طاعون هذا الزمان

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإيمان والعقيدة ... لا يزال الإنسان بطبعه يفر من الموت، ويحذر من كل سبب يوصله إلى الموت، وما علم أن الموت أمامه وليس خلفه، وما علم أنه يسير إلى الموت ولا يهرب منه، وما علم أنه يقترب منه ولا يبتعد عنه ( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ).
لقد جعل الله الحياة دولاً، جيلاً يخلفه جيل آخر، هكذا دواليك حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وكما قيل: أرحام تدفع، وأرض تبلع.
ومهما تعددت الطرق للموت، وتنوعت الأسباب، إلا أن الموت واحد، ووقته لا يتغير.
من لم يمت بالسيف مات بغيره *** تعددت الأسباب والموت واحد
وخير من ذلك قوله تعالى ( فإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ).
عباد الله ... مَن يتأمَّلْ حياةَ البشر عبرَ التاريخ، يَرَ أنَّ الأمراض العامَّة، والأوبِئة المُعدية، لم يخلُ منها عصرٌ من العصور.
فتعالَوا -نقلب صفحاتِ التاريخ، لنقف مع مأساةٍ غير عابرة، ذاقتْها الأمَّةُ حِينًا من دهرها، مع وَبَاءٍ غارَتْ مواجعُه، وعظُمَتْ فواجعُه، هو أوَّل وباء حلَّ بأمَّة الإسلام، ففَتَك بخيارها، وأَفنى شبابَها وشِيبَها، ورمَّل نِساءَها، ويتَّمَ أطفالَها.
إنها مأساة طاعون عَمَواس، وما أدراك ما طاعون عَمَواس؟! نستذكر هذه المأساة، ونحن نرى اليومَ الأمراضَ المعدية قد تنوَّعت أسماؤُها، وتفاقمَ انتشارُها؛ لنعلم نحن الأبناء ما قد ذاقَه آباؤنا الأولون من المصائب والبلاء، ولعلَّ ذلك يهوِّن علينا ما نراه من مصائبِ عالَم اليوم.
هذا الطاعون سُمِّي بطاعون عمواس؛ لأن هذا المرض ابتدأ وقوعه في بلدة صغيرة في فلسطين تسمى عَمَواس، كان بها معسكر المسلمين أيَّام خلافة الفاروق -رضي الله عنه-.
معاشرَ المسلمين: في السنة الثامنةَ عشرةَ للهجرة، كان موكبُ الفاروق -رضي الله عنه- يودِّع أهل المدينة، ميمِّماً وجهَه شطر الشام، وقد خرج معه في سفره ذاك مشيخةُ قريش، وأعيانُ المهاجِرين والأنصار، خرج الفاروق إلى أرض الشام، ليتفقَّدَ الأمصار، وينظم الثغور، ويُتابِع أحوال الرعيَّة، حتى إذا أشرف عمرُ على الشام نزل بِسَرْغَ؛ وهي منطقة تقع بعد تبوك على حدود الأردن.
في هذا المكان استقبل أمراءُ الشام خليفةَ خليفةِ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، فأخبروه أن الأرضَ سَقِيْمَةٌ، وأن الوَباءَ قد ظَهَرَ، فجمع عمرُ رؤوسَ الناسِ وشاوَرهم، فرأى بعضُهم أن يَرجِع إلى المدينة، وألاَّ يخاطر بأرواح المؤمنين، ورأى آخَرون: إنك خرجت لأمرٍ، ولا نرى أن ترجع عنه. وبعد صَمْتٍ وتفكير، قرَّر عمر أن يرجع من حيث أتى.
وكان أمير الشام أبو عبيدة ممَّن لا يرَى رجوع عمر، فقال: يا أمير المؤمنين: أفِرارًا من قدَر الله؟! فقال الفاروق الملهَم: "لو غيرك -يا أبا عبيدة- قالها! نعم، فرارًا من قدر الله إلى قدر الله".
وكان عبد الرحمن بن عوف غائبًا، لم يشهد استِشارةَ عمرَ وحوارَه مع أبي عبيدة، فلمَّا أُخبِر بذلك، قال: عندي من هذا علْمٌ، سمعتُ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول: "إذا سمعتم به بأرضٍ فلا تقدموا عليه، وإذا وقَع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا فِرارًا منه".
فلمَّا سمع عمر -رضي الله عنه- قولَ نبيِّه -صلَّى الله عليه وسلَّم- اطمأنَّتْ نفسه، وحمد الله -تعالى- ثم قفَل راجعًا إلى المدينة، وعاد أمير الشام أبو عبيدة إلى أرض الشام.
نعم؛ لقد تفرَّق الأَخَوان، المبشَّران بالجنان، وما علِما أن هذا اللقاء والحوار هو آخرُ لقاءٍ يجمعهما في دنيا الناس.
وانتشر الوباء واحتَضَن الطاعونُ أرضَ الشام، وعَمَّ الموتُ بأهل الإسلام، وحلَّت مَهلَكةٌ ما عرفتْها الشام في تاريخها، حتى إن القبيلة الكاملة كانت تموت بأسرها، فأصبح الموت هو حديثَ الناس، وانتظارُ الموت هو هاجسَ الناس، فكان الناس في المصيبة سواءً.
فهذا الحارث بن هشام، صاحب رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يدخل الشام قبْل الطاعون، بسبعين من أهل بيته، فلم يَرجِع منهم إلا أربعة. وكان لِخالد بن الوليد نحوَ أربعين ولدًا ماتوا جميعُهم في طاعون عَمَواس.كان جندُ المسلمين بالشام ستةً وثلاثين ألف مُجاهدٍ ومُرابطٍ، مات منهم ثلاثون ألفًا، ولم يبقَ منهم إلا ستَّة آلاف.
في هذا الطاعون فُجِع المسلمون بفقْد قاماتٍ يعِزُّ وجودُهم، ممَّن كان لهم أثرٌ وتأثيرٌ في حياة الناس، لقد فَتك هذا الطاعونُ بالقادةِ العسكريين، والعلماءِ الربانيين، والزهَّادِ العابدين، ومِن آلِ البيت المقرَّبين: أبو عبيدةَ بنُ الجراحِ، ومعاذُ بنُ جبل، وبلالُ بنُ رباح، والفضلُ بنُ العباس، وشُرَحْبِيلُ بنُ حَسَنَةَ، ويَزيدُ بنُ أبي سفيانَ، وأبو مالكٍ الأشعريُّ، وخَلْقٌ كثيرٌ مِن أشراف الصحابة، وساداتِ الأمَّة، مضَوْا إلى ربهم متأثِّرين بهذا الوباء القاتل. لقد كانت بحقٍّ فاجعةً هزَّت كِيانَ الأمَّةِ كلِّها، وأحدثتْ في جسدها جرْحًا غائرًا، لا يَلتَئِم مع الأيَّام.
أمَّا حال عمر مع هذه المحنة فلا تسل عن حالِه؛ ضاقَتْ عليه نفسُه، ازداد غمُّه، وطال همُّه، وكَثُرَ تفكيره، ودام كمَدُه.
كانت أخبارُ أهل الشام لا تَنقَطِع عن عمر، ولكأنَّنا واللهِ بقلْبِ الفاروق يتقطَّع ألمًا وكمدًا، كلَّما دلفَ سمعَه رحيلُ رجلٍ من رِجالات أهل الإسلام.
أمَّا القائدُ الزاهد الصالح أبو عبيدةَ فقد رأى أنَّ مُروءَتَه تَأبى عليه أن يخرج من أرضِ الشام سليمًا مُعافًى، ويبقى جيشُه الذي طالما قاتَل، وجاهَد معه تتخطَّفه الأمراض، ويفتك به الوباء.
فأُصِيب أمين هذه الأمَّة أبو عبيدة بن الجرَّاح بالطاعون، ومات في إثر ذلك، وحزن عليه الناس حزنًا شديدًا طويلاً. واستَخلَف عمرُ -رضي الله عنه- بعدَ أبي عبيدة معاذَ بنَ جبلٍ، العالِمَ الشابَّ، أعْلمَ هذه الأمَّةِ بالحلالِ والحرامِ. فخطب بأهل الشام في هذه المأساةِ خطبةً بَليغةً مؤثِّرةً ذَكَّرهم بالصبر على البلاء، والتسليم للقضاء، والحِرْص على الاستِمساكِ بالدِّين، وعدمِ التأسُّف على الحياة، وكان مما قال : إنَّ هذا الوجع رحمة ربكم، ودعوة نبيِّكم، وموت الصالحين قبلَكم ... ثم انتَقَل الوباءُ إلى بعض أهل بيت معاذ بن جبل، ثم سرَت العدوى إليه، ولم يَدُم طويلاً، فلقي ربه في إثر ذلك وعمره ثلاث وثلاثون سنة -رضِي الله عنه-.
وحين أراد الله -سبحانه- للغمَّة أن تنقَشِع، وللوباء أن ينكَشِف، هيَّأ له أسبابَه، فكانت نهايَة هذا المرضِ بعد إرادة الله -سبحانه- على يد الداهية عمرو بن العاص، فحين تولَّى أمر الشام بعد معاذ رأى أن هذا المرض يشتَعِل وينتَشِر حال اجتِماع الناس، فأصدر أمْرَه بأن يهجر الناسُ المدن، ويتفرَّقوا في الجبال والمناطق المرتفعة.
فبلغ عمرَ ما صنع عمرٌو، فأَعجَبَه فعْلُه وما كرهه، وما هي إلا شهور وأيَّام، إلا وقد ارتَفَع البلاء وانتهت العدوى، وعاد الناس إلى أرض الشام بعد أيَّامِ الموت، ومأساةٍ غائرةٍ لا تُنسى.
ذلك -عبادَ الله- شيءٌ من خبر هذا الطاعون، وطرَف من حال الناس فيه.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية :

الحمد لله رب العالمين ...
معاشر المؤمنين .. من علم أن القدر مكتوب، وأنه لا يكون شيء إلا بأمر الله، وأن ما قدّره الله فهو كائن لا محالة، متى استقرت هذه في القلب، وأيقن بها صاحبها، اطمأن قلبه، وزال همه وخوفه من الأقدار، وانزاحت عنه الوساوس والأوهام، لذا كان لزامًا علينا جميعًا أن نغرس التوكل في قلوبنا غرسًا، ونسقيه بكلام الله وسنة رسوله لننعم بالحياة المطمئنة.
عباد الله ... الكل يتكلم عن مرض كورونا المنتشرِ هذه الأيام، فلنتذكر قول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ( واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك ).
إن المؤمن في هذه الدنيا معرّض للبلاء، من مرض وعدو ونحو ذلك، وقد جعل الله للمسلم ما يحفظه من ذلك، وهي أقوى الأسباب التي يدفع بها مثل ذلك، بل هي أقوى من الأسباب الحسية التي يعتمد عليها البعض، بل البعض يتوكل عليها والعياذ بالله.
فأذكار الصباح والمساء خير حافظ من الله للعبد، قال -جل ذكره- ( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ).
فإذا صلّى العبد الفجر ذكر الله الذكر الوارد دبر الصلاة، ثم جاء بأذكار الصباح، وإذا صلى العصر جاء بالأذكار الواردة دبر الصلاة ثم جاء بأذكار المساء، كما قال تعالى ( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ).
ومما سنّ لنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- من الأذكار التي تحفظ العبد كما في حديث خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةِ, عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ ( مَنْ نَزَلَ مَنْزِلا فَقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ ).
وفي حديث عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم ( ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: "بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ثلاث مرات، لم يضره شيء )
قال القرطبي -رحمه الله- عن هذا الحديث: "هذا خبر صحيح، وقول صادق علمنا دليله دليلاً وتجربة، فإني منذ سمعته عملت به فلم يضرني شيء إلى أن تركته، فلدغتني عقرب بالمدينة ليلاً، فتفكرت فإذا أنا قد نسيت أن أتعوذ بتلك الكلمات". اهـ.
ومن الأسباب الشرعية الواردة: ما أخبرنا سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ( من تصبَّح سبع تمراتٍ عَجْوَة لم يضره ذاك اليوم سمٌّ ولا سِحْر ).
وفي لفظ "من تمر المدينة"- قال شيخنا ابن باز -قدس الله روحه-: "ويرجى هذا في التمر كله".
معاشر المسلمين: لنتوكل على الله، فمن توكّل على الله كفاه، ولنعمل بالأسباب والاحتياطات من غير مبالغة ولا ركون للأسباب، ولنعلم أنه ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، وأن انتشار الفواحش يسبب الأمراض التي لم تعرف من قبل، فما دفع البلاء بمثل التوبة والاستغفار، وكثرة الطاعات، والدعاء.
اللهم ارفع عنا الوبا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.
المشاهدات 2259 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا