ولم يستسلم أهلها إلاّ بعد معركة حامية دارت في أزقة المدينة، مع العلم كان السلطان الحفصي الخائن مع الإسبان في قتالهم ضد بني قومه ودينه؛ من أجل أن يجلس تارة أخرى على عرش تونس عميلاً لشارلكان.

 

تأثر السلطان سليمان القانوني بما حدث في المهدية وجرائم الصليبيين البشعة بحق أهلها، فأرسل إمدادات بحرية كبيرة لنجدة لأهلها، وفي مارس 1551م – 958هـ حاول اندريا دوريا القبض على طرغود، فقام بضرب جربة وهاجمها بـ150 سفينة، ولكن وبالرغم من أن طرغود لم يكن مستعدا للقتال استعدادا كافيا فإنه لم يقف مكتوف اليدين، فقام بجمع رجاله، واستعان بسكان الجزيرة، وأخذ يصب نيران مدافعه على الأسطول الصليبي، وفاجأ اندريا بعمل لم يكن يتوقعه في أبشع كوابيسه؛ ففي ظلام الليل قام طرغود ببناء قلعة صغيرة في رأس الجزيرة، ونصب عليها المدافع، وأخذ يصْلي أسطول دوريا بنيران مدافعه؛ ليوهم دوريا بأنه عازم على البقاء والدفاع عن نفسه. ولكنه كان في الوقت نفسه يراقب حفر ألفين من المتطوّعين من سكّان جربة مجرى في البحر القصير، يتيح لأسطول طرغود اجتياز البحر العميق غربي الجزيرة دون أن يفطن به دوريا.

 

 وتم حفر المجرى بعد ثمانية أيام. وأفرغ طرغود السّفن من عتادها حتى تخفّ. وصنع من الصواري ومصطبات الخشب -التي يجلس عليها الجدافون- أطوافا؛ لحمل المدافع. واجتازت المراكب والأطواف منطقة البحر القصير، وعامت في الماء العميق في ناحية أجيم، واستعادت عتادها ومدافعها، وتوجّهت نحو بلاد اليونان قاصدة قاعدة تجمّع الأسطول العثماني، حيث سيتسلّم قيادته البحرية وقد أرسل إليه السلطان من أجل ذلك.

 

طرغود وتحرير طرابلس الغرب

سقطت طرابلس الغرب في أيدي الإسبان في سنة (916هـ -1510م)، وظلت بحوزتهم إلى أن قام البابا بالتوسط لدى (شارلكان) ملك إسبانيا في إعطائها لـ (فرسان مالطا) -ألد أعداء المسلمين-؛ تقديرا لجهودهم في الحملات والحروب الصليبية وذلك بعد خروجهم مكللين بعار الهزيمة والخزي من رودس على يد السلطان سليمان القانوني سنة (939هـ -1522م).

 

استدعى السلطان سليمان القانوني طرغود إلى إسطنبول، وطلب منه فتح طرابلس تحت قيادة (سنان باشا) الذي زوده بأسطول قوي بلغ 120 سفينة، وأهدى طرغود مصحفا شريفا وسيفا مرصعا، فقبل طرغود هذه المهمة الغالية خصوصا لعلمه ما يعانيه أهل طرابلس من قسوة الصليبيين الحاقدين، وقام بالتبرع بخمسين سفينة حربية من ممتلكاته الخاصة لدعم الأسطول.

 

في (15أغسطس1551م – 958هـ) استطاع طرغود باشا -بـ (40 مدفعا – 6000 جندي)- الاستيلاء على طرابلس، وهزم الفرسان هزيمة ساحقة وأجلاهم عنها، بالرغم من الدفاع المستميت لحاكمها الفرنسي جاسبر دي فاليري، ومنذ هذا التاريخ أصبحت طرابلس الغرب ثان إيالة عثمانية بحرية في المغرب الإسلامي، وتولى إمرتها (مراد أغا)، ومن بعده طرغود باشا رحمهما الله.

 

طرغود ومعركة جربة الخالدة

في سنة 962 ه أصبح طرغود والياً على طرابلس، فبذل أقصى جهده في توسيع منطقة النفوذ العثمانيّ فاحتلّ مدينة ڤفصة، وبسط نفوذه على جزيرة جربة ومدينة صفاقس في سنة 963هـ/1556م، واستولى على مدينة القيروان في سنة 964هـ/1557م، وأجبر حاكمها محمد بن أبي الطيب الشابي على الفرار.

 

وفي سنة 967هـ/1560م امتحن طرغود بمواجهة حملة إسبانية ذات طابع الحملات الصليبية الكبرى؛ شبيهة في حجمها وجنسيات جنودها بحملتي الإمبراطور شارل الخامس على حلق الوادي وتونس (942هـ/1535م)، وعلى مدينة الجزائر (948 هـ/1541م) حيث كانت تلك الحملة التي وجهت إلى طرابلس الغرب، ثم جربة تعتمد مائة سفينة بين أغربة وسفن حمل للجند والعتاد وثلاثين ألف مقاتل من إسبانيا ونابولي وصقلية وألمانيا ومالطة.

 

وقد نظّمت هذه الحملة البحرية إثر مساع حثيثة لدى ملك إسبانيا فيليب الثاني ابن الإمبراطور شارل الخامس، وقام بها فرسان مالطة لاسترجاع مدينة طرابلس الغرب التي طردوا منها منذ تسع سنوات. تجمع الأسطول الاسباني في مالطة نفسها وأسهم الفرسان في الحملة بخمسة أغربة وأربعمائة فارس وخمسمائة من المشاة الحاملين للبنادق وجميعهم من سكان الجزيرة، وأقلع الأسطول من مالطة في شهر فيفري من سنة 1560م في اتجاه مدينة طرابلس، وكان القصد مفاجأة طرغود شتاء.

 

نزل التحالف الصليبي بزوارة وشرع في حصار طرابلس. ونشبت المعارك تحت أسوار المدينة ودعم طرغود تحصيناته، وأبدى المدافعون عن المدينة شجاعة نادرة جعلت الجيش الزاحف يوقن أنّ طرابلس يستحيل احتلالها عنوة، فقرر قائد الحملة -وهو نائب الملك بصقلية- الانسحاب. وحتى لا تنتهي الحملة بالخسران وحتى لا يحرم الجنود من الغنائم وجه قائد الحملة السفن إلى جزيرة جربة وأنزل بها الجيش. وحاول سكّان الجزيرة الدفاع عن أنفسهم وقاوموا الأعداء، ولكن تفاوت القوى المتقابلة أرغمهم على الخضوع للصليبيين.

 

وانتشر الجنود الإسبان والإيطاليون والألمان في الجزيرة ينهبون خيراتها من زيت وصوف وأنسجة مختلفة شحنوا بها السفن. وأركبوا حتى الحيوانات كالخيل والجمال. وكان العساكر والضباط يعتزمون بيع ما نهبوه عندما يعودون إلى صقلية والحصول على أرباح طائلة. وكان قادة الحملة ينوون مغادرة الجزيرة وترك حامية في البرج الكبير قبل قدوم العمارة العثمانية في وقتها المعتاد؛ أي في بداية الصيف. ولكن العمارة العثمانية قدمت في الربيع في ليلة الحادي عشر من شهر مايو 1560م. كان الأسطول العثماني بقيادة بيالي باشا وقد جعل على طليعته قلج علي الذي أرسله طرغود باشا إلى استانبول؛ لإعلام الباب العالي بفشل الزحف على طرابلس الغرب وباحتلال جزيرة جربة من الإسبان.

 

وعندما لاحت أشرعة سفن العمارة العثمانية في عرض البحر استولى الرعب على قلوب الملاحين والجنود الإسبان وعمّت الفوضى. ما كان يفكر أحد في مواجهة الأسطول القادم، بل كان جميعهم يفكرون في الفرار. وحتى تخفّ السفن أفرغوها مما كان يثقلها مما نهبوه في الجزيرة من مؤن وخيل وإبل ورموها في البحر.

 

وانقضّ الأسطول العثماني على سفن الأعداء، وقد عمّت الفوضى بينهم، فأغرق بعضها واستولى على بعضها الاخر والتحق بالسفن التي استطاعت أن تفرّ في عرض البحر أمام صفاقس. ودارت معركة انتهت بهزيمة نكراء ولم يلتحق بصقلية من ذلك الأسطول الاسباني الذي كان يعدّ قرابة مائة سفينة إلا ثلاث سفن. لقد استولى العثمانيون على ثمانية وعشرين غرابا وسبعة وعشرين سفينة شاحنة وأسروا خمسة آلاف منهم القائد الأعلى للحملة وقائد الأسطول. وغرق أو قتل ثمانية عشر ألفا من الجنود والملاّحين النصارى، وبقي "البرج الكبير" تقيم به حامية إسبانية تتألّف من ألفي مقاتل، فحاصره بيالي باشا بجند العمارة وملاحيها، ودعا طرغود، فأتاه مع ألفي مقاتل من طرابلس وعدد من المدافع ألحقت بالمدافع التي أنزلها الأسطول، وضُرب حصار على "البرج الكبير" وقد شارك فيه إضافة إلى جنود الأتراك ألف وخمسمائة فارس من جربة وعدد كثير من المتطوعين. دام الحصار شهرين ونصف شهر، وقتل جميع جنود الحامية الاسبانية. وبأمر من طرغود باشا بني هرم بجماجم القتلى الإسبان قريبا من البرج الكبير تخليدا لذلك الانتصار. وقد بقي الهرم قائما مدة ثلاثة قرون تقريبا.

 

استشهاد البطل

اشتغل طرغود في أخريات حياته بالسهر على شؤون طرابلس وإعادة الاطمئنان إلى نفوس أهاليها دون إهمال الغزو في البحر. وأهمّ واقعة خاضها في تلك الفترة هي التي دمّر فيها كامل أسطول صقلية قرب جزر ليباري في سنة 968هـ/1561م. وفي سنة 973هـ/1565م، قرر السلطان سليمان القانوني تنظيم حملة بحرية وبرّية ضخمة للقضاء على "فرسان يوحنا المقدسي" بمالطة أولئك الرهبان الصليبييّن الذين طردهم من رودس في بداية عهده منذ أكثر من أربعين سنة. فاستقروا في جزيرة مالطة، واتّخذوها قاعدة؛ لمواصلة مكافحة المسلمين برّا وبحرا بحماسة صليبية لم تُفتر.

 

قدمت البحرية العثمانية التي كانت تعد مائة وثمانين سفينة بقيادة بيالي باشا حاملة جيشا يتألّف من ثلاثين ألف جندي بقيادة مصطفى باشا.

 

التحق طرغود باشا بالجيش العثماني المحاصر لمالطة في أوائل شهر يوليو 1565م، قادما من طرابلس ومعه ثمانية وعشرون سفينة مقاتلة وثلاثة آلاف جندي. وعند وصوله لاحظ أنّ القائد الأعلى للجيش مصطفى باشا ارتكب هفوة كبيرة وهي عدم احتلاله للمرتفعات التي تحيط بالقلعة مع تركيز جهوده على أحد حصون القلعة، وهو حصن "سان إلمو"، ولم يكن في وسعه معالجة هفوة مصطفى باشا فتقدّم وأخذ على عاتقه تسيير حصار الحصن معتمدا، كعادته؛ اعتمادا كبيرا على المدفعية والجنود المتخصّصين في وضع الألغام. وشدّد محاصرة الحصن، وهيأ جنوده؛ لاقتحامه وكان دائما في مقدمتهم، فأصابته شظية في رأسه إصابة قاتلة.

 

في الحال هرع قادة الحملة العثمانية إلى مقر طرغود، حيث جاء كل من مصطفى باشا، وأقرب صديق له (محمد باشا بن صالح ريس رحمه الله)، وتلميذه المحبوب (قلج علي)، وما هي إلا عدة ساعات حتى أفضى إلى جوار ربه أسد البحار الذي لطالما جاب البحر المتوسط ذهابا وإيابا طيلة عمره مجاهدا غازيا في سبيل الله عن عمر يناهز الـ 80 سنة لله دره، وقد تقرر نقله ودفنه في طرابلس التي خلصها هو وتلميذه (قلج علي) من ظلم النصارى الحاقدين، فدفن بها وقبره الآن بمقربة من البحر (وسبحان الله يكون قبره بجانب البحر مثل خير الدين رحمه الله، فهو قد عاش فيه طوال حياته وها هو يدفن بجانبه).

المشاهدات 500 | التعليقات 0