ضرب النساء
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
1434/08/04 - 2013/06/13 02:37AM
ضَرْبُ النِّسَاءِ
5/8/1434
الحَمْدُ للهِ الحَلِيمِ العَلِيمِ؛ أَضْحَكَ وَأَبْكَى، وَأَمَاتَ وَأَحْيَا، وَخَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلاَئِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَأَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَقَضَى بِالحَقِّ وَهُوَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَوْصَى بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، وَحَرَّجَ حَقَّهُنَّ لِضَعْفِهِنَّ، وَحَرَّمَ ظُلْمَهُنَّ وَإِيذَاءَهُنَّ، فَكَانَ خَيْرَ النَّاسِ لِلنِّسَاءِ فِي وَصِيَّتِهِ بِهِنَّ، وَكَانَ خَيْرَهُمْ لِأَهْلِهِ فِي مُعَامَلَتِهِنَّ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاسْتَقِيمُوا عَلَى دِينِهِ، وَالْتَزِمُوا أَمْرَهُ، وَعَظِّمُوا كِتَابَهُ، وَخُذُوا بِوَصَايَا نَبِيِّهِ؛ فَإِنَّ الخَيْرَ كُلَّ الخَيْرِ فِي الْتِزَامِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21].
أَيُّهَا النَّاسُ: جَعَلَ اللهُ تَعَالَى عَلاَقَةَ المَرْأَةِ بِالرَّجُلِ عَلاَقَةَ تَفَاهُمٍ وَتَكَامُلٍ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا عَلاَقَةَ تَضَادٍّ وَتَصَادُمٍ، وَجَعَلَ السُّلْطَةَ لِلرَّجُلِ عَلَى المَرْأَةِ بِالوِلاَيَةِ وَالقِوَامَةِ؛ ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء﴾[النِّسَاء: 34].
وَشَرَعَ لِأَوْلِيَاءِ النِّسَاءِ تَأْدِيبَهُنَّ بِمَا يَحْفَظُ عَلَيْهِنَّ دِينَهُنَّ وَحَيَاءَهُنَّ، وَيُهَذِّبُ سُلُوكَهُنَّ، وَيَحْجِزُهُنَّ عَمَّا لاَ يَحِلُّ لَهُنَّ، وَلَوِ اقْتَضَى ذَلِكَ الهَجْرَ أَوِ الحَجْرَ أَوِ الحِرْمَانَ مِنْ شَيْءٍ أَوْ حَتَّى الضَّرْبَ، وَلَكِنَّهُ ضَرْبُ تَأْدِيبٍ لاَ ضَرْبَ انْتِقَامٍ وَتَشَفِّي وَتَشَهِّي.
فَلِلْأَبِ أَنْ يَضْرِبَ ابْنَتَهُ لِتَأْدِيبِهَا عَلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ، وَكَذَلِكَ الأُمُّ مَعَ بَنَاتِهَا، وَالمُعَلِّمَةُ مَعَ طَالَبَاتِهَا، وَمُرَبِّيَةُ اليَتِيمَةِ؛ لِمَا رُوِيَ مِنْ أَمْرِ الأَوْلاَدِ بِالصَّلاَةِ لِسَبْعٍ، وَضَرْبِهِمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَالبِنْتُ أَحَدُ الوَلَدَيْنِ فَتُؤَدَّبُ عَلَى تَرْكِ الصَّلاَةِ، وَعَلَى إِخْلَالِهَا بِالوَاجِبَاتِ، وَعَلَى فِعْلِ المَحْظُورَاتِ؛ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: «عَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطْعَنُ بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي»؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَبَوَّبَ عَلَيْهِ البُخَارِيُّ فَقَالَ: بَابُ طَعْنِ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ فِي الخَاصِرَةِ عِنْدَ العِتَابِ.
وَنُقِلَ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الوَلَدَ يُضْرَبُ عَلَى الأَدَبِ.
وَأَمَّا الأَخُ مَعَ أُخْتِهِ فَهُوَ أَضْعَفُ سُلْطَةً، وَأَقَلُّ حَقًّا مِنَ الأَبِ مَعَ ابْنَتِهِ، فَلاَ يَضْرِبُهَا مَعَ حُضُورِ الأَبِ؛ لِأَنَّهُ المَسْؤُولُ وَالمُرَبِّي، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ الوِلاَيَةُ عَلَيْهَا بِغِيَابِ الأَبِ فَلَهُ أَنْ يُؤَدِّبَهَا بِالضَّرْبِ إِنِ اسْتَنْفَدَ مَعَهَا طُرُقَ النُّصْحِ وَالهَجْرِ وَالزَّجْرِ وَالتَّهْدِيدِ وَالحِرْمَانِ، وَلاَ يَضْرِبُهَا ضَرْبَ مُنْتَقِمٍ مُتَشَفِّي، وَإِنَّمَا مُؤَدِّبٍ رَحِيمٍ، وَلْيَنْتَبِهْ إِلَى أَنَّهُ أَقَلُّ رَحْمَةٍ مِنَ الأَبِ فَلاَ يَتَمَادَى، وَكَمْ مِنْ إِخْوَانٍ يُبْرِحُونَ أَخَوَاتِهِمْ ضَرْبًا وَصَفْعًا وَلَكْمًا لاَ يَخَافُونَ اللهَ تَعَالَى فِيهِنَّ، وَهُنَّ ضَعِيفَاتٌ.
وَإِذَا كَبِرَتِ البِنْتُ أَوِ الأُخْتُ فَلاَ يَحْسُنُ ضَرْبُهَا مَهْمَا كَانَ خَطَؤُهَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَتْرُكُ آثَارًا عَمِيقَةً فِي نَفْسِهَا، وَيَكْسِرُ قَلْبَهَا، وَإِنْ صَلَحَ ضَرْبُ الصَّغِيرَةِ لِلتَّأْدِيبِ فَلاَ يَصْلُحُ لِلْكَبِيرَةِ؛ بَلْ قَدْ يُؤَدِّي بِهَا إِلَى العِنَادِ وَالانْتِقَامِ وَالهَرَبِ مِنَ المَنْزِلِ، وَرُبَّمَا الانْتِحَارِ أَوِ الإِضْرَارِ بِنَفْسِهَا، فَالكَبِيرَةُ تُعَلَّمُ وَتُوَجَّهُ وَتَنْصَحُ وَتُؤْخَذُ بِالرِّفْقِ وَاللِّينِ وَالإِقْنَاعِ، وَكَمْ مِنْ بَنَاتٍ جَرُّوا العَارَ عَلَى أُسَرِهِنَّ بِسَبَبِ رُعُونَةِ آبَائِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ.
وَأَشْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَأَقْبَحُ مَنْ يَعْتَدِي عَلَى أُمِّهِ بِالضَّرْبِ؛ فَإِنَّ الأُمَّ لاَ تُضْرَبُ مَهْمَا فَعَلَتْ أَوْ قَالَتْ أَوْ ظَلَمَتْ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾[الإسراء: 23]، وَكَمْ مِنْ أَشْخَاصٍ يَعْتَدُونَ عَلَى أُمَّهَاتِهِمْ بِالضَّرْبِ، قَطَعَ اللهُ تَعَالَى يَدَ كُلِّ وَلَدٍ تَمْتَدُّ إِلَى أُمِّهِ!
وَلاَ تُضْرَبُ الخَادِمَةُ؛ قَالَ سُوَيْدُ بْنُ مُقَرِّنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: لَقَدْ رَأَيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ مِنْ بَنِي مُقَرِّنٍ مَا لَنَا خَادِمٌ إِلا وَاحِدَةٌ فَلَطَمَهَا أَصْغَرُنَا فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُعْتِقَهَا"، وَمِثْلُهُ مَا جَاءَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الحَكَمِ السُّلَمِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا غَضِبَ مِنْ جَارِيَتِهِ فَضَرَبَهَا فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلامُ أَنْ يَعْتِقَهَا.
وَسُلْطَةُ الرَّجُلِ عَلَى الأَمَةِ لَيْسَتْ كَسُلْطَتِهِ عَلَى الخَادِمَةِ؛ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ أَمَتَهُ، وَأَمَّا خَادِمَتُهُ فَتَعْمَلُ عِنْدَهُ بِأُجْرَةٍ فَلاَ سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا حَتَّى يَضْرِبَهَا، فَإِنْ قَامَتْ بِعَمَلِهَا وَإِلاَّ اسْتَغْنَى عَنْهَا، وَكَمْ فِي البُيُوتِ مِنَ اعْتِدَاءٍ وَضَرْبٍ عَلَى الخَادِمَاتِ أَدَّى فِي بَعْضِ الحَالاَتِ إِلَى الانْتِقَامِ وَارْتِكَابِ الجَرَائِمِ!
وَأَمَّا ضَرْبُ الزَّوْجَاتِ؛ فَإِنَّ الزَّوْجَ قَوَّامٌ عَلَى زَوْجَتِهِ، وَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يُحْسِنَ مُعَامَلَتَهَا، وَيَطِيبَ عِشْرَتَهَا، وَيَبْذُلَ المَوَدَّةَ وَالرَّحْمَةَ لَهَا، وَيُدْخِلَ السُّرُورَ عَلَى قَلْبِهَا؛ لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى الأَزْوَاجَ بِذَلِكَ، ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾ [النِّسَاء: 19]، فَهُوَ القَوِيُّ وَهِيَ الضَّعِيفَةُ، وَهُوَ الآمِرُ وَهِيَ المَأْمُورَةُ، وَهُوَ الحَاكِمُ وَهِيَ الرَّعِيَّةُ، وَكُلُّ رَاعٍ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ السَّعْيُ فِيمَا يُصْلِحُهَا، فَإِذَا نَشَزَتْ زَوْجَتُهُ عَنْ طَاعَتِهِ وَعَظَهَا بِالكَلاَمِ الطَّيِّبِ، فَإِنْ لَمْ تَتَّعِظْ هَجَرَهَا فِي المَضْجَعِ؛ لِعَلَّهَا تُحِسُّ بِفَقْدِهِ فَتَحِنُّ لَهُ، فَإِنْ لَمْ تَرْعَوِ وَبَقِيَتْ عَلَى نُشُوزِهَا وَعِصْيَانِهَا حَلَّ لَهُ ضَرْبُهَا ضَرْبَ تَأْدِيبٍ؛ ﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴾[النِّسَاء: 34].
قَالَ الإِمَامُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: هُوَ أَنْ تَنْشُزَ عَنْ زَوْجِهَا فَتَنْفِرَ عَنْهُ بِحَيْثُ لاَ تُطِيعُهُ إذَا دَعَاهَا لِلْفِرَاشِ، أَوْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ امْتِنَاعٌ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنْ طَاعَتِهِ.
وَأَوْصَى النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فِي أَعْظَمِ مَحْفَلٍ، وَأَكْبَرِ جَمْعٍ، كَمَا شَرَعَ فِيهِ ضَرْبَهُنَّ، وَذَلِكَ فِي خُطْبَةِ عَرَفَةَ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاء؛ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلاَّ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذلك فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غير مُبَرِّحٍ».
وَضَرْبُ النَّاشِزِ مِنَ النِّسَاءِ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوعًا لِلْأَزْوَاجِ، فَإِنَّ الأَفْضَلَ اجْتِنَابُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ لَمْ يَفْعَلْهُ، وَهَدْيُهُ أَكْمَلُ الهَدْيِ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:«مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ وَلاَ امْرَأَةً وَلا خَادِمًا إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ...»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَاسْتَفَادَ العُلَمَاءُ مِنْهُ أَنَّ ضَرْبَ الزَّوْجَةِ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا لِلْأَدَبِ فَتَرْكُهُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ لَمْ يَفْعَلْهُ.
بَلْ وَرَدَ مَا يُنَفِّرُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:«لَا يَجْلِدُ أحدُكم امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِي آخِرِ الْيَوْمِ»؛ رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَضَرْبُ النِّسَاءِ لِلتَّأْدِيبِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ المَشْرُوعِيَّةِ وَالكَرَاهَةِ؛ فَكَرَاهَتُهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُنَافِي حُسْنَ العِشْرَةِ، وَالعَلاَقَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ هِيَ أَشَدُّ العَلاَقَاتِ البَشَرِيَّةِ وَأَوْثَقُهَا، حَتَّى كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لِبَاسًا لِلآخَرِ مِنْ شِدَّةِ الْتِصَاقِهِمَا، وَمَشْرُوعِيَّتُهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ بَعْضَ النِّسَاءِ تَتَمَرَّدُ وَتَتَمَادَى فِي تَمَرُّدِهَا إِنْ لَمْ تُؤَدَّبْ، وَقَدْ لاَ تَتَأَدَّبُ إِلاَّ بِالضَّرْبِ، وَإِلاَّ لَوْ تَأَدَّبَتْ بِغَيْرِهِ فَهُوَ أَوْلَى، وَدَلِيلُ تَرَدُّدِ ضَرْبِ النِّسَاءِ بَيْنَ الإِبَاحَةِ وَالكَرَاهَةِ حَدِيثُ إِيَاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَضْرِبُوا إِمَاءَ اللَّهُ, قَالَ: فَذَئِرَ النِّسَاء وَسَاءَتْ أَخْلاقُهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَئِرَ النِّسَاء وَسَاءَتْ أَخْلاقُهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ مُنْذُ نَهَيْتَ عَنْ ضَرْبِهِنَّ, قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاضْرِبُوهُنَّ, فَضَرَبَ النَّاسُ نِسَاءَهُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ, فَأَتَى نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْتَكِينَ الضَّرْبَ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَصْبَحَ: لَقَدْ طَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ اللَّيْلَةَ سَبْعُونَ امْرَأَةً، كُلُهُنَّ يَشْتَكِينَ الضَّرْبَ، وَايْمُ اللَّهُ لاَ تَجِدُونَ أُولَئِكَ خِيَارَكُمْ»؛ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ.
قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: فَجَعَلَ لَهُمُ الضَّرْبَ، وَجعَلَ لَهُمُ العَفْوَ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الخِيَارَ تَرْكُ الضَّرْبِ.
وَلَوْ وَقَعَتِ امْرَأَتُهُ فِيمَا يُوجِبُ الحَدَّ أَوِ التَّعْزِيرَ فَلاَ يُقِيمُهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ، وَإِنَّمَا وَظِيفَتُهُ التَّرْبِيَةُ وَالتَّأْدِيبُ، ثُمَّ إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ، وَلاَ يَحِلُّ لَهُ ضَرْبُهَا خَوْفًا مِنْ نُشُوزِهَا، أَوْ زَرْعًا لِهَيْبَتِهِ فِي قَلْبِهَا كَمَا يُوصِي بَعْضُ الجَهَلَةِ أَبْنَاءَهُمْ وَقْتَ زَوَاجِهِمْ بِالغِلْظَةِ وَالشِّدَّةِ مِنْ أَجْلِ تَعْوِيدِ المَرْأَةِ عَلَيْهَا، وَكَمْ جَرَّتْ هَذِهِ الوَصَايَا الفَاسِدَةُ مِنْ وَيْلاَتٍ عَلَى الأَزْوَاجِ وَالزَّوْجَاتِ؟ وَكَمْ هَدَمَتْ مِنْ بُيُوتٍ، وَسَبَّبَتْ مِنْ طَلاَقٍ؟!
فَإِذَا ضَرَبَهَا لِنُشُوزِهَا وَجَبَ أَلاَّ يَضْرِبَهَا وَهُوَ غَضْبَانُ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَنْتَقِمُ وَلاَ يُؤَدِّبُ، وَرُبَّمَا تَمَادَى فَجَارَ وَظَلَمَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا فَلاَ يَضْرِبُهَا أَمَامَ وَالِدَيْهِ وَأَخَوَاتِهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِهَانَةً لَهَا، وَكَسْرًا لِنَفْسِهَا، وَهُوَ تَعَدٍّ زَائِدٌ عَلَى المَأْذُونِ فِيهِ مِنَ التَّأْدِيبِ، وَكَذَلِكَ لاَ يَضْرِبُهَا أَمَامَ أَوْلاَدِهَا فَتُكْسَرُ قُلُوبُهُمْ، أَوْ تَفْقِدُ أُمُّهُمْ هَيْبَتَهَا أَمَامَهُمْ، أَوْ تَمْتَلِئُ قُلُوبُهُمْ بِالحِقْدِ عَلَى أَبِيهِمْ، وَيَكُونُ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ كَمَا وُصِفَ فِي الحَدِيثِ، وَأَنْ يَتَّقِيَ الوَجْهَ وَالمَقَاتِلَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ:«وَلاَ تَضْرِبِ الْوَجْهَ وَلاَ تُقَبِّحْ»؛ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
فَإِنْ أَظْهَرَتْ تَوْبَتَهَا وَطَاعَتَهَا كَفَّ يَدَهُ عَنْ ضَرْبِهَا؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا﴾[النِّسَاء: 34].
وَقَدْ أَطْبَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ آلَةَ الضَّرْبِ لاَ تَكُونُ مُؤْذِيَةً، وَلاَ تَتْرُكُ أَثَرًا، فَفِي شُرُوحِهِمْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ:«فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غير مُبَرِّحٍ»، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: السِّوَاكُ وَشِبْهُهُ يَضْرِبُهَا بِهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: غَيْرُ شَائِنٍ، وَقَالَ الحَسَنُ: غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، وَعَنِ الرُّويَانِيِّ قَالَ: "يَضْرِبُهَا بِمِنْدِيلٍ مَلْفُوفٍ أَوْ بِيَدِهِ لاَ بِسَوْطٍ وَلاَ عَصَا".
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ الوَجْهَ وَالمَوَاضِعَ المَخُوفَةَ؛ لِأَنَّ المَقْصُودَ التَّأْدِيبُ لاَ الإِتْلاَفُ"، فَوَيْلٌ لِغِلاَظِ القُلُوبِ الَّذِينَ إِذَا غَضِبُوا هَجَمُوا عَلَى نِسَائِهِمْ رَكْلًا وَصَفْعًا وَضَرْبًا بِأَيِّ شَيْءٍ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ، فَلاَ يَكُفُّ عَنْهَا حَتَّى تَتَرَنَّحَ تَحْتَهُ، أَوْ تَسِيلَ دِمَاؤُهَا أَمَامَهُ، فَتُخْفِي عَنْ أَهْلِهَا وَوَلَدِهَا جَرَائِمَ زَوْجِهَا فِيهَا، وَتَخْتَلِقُ أَعْذَارًا لِكَدَمَاتِ وَجْهِهَا، وَأَثَارِ جَرِيمَتِهِ فِيهَا؛ سَتْرًا عَلَى زَوْجِهَا، فَلاَ يَحْفَظُ ذَلِكَ لَهَا، وَلاَ يَزِيدُهُ إِلاَّ تَمَادِيًا فِي غَيِّهِ، وَإِصْرَارًا عَلَى ظُلْمِهِ، وَالظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَكُلُّ ظَالِمٍ سَيَجِدُ عَاقِبَةَ ظُلْمِهِ فِي يَوْمٍ لاَ يَنْفَعُ فِيهِ قُوَّةٌ وَلاَ جَاهٌ وَلاَ مَالٌ؛ ِ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النِّسَاء: 40].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ...
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُم إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾[البقرة: 281].
أَيُّهَا النَّاسُ: شَرِيعَةُ اللهِ تَعَالَى وَإِنِ انْتَقَدَ الكُفَّارُ وَالمُنَافِقُونَ شَيْئًا مِنْهَا فَإِنَّهَا شَرِيعَةٌ كَامِلَةٌ غَالِبَةٌ بَاقِيَةٌ؛ فَكَمَالُهَا قَدْ أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَغَلَبَتُهَا لِكُلِّ الأَدْيَانِ وَالمَذَاهِبِ وَالأَفْكَارِ بِمَا كَتَبَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ غَلَبَةِ أَوْلِيَائِهِ لِأَعْدَائِهِ؛ ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ [المجادلة: 21]، وَأَمَّا بَقَاؤُهَا فَبِحِفْظِ اللهِ تَعَالَى لَهَا، وَقَدِ انْتَقَدَ الكُفَّارُ وَالمُنَافِقُونَ مَا شَرَعَ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنْ ضَرْبِ الأَزْوَاجِ لِلزَّوْجَاتِ، وَوَضَعُوهُ ضِمْنَ العُنْفِ الأُسَرِيِّ المَرْفُوضِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ البِنَاءَ الفِكْرِيَّ العَلْمَانِيَّ فِي عَلاَقَةِ البَشَرِ بِبَعْضِهِمْ يَقُومُ عَلَى الفَرْدِيَّةِ، وَيَفْرِضُ المُسَاوَاةَ المُطْلَقَةَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُنْثَى، فَيَلْغِي قِوَامَةَ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ.
وَفِي الغَرْبِ الَّذِي سَوَّقَ هَذِهِ الفِكْرَةَ الآثِمَةَ الخَاطِئَةَ أَرْقَامٌ مُخِيفَةٌ عَنِ العُنْفِ ضِدَّ المَرْأَةِ، وَضَرْبِهَا ضَرْبًا مُبْرِحًا يَتْرُكُ آثَارًا عَمِيقَةً فِي نَفْسِهَا وَعَلَى جَسَدِهَا، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ القَوَانِينَ الغَرْبِيَّةَ حِينَ مَنَعَتْ ضَرْبَ النِّسَاءِ لَمْ تَسْتَطِعْ حِمَايَتَهُنَّ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ الغَرْبِيَّ يَضْرِبُ شَرِيكَتَهُ ضَرْبَ غَرَائِبِ الإِبِلِ، وَيُهَدِّدِهُا إِنْ بَلَّغَتْ عَنْهُ بِانْتِقَامٍ قَدْ يَصِلُ إِلَى قَتْلِهَا، وَالحُكُومَاتُ الغَرْبِيَّةُ لاَ تَصْرِفُ حُرَّاسَ أَمْنٍ لِمَنْ يُهَدِّدُهُنَّ شُرَكَاؤُهُنَّ بِالانْتِقَامِ، فَإِذَا شَكَتْهُ عَلَى ضَرْبِهِ إِيَّاهَا، وَأَنْهَى عُقُوبَتَهُ، تَتَبَّعَهَا فَانْتَقَمَ مِنْهَا، وَأَخْفَى جَرِيمَتَهُ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَطِيعُ إِثْبَاتَهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ إِذَا ثَبَتَتْ عَلَيْهِ، عُوقِبَ بِالسَّجْنِ فِي حِينَ أَنَّهُ قَتَلَهَا. وَلَمَّا رَأَى كَثِيرٌ مِنَ النِّسَاءِ الغَرْبِيَّاتِ أَنَّ هَذَا هُوَ مَصِيرُهُنَّ، وَالقَانُونُ لاَ يَحْمِيهِنَّ تَحَمَّلْنَ الضَّرْبَ وَالإِهَانَةَ، وَلُذْنَ بِالصَّمْتِ إِلَى حَدِّ أَنَّ المَرْأَةَ المَضْرُوبَةَ تَحْضُرُ لِلشُّرْطَةِ أَوْ لِلْمَحْكَمَةِ وَآثَارُ الضَّرْبِ فِي وَجْهِهَا وَجَسَدِهَا، فَتُنْكِرُ أَنَّهُ لَمَسَهَا خَوْفًا مِنَ العَوَاقِبِ! فَلَمْ تَمْنَعْ قَوَانِينُهُمُ الرِّجَالَ مِنْ ضَرْبِ النِّسَاءِ، وَلَمْ تَحْمِ النِّسَاءَ مِنْ تَسَلُّطِ الرِّجَالِ، وَإِنْ عَاقَبَتِ الرِّجَالَ عَلَى فِعْلِهِمْ، لَكِنَّهَا عُقُوبَاتٌ لَمْ تُغْنِ عَنِ المَرْأَةِ المَضْرُوبَةِ شَيْئًا، وَنِسَبُ اعْتِدَاءِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاء فِي ازْدِيَادٍ كَبِيرٍ عِنْدَهُمْ.
إِنَّ الإِسْلامَ حِينَ أَبَاحَ ضَرْبَ الأَزْوَاجِ زَوْجَاتِهِمْ جَعَلَ الضَّرْبَ آخِرَ العِلاَجِ بَعْدَ الوَعْظِ وَالهَجْرِ، وَضَبَطَهُ بِضَوَابِطَ كَثِيرَةٍ لِئَلاَّ يَتَمَادَى الرِّجَالُ، وَتُؤْذَى النِّسَاءُ، وَجَعَل غَيْرَ الضَّرْبِ أَفْضَلَ مِنَ الضَّرْبِ فِي العِلاَجِ، وَجَعَلَ خِيَارَ الرِّجَالِ مَنْ لاَ يَضْرِبُونَ نِسَاءَهُمْ، أَيُنْتَقَدُ الإِسْلامُ بِذَلِكَ، وَيُصَدِّقُ بَعْضُ الضِّعَافِ فِرْيَةَ الغَرْبِ وَأَذْنَابِهِ، وَقَوَانِينُهُمُ الوَضْعِيَّةُ لَمْ تُغْنِ عَنِ المَرْأَةِ شَيْئًا، وَلَمْ تَرَدَّ الاعْتِدَاءَ عَنْهَا؟! ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ [البقرة: 138].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
5/8/1434
الحَمْدُ للهِ الحَلِيمِ العَلِيمِ؛ أَضْحَكَ وَأَبْكَى، وَأَمَاتَ وَأَحْيَا، وَخَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلاَئِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَأَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَقَضَى بِالحَقِّ وَهُوَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَوْصَى بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، وَحَرَّجَ حَقَّهُنَّ لِضَعْفِهِنَّ، وَحَرَّمَ ظُلْمَهُنَّ وَإِيذَاءَهُنَّ، فَكَانَ خَيْرَ النَّاسِ لِلنِّسَاءِ فِي وَصِيَّتِهِ بِهِنَّ، وَكَانَ خَيْرَهُمْ لِأَهْلِهِ فِي مُعَامَلَتِهِنَّ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاسْتَقِيمُوا عَلَى دِينِهِ، وَالْتَزِمُوا أَمْرَهُ، وَعَظِّمُوا كِتَابَهُ، وَخُذُوا بِوَصَايَا نَبِيِّهِ؛ فَإِنَّ الخَيْرَ كُلَّ الخَيْرِ فِي الْتِزَامِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21].
أَيُّهَا النَّاسُ: جَعَلَ اللهُ تَعَالَى عَلاَقَةَ المَرْأَةِ بِالرَّجُلِ عَلاَقَةَ تَفَاهُمٍ وَتَكَامُلٍ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا عَلاَقَةَ تَضَادٍّ وَتَصَادُمٍ، وَجَعَلَ السُّلْطَةَ لِلرَّجُلِ عَلَى المَرْأَةِ بِالوِلاَيَةِ وَالقِوَامَةِ؛ ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء﴾[النِّسَاء: 34].
وَشَرَعَ لِأَوْلِيَاءِ النِّسَاءِ تَأْدِيبَهُنَّ بِمَا يَحْفَظُ عَلَيْهِنَّ دِينَهُنَّ وَحَيَاءَهُنَّ، وَيُهَذِّبُ سُلُوكَهُنَّ، وَيَحْجِزُهُنَّ عَمَّا لاَ يَحِلُّ لَهُنَّ، وَلَوِ اقْتَضَى ذَلِكَ الهَجْرَ أَوِ الحَجْرَ أَوِ الحِرْمَانَ مِنْ شَيْءٍ أَوْ حَتَّى الضَّرْبَ، وَلَكِنَّهُ ضَرْبُ تَأْدِيبٍ لاَ ضَرْبَ انْتِقَامٍ وَتَشَفِّي وَتَشَهِّي.
فَلِلْأَبِ أَنْ يَضْرِبَ ابْنَتَهُ لِتَأْدِيبِهَا عَلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ، وَكَذَلِكَ الأُمُّ مَعَ بَنَاتِهَا، وَالمُعَلِّمَةُ مَعَ طَالَبَاتِهَا، وَمُرَبِّيَةُ اليَتِيمَةِ؛ لِمَا رُوِيَ مِنْ أَمْرِ الأَوْلاَدِ بِالصَّلاَةِ لِسَبْعٍ، وَضَرْبِهِمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَالبِنْتُ أَحَدُ الوَلَدَيْنِ فَتُؤَدَّبُ عَلَى تَرْكِ الصَّلاَةِ، وَعَلَى إِخْلَالِهَا بِالوَاجِبَاتِ، وَعَلَى فِعْلِ المَحْظُورَاتِ؛ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: «عَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطْعَنُ بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي»؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَبَوَّبَ عَلَيْهِ البُخَارِيُّ فَقَالَ: بَابُ طَعْنِ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ فِي الخَاصِرَةِ عِنْدَ العِتَابِ.
وَنُقِلَ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الوَلَدَ يُضْرَبُ عَلَى الأَدَبِ.
وَأَمَّا الأَخُ مَعَ أُخْتِهِ فَهُوَ أَضْعَفُ سُلْطَةً، وَأَقَلُّ حَقًّا مِنَ الأَبِ مَعَ ابْنَتِهِ، فَلاَ يَضْرِبُهَا مَعَ حُضُورِ الأَبِ؛ لِأَنَّهُ المَسْؤُولُ وَالمُرَبِّي، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ الوِلاَيَةُ عَلَيْهَا بِغِيَابِ الأَبِ فَلَهُ أَنْ يُؤَدِّبَهَا بِالضَّرْبِ إِنِ اسْتَنْفَدَ مَعَهَا طُرُقَ النُّصْحِ وَالهَجْرِ وَالزَّجْرِ وَالتَّهْدِيدِ وَالحِرْمَانِ، وَلاَ يَضْرِبُهَا ضَرْبَ مُنْتَقِمٍ مُتَشَفِّي، وَإِنَّمَا مُؤَدِّبٍ رَحِيمٍ، وَلْيَنْتَبِهْ إِلَى أَنَّهُ أَقَلُّ رَحْمَةٍ مِنَ الأَبِ فَلاَ يَتَمَادَى، وَكَمْ مِنْ إِخْوَانٍ يُبْرِحُونَ أَخَوَاتِهِمْ ضَرْبًا وَصَفْعًا وَلَكْمًا لاَ يَخَافُونَ اللهَ تَعَالَى فِيهِنَّ، وَهُنَّ ضَعِيفَاتٌ.
وَإِذَا كَبِرَتِ البِنْتُ أَوِ الأُخْتُ فَلاَ يَحْسُنُ ضَرْبُهَا مَهْمَا كَانَ خَطَؤُهَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَتْرُكُ آثَارًا عَمِيقَةً فِي نَفْسِهَا، وَيَكْسِرُ قَلْبَهَا، وَإِنْ صَلَحَ ضَرْبُ الصَّغِيرَةِ لِلتَّأْدِيبِ فَلاَ يَصْلُحُ لِلْكَبِيرَةِ؛ بَلْ قَدْ يُؤَدِّي بِهَا إِلَى العِنَادِ وَالانْتِقَامِ وَالهَرَبِ مِنَ المَنْزِلِ، وَرُبَّمَا الانْتِحَارِ أَوِ الإِضْرَارِ بِنَفْسِهَا، فَالكَبِيرَةُ تُعَلَّمُ وَتُوَجَّهُ وَتَنْصَحُ وَتُؤْخَذُ بِالرِّفْقِ وَاللِّينِ وَالإِقْنَاعِ، وَكَمْ مِنْ بَنَاتٍ جَرُّوا العَارَ عَلَى أُسَرِهِنَّ بِسَبَبِ رُعُونَةِ آبَائِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ.
وَأَشْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَأَقْبَحُ مَنْ يَعْتَدِي عَلَى أُمِّهِ بِالضَّرْبِ؛ فَإِنَّ الأُمَّ لاَ تُضْرَبُ مَهْمَا فَعَلَتْ أَوْ قَالَتْ أَوْ ظَلَمَتْ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾[الإسراء: 23]، وَكَمْ مِنْ أَشْخَاصٍ يَعْتَدُونَ عَلَى أُمَّهَاتِهِمْ بِالضَّرْبِ، قَطَعَ اللهُ تَعَالَى يَدَ كُلِّ وَلَدٍ تَمْتَدُّ إِلَى أُمِّهِ!
وَلاَ تُضْرَبُ الخَادِمَةُ؛ قَالَ سُوَيْدُ بْنُ مُقَرِّنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: لَقَدْ رَأَيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ مِنْ بَنِي مُقَرِّنٍ مَا لَنَا خَادِمٌ إِلا وَاحِدَةٌ فَلَطَمَهَا أَصْغَرُنَا فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُعْتِقَهَا"، وَمِثْلُهُ مَا جَاءَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الحَكَمِ السُّلَمِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا غَضِبَ مِنْ جَارِيَتِهِ فَضَرَبَهَا فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلامُ أَنْ يَعْتِقَهَا.
وَسُلْطَةُ الرَّجُلِ عَلَى الأَمَةِ لَيْسَتْ كَسُلْطَتِهِ عَلَى الخَادِمَةِ؛ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ أَمَتَهُ، وَأَمَّا خَادِمَتُهُ فَتَعْمَلُ عِنْدَهُ بِأُجْرَةٍ فَلاَ سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا حَتَّى يَضْرِبَهَا، فَإِنْ قَامَتْ بِعَمَلِهَا وَإِلاَّ اسْتَغْنَى عَنْهَا، وَكَمْ فِي البُيُوتِ مِنَ اعْتِدَاءٍ وَضَرْبٍ عَلَى الخَادِمَاتِ أَدَّى فِي بَعْضِ الحَالاَتِ إِلَى الانْتِقَامِ وَارْتِكَابِ الجَرَائِمِ!
وَأَمَّا ضَرْبُ الزَّوْجَاتِ؛ فَإِنَّ الزَّوْجَ قَوَّامٌ عَلَى زَوْجَتِهِ، وَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يُحْسِنَ مُعَامَلَتَهَا، وَيَطِيبَ عِشْرَتَهَا، وَيَبْذُلَ المَوَدَّةَ وَالرَّحْمَةَ لَهَا، وَيُدْخِلَ السُّرُورَ عَلَى قَلْبِهَا؛ لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى الأَزْوَاجَ بِذَلِكَ، ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾ [النِّسَاء: 19]، فَهُوَ القَوِيُّ وَهِيَ الضَّعِيفَةُ، وَهُوَ الآمِرُ وَهِيَ المَأْمُورَةُ، وَهُوَ الحَاكِمُ وَهِيَ الرَّعِيَّةُ، وَكُلُّ رَاعٍ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ السَّعْيُ فِيمَا يُصْلِحُهَا، فَإِذَا نَشَزَتْ زَوْجَتُهُ عَنْ طَاعَتِهِ وَعَظَهَا بِالكَلاَمِ الطَّيِّبِ، فَإِنْ لَمْ تَتَّعِظْ هَجَرَهَا فِي المَضْجَعِ؛ لِعَلَّهَا تُحِسُّ بِفَقْدِهِ فَتَحِنُّ لَهُ، فَإِنْ لَمْ تَرْعَوِ وَبَقِيَتْ عَلَى نُشُوزِهَا وَعِصْيَانِهَا حَلَّ لَهُ ضَرْبُهَا ضَرْبَ تَأْدِيبٍ؛ ﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴾[النِّسَاء: 34].
قَالَ الإِمَامُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: هُوَ أَنْ تَنْشُزَ عَنْ زَوْجِهَا فَتَنْفِرَ عَنْهُ بِحَيْثُ لاَ تُطِيعُهُ إذَا دَعَاهَا لِلْفِرَاشِ، أَوْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ امْتِنَاعٌ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنْ طَاعَتِهِ.
وَأَوْصَى النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فِي أَعْظَمِ مَحْفَلٍ، وَأَكْبَرِ جَمْعٍ، كَمَا شَرَعَ فِيهِ ضَرْبَهُنَّ، وَذَلِكَ فِي خُطْبَةِ عَرَفَةَ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاء؛ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلاَّ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذلك فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غير مُبَرِّحٍ».
وَضَرْبُ النَّاشِزِ مِنَ النِّسَاءِ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوعًا لِلْأَزْوَاجِ، فَإِنَّ الأَفْضَلَ اجْتِنَابُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ لَمْ يَفْعَلْهُ، وَهَدْيُهُ أَكْمَلُ الهَدْيِ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:«مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ وَلاَ امْرَأَةً وَلا خَادِمًا إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ...»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَاسْتَفَادَ العُلَمَاءُ مِنْهُ أَنَّ ضَرْبَ الزَّوْجَةِ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا لِلْأَدَبِ فَتَرْكُهُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ لَمْ يَفْعَلْهُ.
بَلْ وَرَدَ مَا يُنَفِّرُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:«لَا يَجْلِدُ أحدُكم امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِي آخِرِ الْيَوْمِ»؛ رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَضَرْبُ النِّسَاءِ لِلتَّأْدِيبِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ المَشْرُوعِيَّةِ وَالكَرَاهَةِ؛ فَكَرَاهَتُهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُنَافِي حُسْنَ العِشْرَةِ، وَالعَلاَقَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ هِيَ أَشَدُّ العَلاَقَاتِ البَشَرِيَّةِ وَأَوْثَقُهَا، حَتَّى كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لِبَاسًا لِلآخَرِ مِنْ شِدَّةِ الْتِصَاقِهِمَا، وَمَشْرُوعِيَّتُهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ بَعْضَ النِّسَاءِ تَتَمَرَّدُ وَتَتَمَادَى فِي تَمَرُّدِهَا إِنْ لَمْ تُؤَدَّبْ، وَقَدْ لاَ تَتَأَدَّبُ إِلاَّ بِالضَّرْبِ، وَإِلاَّ لَوْ تَأَدَّبَتْ بِغَيْرِهِ فَهُوَ أَوْلَى، وَدَلِيلُ تَرَدُّدِ ضَرْبِ النِّسَاءِ بَيْنَ الإِبَاحَةِ وَالكَرَاهَةِ حَدِيثُ إِيَاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَضْرِبُوا إِمَاءَ اللَّهُ, قَالَ: فَذَئِرَ النِّسَاء وَسَاءَتْ أَخْلاقُهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَئِرَ النِّسَاء وَسَاءَتْ أَخْلاقُهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ مُنْذُ نَهَيْتَ عَنْ ضَرْبِهِنَّ, قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاضْرِبُوهُنَّ, فَضَرَبَ النَّاسُ نِسَاءَهُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ, فَأَتَى نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْتَكِينَ الضَّرْبَ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَصْبَحَ: لَقَدْ طَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ اللَّيْلَةَ سَبْعُونَ امْرَأَةً، كُلُهُنَّ يَشْتَكِينَ الضَّرْبَ، وَايْمُ اللَّهُ لاَ تَجِدُونَ أُولَئِكَ خِيَارَكُمْ»؛ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ.
قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: فَجَعَلَ لَهُمُ الضَّرْبَ، وَجعَلَ لَهُمُ العَفْوَ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الخِيَارَ تَرْكُ الضَّرْبِ.
وَلَوْ وَقَعَتِ امْرَأَتُهُ فِيمَا يُوجِبُ الحَدَّ أَوِ التَّعْزِيرَ فَلاَ يُقِيمُهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ، وَإِنَّمَا وَظِيفَتُهُ التَّرْبِيَةُ وَالتَّأْدِيبُ، ثُمَّ إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ، وَلاَ يَحِلُّ لَهُ ضَرْبُهَا خَوْفًا مِنْ نُشُوزِهَا، أَوْ زَرْعًا لِهَيْبَتِهِ فِي قَلْبِهَا كَمَا يُوصِي بَعْضُ الجَهَلَةِ أَبْنَاءَهُمْ وَقْتَ زَوَاجِهِمْ بِالغِلْظَةِ وَالشِّدَّةِ مِنْ أَجْلِ تَعْوِيدِ المَرْأَةِ عَلَيْهَا، وَكَمْ جَرَّتْ هَذِهِ الوَصَايَا الفَاسِدَةُ مِنْ وَيْلاَتٍ عَلَى الأَزْوَاجِ وَالزَّوْجَاتِ؟ وَكَمْ هَدَمَتْ مِنْ بُيُوتٍ، وَسَبَّبَتْ مِنْ طَلاَقٍ؟!
فَإِذَا ضَرَبَهَا لِنُشُوزِهَا وَجَبَ أَلاَّ يَضْرِبَهَا وَهُوَ غَضْبَانُ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَنْتَقِمُ وَلاَ يُؤَدِّبُ، وَرُبَّمَا تَمَادَى فَجَارَ وَظَلَمَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا فَلاَ يَضْرِبُهَا أَمَامَ وَالِدَيْهِ وَأَخَوَاتِهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِهَانَةً لَهَا، وَكَسْرًا لِنَفْسِهَا، وَهُوَ تَعَدٍّ زَائِدٌ عَلَى المَأْذُونِ فِيهِ مِنَ التَّأْدِيبِ، وَكَذَلِكَ لاَ يَضْرِبُهَا أَمَامَ أَوْلاَدِهَا فَتُكْسَرُ قُلُوبُهُمْ، أَوْ تَفْقِدُ أُمُّهُمْ هَيْبَتَهَا أَمَامَهُمْ، أَوْ تَمْتَلِئُ قُلُوبُهُمْ بِالحِقْدِ عَلَى أَبِيهِمْ، وَيَكُونُ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ كَمَا وُصِفَ فِي الحَدِيثِ، وَأَنْ يَتَّقِيَ الوَجْهَ وَالمَقَاتِلَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ:«وَلاَ تَضْرِبِ الْوَجْهَ وَلاَ تُقَبِّحْ»؛ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
فَإِنْ أَظْهَرَتْ تَوْبَتَهَا وَطَاعَتَهَا كَفَّ يَدَهُ عَنْ ضَرْبِهَا؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا﴾[النِّسَاء: 34].
وَقَدْ أَطْبَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ آلَةَ الضَّرْبِ لاَ تَكُونُ مُؤْذِيَةً، وَلاَ تَتْرُكُ أَثَرًا، فَفِي شُرُوحِهِمْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ:«فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غير مُبَرِّحٍ»، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: السِّوَاكُ وَشِبْهُهُ يَضْرِبُهَا بِهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: غَيْرُ شَائِنٍ، وَقَالَ الحَسَنُ: غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، وَعَنِ الرُّويَانِيِّ قَالَ: "يَضْرِبُهَا بِمِنْدِيلٍ مَلْفُوفٍ أَوْ بِيَدِهِ لاَ بِسَوْطٍ وَلاَ عَصَا".
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ الوَجْهَ وَالمَوَاضِعَ المَخُوفَةَ؛ لِأَنَّ المَقْصُودَ التَّأْدِيبُ لاَ الإِتْلاَفُ"، فَوَيْلٌ لِغِلاَظِ القُلُوبِ الَّذِينَ إِذَا غَضِبُوا هَجَمُوا عَلَى نِسَائِهِمْ رَكْلًا وَصَفْعًا وَضَرْبًا بِأَيِّ شَيْءٍ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ، فَلاَ يَكُفُّ عَنْهَا حَتَّى تَتَرَنَّحَ تَحْتَهُ، أَوْ تَسِيلَ دِمَاؤُهَا أَمَامَهُ، فَتُخْفِي عَنْ أَهْلِهَا وَوَلَدِهَا جَرَائِمَ زَوْجِهَا فِيهَا، وَتَخْتَلِقُ أَعْذَارًا لِكَدَمَاتِ وَجْهِهَا، وَأَثَارِ جَرِيمَتِهِ فِيهَا؛ سَتْرًا عَلَى زَوْجِهَا، فَلاَ يَحْفَظُ ذَلِكَ لَهَا، وَلاَ يَزِيدُهُ إِلاَّ تَمَادِيًا فِي غَيِّهِ، وَإِصْرَارًا عَلَى ظُلْمِهِ، وَالظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَكُلُّ ظَالِمٍ سَيَجِدُ عَاقِبَةَ ظُلْمِهِ فِي يَوْمٍ لاَ يَنْفَعُ فِيهِ قُوَّةٌ وَلاَ جَاهٌ وَلاَ مَالٌ؛ ِ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النِّسَاء: 40].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ...
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُم إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾[البقرة: 281].
أَيُّهَا النَّاسُ: شَرِيعَةُ اللهِ تَعَالَى وَإِنِ انْتَقَدَ الكُفَّارُ وَالمُنَافِقُونَ شَيْئًا مِنْهَا فَإِنَّهَا شَرِيعَةٌ كَامِلَةٌ غَالِبَةٌ بَاقِيَةٌ؛ فَكَمَالُهَا قَدْ أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَغَلَبَتُهَا لِكُلِّ الأَدْيَانِ وَالمَذَاهِبِ وَالأَفْكَارِ بِمَا كَتَبَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ غَلَبَةِ أَوْلِيَائِهِ لِأَعْدَائِهِ؛ ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ [المجادلة: 21]، وَأَمَّا بَقَاؤُهَا فَبِحِفْظِ اللهِ تَعَالَى لَهَا، وَقَدِ انْتَقَدَ الكُفَّارُ وَالمُنَافِقُونَ مَا شَرَعَ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنْ ضَرْبِ الأَزْوَاجِ لِلزَّوْجَاتِ، وَوَضَعُوهُ ضِمْنَ العُنْفِ الأُسَرِيِّ المَرْفُوضِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ البِنَاءَ الفِكْرِيَّ العَلْمَانِيَّ فِي عَلاَقَةِ البَشَرِ بِبَعْضِهِمْ يَقُومُ عَلَى الفَرْدِيَّةِ، وَيَفْرِضُ المُسَاوَاةَ المُطْلَقَةَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُنْثَى، فَيَلْغِي قِوَامَةَ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ.
وَفِي الغَرْبِ الَّذِي سَوَّقَ هَذِهِ الفِكْرَةَ الآثِمَةَ الخَاطِئَةَ أَرْقَامٌ مُخِيفَةٌ عَنِ العُنْفِ ضِدَّ المَرْأَةِ، وَضَرْبِهَا ضَرْبًا مُبْرِحًا يَتْرُكُ آثَارًا عَمِيقَةً فِي نَفْسِهَا وَعَلَى جَسَدِهَا، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ القَوَانِينَ الغَرْبِيَّةَ حِينَ مَنَعَتْ ضَرْبَ النِّسَاءِ لَمْ تَسْتَطِعْ حِمَايَتَهُنَّ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ الغَرْبِيَّ يَضْرِبُ شَرِيكَتَهُ ضَرْبَ غَرَائِبِ الإِبِلِ، وَيُهَدِّدِهُا إِنْ بَلَّغَتْ عَنْهُ بِانْتِقَامٍ قَدْ يَصِلُ إِلَى قَتْلِهَا، وَالحُكُومَاتُ الغَرْبِيَّةُ لاَ تَصْرِفُ حُرَّاسَ أَمْنٍ لِمَنْ يُهَدِّدُهُنَّ شُرَكَاؤُهُنَّ بِالانْتِقَامِ، فَإِذَا شَكَتْهُ عَلَى ضَرْبِهِ إِيَّاهَا، وَأَنْهَى عُقُوبَتَهُ، تَتَبَّعَهَا فَانْتَقَمَ مِنْهَا، وَأَخْفَى جَرِيمَتَهُ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَطِيعُ إِثْبَاتَهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ إِذَا ثَبَتَتْ عَلَيْهِ، عُوقِبَ بِالسَّجْنِ فِي حِينَ أَنَّهُ قَتَلَهَا. وَلَمَّا رَأَى كَثِيرٌ مِنَ النِّسَاءِ الغَرْبِيَّاتِ أَنَّ هَذَا هُوَ مَصِيرُهُنَّ، وَالقَانُونُ لاَ يَحْمِيهِنَّ تَحَمَّلْنَ الضَّرْبَ وَالإِهَانَةَ، وَلُذْنَ بِالصَّمْتِ إِلَى حَدِّ أَنَّ المَرْأَةَ المَضْرُوبَةَ تَحْضُرُ لِلشُّرْطَةِ أَوْ لِلْمَحْكَمَةِ وَآثَارُ الضَّرْبِ فِي وَجْهِهَا وَجَسَدِهَا، فَتُنْكِرُ أَنَّهُ لَمَسَهَا خَوْفًا مِنَ العَوَاقِبِ! فَلَمْ تَمْنَعْ قَوَانِينُهُمُ الرِّجَالَ مِنْ ضَرْبِ النِّسَاءِ، وَلَمْ تَحْمِ النِّسَاءَ مِنْ تَسَلُّطِ الرِّجَالِ، وَإِنْ عَاقَبَتِ الرِّجَالَ عَلَى فِعْلِهِمْ، لَكِنَّهَا عُقُوبَاتٌ لَمْ تُغْنِ عَنِ المَرْأَةِ المَضْرُوبَةِ شَيْئًا، وَنِسَبُ اعْتِدَاءِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاء فِي ازْدِيَادٍ كَبِيرٍ عِنْدَهُمْ.
إِنَّ الإِسْلامَ حِينَ أَبَاحَ ضَرْبَ الأَزْوَاجِ زَوْجَاتِهِمْ جَعَلَ الضَّرْبَ آخِرَ العِلاَجِ بَعْدَ الوَعْظِ وَالهَجْرِ، وَضَبَطَهُ بِضَوَابِطَ كَثِيرَةٍ لِئَلاَّ يَتَمَادَى الرِّجَالُ، وَتُؤْذَى النِّسَاءُ، وَجَعَل غَيْرَ الضَّرْبِ أَفْضَلَ مِنَ الضَّرْبِ فِي العِلاَجِ، وَجَعَلَ خِيَارَ الرِّجَالِ مَنْ لاَ يَضْرِبُونَ نِسَاءَهُمْ، أَيُنْتَقَدُ الإِسْلامُ بِذَلِكَ، وَيُصَدِّقُ بَعْضُ الضِّعَافِ فِرْيَةَ الغَرْبِ وَأَذْنَابِهِ، وَقَوَانِينُهُمُ الوَضْعِيَّةُ لَمْ تُغْنِ عَنِ المَرْأَةِ شَيْئًا، وَلَمْ تَرَدَّ الاعْتِدَاءَ عَنْهَا؟! ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ [البقرة: 138].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات
ضرب النساء.doc
ضرب النساء.doc
ضَرْبُ النِّسَاءِ.doc
ضَرْبُ النِّسَاءِ.doc
المشاهدات 2514 | التعليقات 2
شكر الله تعالى لك أخ شبيب مرورك وتعليقك على الخطبة وأسأل الله تعالى لك المثوبة..
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله كل خير ونفع بك
تعديل التعليق