صوم المسافرين
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
1434/08/24 - 2013/07/03 14:24PM
مِنْ أَحْكَامِ السَّفَرِ وَآدَابِهِ (6)
صَوْمُ المُسَافِرِينَ
26/8/1434
الحَمْدُ للهِ العَلِيمِ الحَكِيمِ؛ شَرَعَ الشَّرَائِعَ لِمَصَالِحِ العِبَادِ، وَجَزَاهُمْ عَلَيْهَا يَوْمَ المَعَادِ، وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ صَوْمَ رَمَضَانَ، وَخَفَّفَ عَنْهُمْ بِالقَضَاءِ وَالإِطْعَامِ، نَحْمَدُهُ عَلَى مَا فَرَضَ وَأَوْجَبَ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى مَا وَضَعَ وَخَفَّفَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ لَهُ الحِكْمَةُ البَاهِرَةُ فِيمَا خَلَقَ وَشَرَعَ، وَلَهُ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فِيمَا قَضَى وَحَكَمَ؛ [قُلْ فَللهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ] {الأنعام:149}، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ عَظَّمَ شَأْنَ الصِّيَامِ، وَبَيَّنَ مَا فِيهِ مِنَ الفَضْلِ وَالثَّوَابِ، وَأَمَرَ بِرِعَايَةِ حُرْمَةِ رَمَضَانَ، وَبِحِفْظِ الصِّيَامِ عَنِ الآثَامِ، وَإِعْمَارِ اللَّيْلِ بِالقُرْآنِ والْقِيَامِ، وَأَرْغَمَ أَنْفَ عَبْدٍ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يَنَلِ الغُفْرَانَ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَخُذُوا مِنْ دُنْيَاكُمْ لِآخِرَتِكُمْ، وَتَزَوَّدُوا فِي يَوْمِكُمْ لِغَدِكُمْ، وَاعْمَلُوا فِي حَيَاتِكُمْ مَا يَسُرُّكُمْ يَوْمَ عَرْضِكُمْ؛ [يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ] {الحاقَّة:18}.
أَيُّهَا النَّاسُ: الإِخْلاَصُ فِي العِبَادَةِ، وَتَجْرِيدُ المُتَابَعَةِ، وَتَحَمُّلُ المَشَقَّةِ؛ أَسْبَابٌ لاسْتِيفَاءِ الأَجْرِ، وَمُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ، وَقَبُولِ الأَعْمَالِ؛ وَلِذَا قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ لِعَائِشَةَ رَضِي َاللهُ عَنْهَا فِي نُسُكِهَا: «إِنَّ لَكِ مِنَ الأَجْرِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ وَنَفَقَتِكِ».
وَحِينَ يَقْدُمُ رَمَضَانُ عَلَى قَوْمٍ يَطُولُ فِيهِ نَهَارُهُمْ، وَيَقْصُرُ لَيْلُهُمْ، وَيَشْتَدُّ حَرُّهُمْ؛ فَإِنَّ لَهُمْ مِنَ الأَجْرِ بِقَدْرِ نَصَبِهِمْ وَعَطَشِهِمْ وَتَعَبِهِمْ فِي ذَاتِ اللهِ تَعَالَى مَتَى مَا حَقَّقُوا رُكْنَيِ العِبَادَةِ: الإِخْلاَصَ وَالمُتَابَعَةَ. وَلَيْسَ صَوْمُ هَؤُلاَءِ كَصَوْمِ مَنْ قَصُرَ نَهَارُهُمْ، وَطَالَ لَيْلُهُمْ، وَأَبْرَدَتْ أَرْضُهُمْ، وَطَابَ هَوَاؤُهُمْ، وَقَدْ تَوَاتَرَ النَّقْلُ عَنِ السَّلَفِ بِأَسَفِهِمْ حَالَ مَوْتِهِمْ عَلَى ظَمَأِ الهَوَاجِرِ؛ لِمَا يَرْجُونَهُ مِنْ عَظِيمِ الأَجْرِ عَلَيْهَا.
وَكَثِيرٌ مِنَ القَادِرِينَ يَفِرُّونَ مِنَ البِلاَدِ الحَارَّةِ فِي الصَّيْفِ إِلَى بِلاَدٍ بَارِدَةٍ، فَيَكُونُ الصَّوْمُ عَلَيْهِمْ أَخَفَّ مِمَّنْ عَالَجُوا حَرَارَةَ بُلْدَانِهِمْ، وَلاَ يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي صِيَامِ العَبْدِ، وَلاَ يُنْقِصُ أَجْرَ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّ التَّبَرُّدَ حَالَ الصِّيَامِ بِالسِّبَاحَةِ أَوْ بِالمُكَيِّفَاتِ أَوْ بِالسَّفَرِ إِلَى بِلاَدٍ بَارِدَةٍ مَشْرُوعٌ، وَلاَ يُشْرَعُ حَالَ الصَّوْمِ قَصْدُ الشَّمْسِ أَوِ البِلاَدِ الحَارَّةِ لِزِيَادَةِ العَطَشِ أَوِ التَّعَبِ؛ لِأَنَّ رَجُلاً نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلاَ يَقْعُدَ، وَلاَ يَسْتَظِلَّ، وَلاَ يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمهُ»؛ رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَلَمَّا كَانَ رَمَضَانُ يُوَافِقُ شِدَّةَ الحَرِّ كَثُرَ فِيهِ السَّفَرُ، وَالصَّوْمُ فِي السَّفَرِ لَهُ أَحْكَامٌ، وَالسَّفَرُ مَظِنَّةُ المَشَقَّةِ، فَخَفَّفَ اللهُ تَعَالَى عَنِ المُسَافِرِ بِالفِطْرِ وَالقَضَاءِ؛ [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] {البقرة:185}، وَثَبَتَ فِي الحَدِيثِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى وَضَعَ الصَّوْمَ عَنِ المُسَافِرِ، وَهَذَا الحُكْمُ الشَّرْعِيُّ المُحْكَمُ مُعَلَّقٌ بِالسَّفَرِ سَوَاءٌ كَانَ سَفَرًا بَعِيدًا أَمْ قَرِيبًا، وَسَوَاءٌ كَانَ مُرْهِقًا أَمْ مُرِيحًا، وَبِأَيِّ وَسِيلَةٍ كَانَتِ السَّفَرُ، وَإِلَى أَيِّ وِجْهَةٍ كَانَتْ، فَمَا دَامَ أَنَّهُ سَفَرٌ تُعَدُّ لَهُ عُدَّةُ السَّفَرِ شُرِعَتْ فِيهِ الرُّخْصَةُ بِالفِطْرِ وَالقَضَاءِ.
وَكَثِيرٌ مِنَ المُسَافِرينَ يُرِيدُونَ الصِّيَامَ فِي السَّفَرِ، وَلاَ يُحِبُّونَ الفِطْرَ فِيهِ، وَالمُسَافِرونَ لَهُمْ أَحْوَالٌ:
فَمِنَ المُسَافِرينَ فِي رَمَضَانَ مَنْ لاَ يَضُرُّهُمُ الصَّوْمُ حَالَ السَّفَرِ، وَلاَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ، وَيَثْقُلُ عَلَيْهِمْ القَضَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَيُشْرَعُ لِهَؤُلاَءِ الصَّوْمُ، وَقَدْ يَكُونُ الأَفْضَلَ فِي حَقِّهِمْ؛ لِإِبْرَاءِ ذِمَمِهِمْ، وَلِدَرْءِ المَشَقَّةِ عَنْهُمْ، وَعَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ تُحْمَلُ أَحَادِيثُ صِيَامِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ فِي السَّفَرِ، وَرُخْصَتِهِ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا: «أنَّ حَمزَةَ الأَسْلَمِيَّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ وَكَانَ كَثيرَ الصِّيَامِ، فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وإنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ»؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: «صَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ وَأَفْطَرَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَ ومَنْ شَاءَ أَفْطَر»؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:«كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَم يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى المُفْطِرِ وَلاَ المُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ»؛ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:«وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّه مَنْ وَجَدَ قُوَّةً فَصَامَ فَحَسَنٌ، وَمَنْ وَجَدَ ضَعْفًا فَأفْطَرَ فَحَسَنٌ»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنَ المُسَافِرينَ مَنْ يَضُرُّهُ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ لِمَرَضِهِ أَوْ ضَعْفِهِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ؛ لِئَلاَّ يَضُرَّ نَفْسَهُ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ وَلاَ يَضُرُّهُ فَهَذَا يُكْرَهُ فِي حَقِّهِ أَنْ يَتْرُكَ رُخْصَةَ اللهِ تَعَالَى لَهُ وَالمَشَقَّةُ تَلْحَقُهُ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ:«لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ»رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَصَامَ بَعْضٌ، وَأَفْطَرَ بَعْضٌ، فَتَحَزَّمَ الْمُفْطِرُونَ وَعَمِلُوا، وَضَعُفَ الصُّوَّامُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ:«ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ»؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَأَمَّا صِيَامُ التَّطَوُّعِ فِي السَّفَرِ فَالقَاعِدَةُ أَنَّ المُسَافِرَ يُكْتَبُ لَهُ مَا كَانَ يَصُومُ مُقِيمًا مَا دَامَ أَنَّ السَّفَرَ مَنَعَهُ مِنْ صِيَامِهِ، وَيُشْرَعُ لَهُ الصَّوْمُ إِذَا لَمْ يَضُرَّهُ أَوْ يَشُقَّ عَلَيْهِ، وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يَصُومُ عَاشُورَاءَ فِي السَّفَرِ وَيُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ، وَيَقُولُ: عَاشُورَاءُ يَفُوتُ، ورَمَضَانُ لَهُ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ.
وَإِذَا كَانَ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ يُفَوِّتُ مَصْلَحَةً عَلَى المُسَافِرِ أَوْ عَلَى المُسْلِمِينَ وَجَبَ عَلَيْهِ الفِطْرُ؛ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:«سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مكَّةَ ونَحْنُ صِيامٌ، فنَزَلْنَا مَنْزِلاً فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَالفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ، فَكَانَتْ رُخْصَةً، فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، ثُمَّ نَزَلْنَا مَنْزِلاً آخَرَ فقَالَ: إِنَّكُم مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ وَالفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَأَفْطِرُوا، وَكَانَتْ عَزْمَةً فَأَفْطَرنَا...»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ:«إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ، فَقَالَ: أُولَئِكَ الْعُصَاةُ، أُولَئِكَ الْعُصَاةُ»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَلاَ يُفْطِرُ مَنْ نَوَى السَّفَرَ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لاَ يَكُونُ مُسَافِرًا بِالنِّيَّةِ، وَلاَ يُبَيِّتُ الفِطْرَ مِنَ اللَّيْلِ، بَلْ يُبَيِّتُ الصَّوْمَ، فَإِذَا رَكِبَ رَحْلَهُ وَبَاشَرَ السَّفَرَ حَلَّ لَهُ الفِطْرُ.
وَلَوْ نَوَى الصَّوْمَ وَهُوَ مُسَافِرٌ وَأَمْسَكَ، ثُمَّ تَعِبَ فِي سَفَرِهِ وَبَدَا لَهُ أَنْ يُفْطِرَ جَازَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَوْ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ أَثْنَاءَ النَّهَارِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَ؛ لِأَنَّهُ أَفْطَرَ بِعُذْرٍ صَحِيحٍ.
وَالأَصْلُ أَنَّ لِكُلِّ شَخْصٍ فِي إِمْسَاكِهِ فِي الصِّيَام وَإِفْطَارِهِ، وَأَوْقَاتِ صَلاتِهِ حُكْمَ الأَرْضِ الَّتي هُوَ عَلَيْهَا، أَو الجوِّ الَّذِي يَسِيرُ فِيهِ، فَمَنْ غَرَبَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي المطَارِ فأفطر وصَلَّى المغْرِبَ، ثُم أَقْلَعَتْ بِه الطَّائِرَةُ باتِّجاهِ الغَرْبِ فَرَأَى الشَّمْسَ فَلا يَلْزَمُهُ الإِمْسَاكُ، وَصَلاتُهُ وصِيَامُهُ صَحِيحَانِ؛ لأَنهُ وَقْتَ الإِفْطَارِ والصَّلاةِ لَهُ حُكْمُ الأَرْضِ الَّتي هُوَ عَلَيْهَا، وَإِنْ أَقْلَعَتْ بهِ الطَّائِرَةُ قَبْلَ الغُرُوبِ بِدَقَائِقَ، وَاسْتَمَرَّ مَعَهُ النَّهَارُ فَلا يَجُوزُ لَهُ الفِطْرُ ولا الصَّلاةُ حَتَّى تَغْرُبَ شَمْسُ الجوِّ الَّذي يَسِيرُ فيهِ، ولَوْ مَرَّ بِسَماءِ بَلَدٍ أَهْلُهَا قَدْ أَفْطَرُوا وَصَلُّوا المغْرِبَ، وَهُوَ فِي سَمائِهَا يَرَى الشَّمْسَ فَلا يَحلُّ لَهُ الفِطْرُ ولا الصَّلاةُ إِلَّا بَعْدَ غُرُوبها.
وَإِذَا تَنَقَّلَ الصَّائِمُ بَيْنَ بَلَدَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ أَثْنَاءَ رَمَضَانَ فَيَعْتَدُّ فِي نِهَايَةِ رَمَضَانَ وَفِي العِيدِ بِالبَلَدِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَيُعَيِّدُ مَعَ أَهْلِهَا؛ فَإِنْ كَانَ صَامَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا أَوْ ثَلاَثِينَ يَوْمًا فَفِعْلُهُ صَحِيحٌ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ صَامَ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا قَضَى يَوْمًا بَعْدَ العِيدِ.
وَإِذَا تَهَيَّأَتْ لَهُ العُمْرَةُ فِي رَمَضَانَ، وَوَصَلَ مَكَّةَ فِي النَّهَارِ صَائِمًا، وَكَانَ بَيْنَ أَنْ يَتِمَّ صَوْمَهُ وَيُرْجِئَ عُمْرَتَهُ إِلَى اللَّيْلِ، أَوْ يُفْطِرَ وَيُبَادِرَ بِالعُمْرَةِ، فَالأَفْضَلُ أَنْ يُفْطِرَ وَيُبَاشِرَ العُمْرَةَ؛ أَخْذًا بِرُخْصَةِ السَّفَرِ، وَاتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ فِي المُبَادَرَةِ بِالنُّسُكِ.
تِلْكُمْ كَانَتْ جُمْلَةً مِنْ أَحْكَامِ المُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ، وَأَنَّ رُخْصَةَ اللهِ تَعَالَى لَهُ هِيَ الفِطْرُ وَالقَضَاءُ، وَهِيَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ؛ لِئَلاَّ تَحُولُ العِبَادَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَسْفَارِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ؛ وَلِيَقُومُوا بِفَرَائِضِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ؛ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَام كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ] {البقرة:184}.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُم إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَحْسِنُوا اسْتِقْبَالَ الشَّهْرِ الكَرِيمِ بِالتَّوْبَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنَ الذُّنُوبِ، وَالإِقْبَالِ عَلَيْهِ بِالطَّاعَاتِ، وَمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ وَاصْطِبَارِهَا عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ رَمَضَانَ أَيَّامٌ مَعْدُودَةٌ، يَرْبَحُ فِيهَا العَامِلُونَ، وَيَخْسَرُ فِيهَا العَابِثُونَ؛ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] {آل عمران:200}.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: لِنُجَدِّدْ قُبَالَةَ هَذَا الشَّهْرِ الكَرِيمِ عَهْدَنَا مَعَ اللهِ تَعَالَى، بِلُزُومِ التَّوْبَةِ وَكَثْرَةِ الاسْتِغْفَارِ، وَالإِقْلاَعِ عَنِ الذُّنُوبِ وَالمَعَاصِي، وَالمُحَافَظَةِ عَلَى الفَرَائِضِ، وَتَعْوِيدِ النَّفْسِ عَلَى لُزُومِ المَسَاجِدِ، وَالتَّبْكِيرِ إِلَى الجُمَعِ وَالجَمَاعَاتِ، وَكَثْرَةِ قِرَاءَةِ القُرْآنِ.
وَفِي الاسْتِغْفَارِ سِرٌّ عَجِيبٌ فِي قُوَّةِ قَلْبِ العَبْدِ وَبَدَنِهِ عَلَى الطَّاعَةِ، فَلْنُكْثِرْ مِنْهُ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ وَنَحْنُ نَنْتَظِرُ الشَّهْرَ الكَرِيمَ، قَالَ العَبْدُ الصَّالِحُ نَبِيُّ اللهِ تَعَالَى هُودٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَدْعُو قَوْمَهُ: [وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ] {هود:52}.
عِبَادَ اللهِ: وَلْنُطَهِّرْ قُلُوبَنَا مِنْ غِشِّهَا وَبَلاَبِلِهَا وَأَحْقَادِهَا وَحَسَدِهَا، وَلْنَجْعَلْهَا صَافِيَةً نَقِيَّةً عَلَى إِخْوَانِنَا المُسْلِمِينَ؛ فَنَصِلُ القَرَابَةَ الَّتِي قَطَعْنَا، وَلْتَمْتَدَّ أَيْدِينَا بِمُصَافَحَةِ مَنْ جَفَانَا؛ إِذْ لاَ يَلِيقُ أَبَدًا أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْنَا الشَّهْرُ الكَرِيمُ وَفِي قُلُوبِنَا شَيْءٌ عَلَى إِخْوَانِنَا، وَلْنَعْلَمْ جَمِيعًا أَنَّ رَفْعَ أَعْمَالِنَا مَرْهُونٌ بِسَلاَمَةِ قُلُوبِنَا، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:« تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ، فَيَغْفِرُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، لِكُلِّ امْرِئٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا امْرَأً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَلْيَتَخَيَّلْ كُلُّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُؤْمِنٍ شَحْنَاءُ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ جَارٍ أَوْ صَدِيقٍ أَوْ زَمِيلِ عَمَلٍ، أَنَّهُ يَصُومُ نَهَارَ رَمَضَانَ، وَيُصَلِّي التَّرَاوِيحَ، وَيَقْرَأُ القُرْآنَ، وَيَمُدُّ مَوَائِدَ الإِفْطَارِ، وَيَبْذُلُ الصَّدَقَةَ وَالإِحْسَانَ، ثُمَّ فِي كُلِّ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ مِنْ رَمَضَانَ تُرْفَعُ أَعْمَالُ النَّاسِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَعَمَلُهُ مَوْقُوفٌ عَنِ الرَّفْعِ حَتَّى يَصْطَلِحَ مَعَ أَخِيهِ وَيُزِيلَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِنْ شَحْنَاءَ.
وَاللهِ لَوْ أَنَّ رَاتِبَ المُوَظَّفِ أُوقِفَ، أَوْ أُوقِفَتْ أَرْبَاحُ التَّاجِرِ، أَوْ كِرَاءُ المُؤَجِّرِ، شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ مِنْ أَجْلِ خُصُومَةٍ وَقَعَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ، لأَزَالَهَا مَهْمَا عَظُمَتْ أَسْبَابُهَا، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِمُؤْمِنٍ أَنْ يُبْقِيَ فِي قَلْبِهِ شَحْنَاءَ عَلَى قَرِيبٍ أَوْ جَارٍ أَوْ زَمِيلٍ أَوْ صَدِيقٍ أَدَّتْ إِلَى التَّهَاجُرِ وَالتَّقَاطُعِ أَشْهُرًا عِدَّةً وَرُبََّما سَنَوَاتٍ، تَوَقَّفَ خِلَالَهَا عَرْضُ العَمَلِ الصَّالِحِ عَلَى اللهِ تَعَالَى؟!
وَقَدْ جَاءَ فِي الأَحَادِيثِ أَنَّ الصِّيَامَ سَبَبٌ لِإِزَالَةِ مَا فِي القَلْبِ مِنَ الغِشِّ وَالغِلِّ وَالشَّحْنَاءِ وَالبَغْضَاءِ، فَلْيَكُنْ صَيَامُنَا مُزِيلاً لِضَغَائِنِ قُلُوبِنَا، وَلْنُصْلِحْ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا، وَإِذَا حَقَّقَ العَبْدُ التَّوْبَةَ فَقَدْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى، وَإِذَا صَالَحَ إِخْوَانَهُ وَوَاصَلَهُمْ فَقَدْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الخَلْقِ، فَيَكُونُ مُتَهَيِّئًا لِرَمَضَانَ تَهَيُّئًا حَسَنًا، فَحَرِيٌّ بِهِ أَنْ يَصُونَ الصِّيَامَ، وَيُحْسِنَ الْقِيَامَ، وَيُكْثِرَ الإِحْسَانَ، فَتُرْفَعُ أَعْمَالُهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
صَوْمُ المُسَافِرِينَ
26/8/1434
الحَمْدُ للهِ العَلِيمِ الحَكِيمِ؛ شَرَعَ الشَّرَائِعَ لِمَصَالِحِ العِبَادِ، وَجَزَاهُمْ عَلَيْهَا يَوْمَ المَعَادِ، وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ صَوْمَ رَمَضَانَ، وَخَفَّفَ عَنْهُمْ بِالقَضَاءِ وَالإِطْعَامِ، نَحْمَدُهُ عَلَى مَا فَرَضَ وَأَوْجَبَ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى مَا وَضَعَ وَخَفَّفَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ لَهُ الحِكْمَةُ البَاهِرَةُ فِيمَا خَلَقَ وَشَرَعَ، وَلَهُ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فِيمَا قَضَى وَحَكَمَ؛ [قُلْ فَللهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ] {الأنعام:149}، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ عَظَّمَ شَأْنَ الصِّيَامِ، وَبَيَّنَ مَا فِيهِ مِنَ الفَضْلِ وَالثَّوَابِ، وَأَمَرَ بِرِعَايَةِ حُرْمَةِ رَمَضَانَ، وَبِحِفْظِ الصِّيَامِ عَنِ الآثَامِ، وَإِعْمَارِ اللَّيْلِ بِالقُرْآنِ والْقِيَامِ، وَأَرْغَمَ أَنْفَ عَبْدٍ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يَنَلِ الغُفْرَانَ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَخُذُوا مِنْ دُنْيَاكُمْ لِآخِرَتِكُمْ، وَتَزَوَّدُوا فِي يَوْمِكُمْ لِغَدِكُمْ، وَاعْمَلُوا فِي حَيَاتِكُمْ مَا يَسُرُّكُمْ يَوْمَ عَرْضِكُمْ؛ [يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ] {الحاقَّة:18}.
أَيُّهَا النَّاسُ: الإِخْلاَصُ فِي العِبَادَةِ، وَتَجْرِيدُ المُتَابَعَةِ، وَتَحَمُّلُ المَشَقَّةِ؛ أَسْبَابٌ لاسْتِيفَاءِ الأَجْرِ، وَمُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ، وَقَبُولِ الأَعْمَالِ؛ وَلِذَا قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ لِعَائِشَةَ رَضِي َاللهُ عَنْهَا فِي نُسُكِهَا: «إِنَّ لَكِ مِنَ الأَجْرِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ وَنَفَقَتِكِ».
وَحِينَ يَقْدُمُ رَمَضَانُ عَلَى قَوْمٍ يَطُولُ فِيهِ نَهَارُهُمْ، وَيَقْصُرُ لَيْلُهُمْ، وَيَشْتَدُّ حَرُّهُمْ؛ فَإِنَّ لَهُمْ مِنَ الأَجْرِ بِقَدْرِ نَصَبِهِمْ وَعَطَشِهِمْ وَتَعَبِهِمْ فِي ذَاتِ اللهِ تَعَالَى مَتَى مَا حَقَّقُوا رُكْنَيِ العِبَادَةِ: الإِخْلاَصَ وَالمُتَابَعَةَ. وَلَيْسَ صَوْمُ هَؤُلاَءِ كَصَوْمِ مَنْ قَصُرَ نَهَارُهُمْ، وَطَالَ لَيْلُهُمْ، وَأَبْرَدَتْ أَرْضُهُمْ، وَطَابَ هَوَاؤُهُمْ، وَقَدْ تَوَاتَرَ النَّقْلُ عَنِ السَّلَفِ بِأَسَفِهِمْ حَالَ مَوْتِهِمْ عَلَى ظَمَأِ الهَوَاجِرِ؛ لِمَا يَرْجُونَهُ مِنْ عَظِيمِ الأَجْرِ عَلَيْهَا.
وَكَثِيرٌ مِنَ القَادِرِينَ يَفِرُّونَ مِنَ البِلاَدِ الحَارَّةِ فِي الصَّيْفِ إِلَى بِلاَدٍ بَارِدَةٍ، فَيَكُونُ الصَّوْمُ عَلَيْهِمْ أَخَفَّ مِمَّنْ عَالَجُوا حَرَارَةَ بُلْدَانِهِمْ، وَلاَ يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي صِيَامِ العَبْدِ، وَلاَ يُنْقِصُ أَجْرَ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّ التَّبَرُّدَ حَالَ الصِّيَامِ بِالسِّبَاحَةِ أَوْ بِالمُكَيِّفَاتِ أَوْ بِالسَّفَرِ إِلَى بِلاَدٍ بَارِدَةٍ مَشْرُوعٌ، وَلاَ يُشْرَعُ حَالَ الصَّوْمِ قَصْدُ الشَّمْسِ أَوِ البِلاَدِ الحَارَّةِ لِزِيَادَةِ العَطَشِ أَوِ التَّعَبِ؛ لِأَنَّ رَجُلاً نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلاَ يَقْعُدَ، وَلاَ يَسْتَظِلَّ، وَلاَ يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمهُ»؛ رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَلَمَّا كَانَ رَمَضَانُ يُوَافِقُ شِدَّةَ الحَرِّ كَثُرَ فِيهِ السَّفَرُ، وَالصَّوْمُ فِي السَّفَرِ لَهُ أَحْكَامٌ، وَالسَّفَرُ مَظِنَّةُ المَشَقَّةِ، فَخَفَّفَ اللهُ تَعَالَى عَنِ المُسَافِرِ بِالفِطْرِ وَالقَضَاءِ؛ [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] {البقرة:185}، وَثَبَتَ فِي الحَدِيثِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى وَضَعَ الصَّوْمَ عَنِ المُسَافِرِ، وَهَذَا الحُكْمُ الشَّرْعِيُّ المُحْكَمُ مُعَلَّقٌ بِالسَّفَرِ سَوَاءٌ كَانَ سَفَرًا بَعِيدًا أَمْ قَرِيبًا، وَسَوَاءٌ كَانَ مُرْهِقًا أَمْ مُرِيحًا، وَبِأَيِّ وَسِيلَةٍ كَانَتِ السَّفَرُ، وَإِلَى أَيِّ وِجْهَةٍ كَانَتْ، فَمَا دَامَ أَنَّهُ سَفَرٌ تُعَدُّ لَهُ عُدَّةُ السَّفَرِ شُرِعَتْ فِيهِ الرُّخْصَةُ بِالفِطْرِ وَالقَضَاءِ.
وَكَثِيرٌ مِنَ المُسَافِرينَ يُرِيدُونَ الصِّيَامَ فِي السَّفَرِ، وَلاَ يُحِبُّونَ الفِطْرَ فِيهِ، وَالمُسَافِرونَ لَهُمْ أَحْوَالٌ:
فَمِنَ المُسَافِرينَ فِي رَمَضَانَ مَنْ لاَ يَضُرُّهُمُ الصَّوْمُ حَالَ السَّفَرِ، وَلاَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ، وَيَثْقُلُ عَلَيْهِمْ القَضَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَيُشْرَعُ لِهَؤُلاَءِ الصَّوْمُ، وَقَدْ يَكُونُ الأَفْضَلَ فِي حَقِّهِمْ؛ لِإِبْرَاءِ ذِمَمِهِمْ، وَلِدَرْءِ المَشَقَّةِ عَنْهُمْ، وَعَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ تُحْمَلُ أَحَادِيثُ صِيَامِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ فِي السَّفَرِ، وَرُخْصَتِهِ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا: «أنَّ حَمزَةَ الأَسْلَمِيَّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ وَكَانَ كَثيرَ الصِّيَامِ، فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وإنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ»؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: «صَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ وَأَفْطَرَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَ ومَنْ شَاءَ أَفْطَر»؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:«كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَم يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى المُفْطِرِ وَلاَ المُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ»؛ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:«وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّه مَنْ وَجَدَ قُوَّةً فَصَامَ فَحَسَنٌ، وَمَنْ وَجَدَ ضَعْفًا فَأفْطَرَ فَحَسَنٌ»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنَ المُسَافِرينَ مَنْ يَضُرُّهُ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ لِمَرَضِهِ أَوْ ضَعْفِهِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ؛ لِئَلاَّ يَضُرَّ نَفْسَهُ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ وَلاَ يَضُرُّهُ فَهَذَا يُكْرَهُ فِي حَقِّهِ أَنْ يَتْرُكَ رُخْصَةَ اللهِ تَعَالَى لَهُ وَالمَشَقَّةُ تَلْحَقُهُ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ:«لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ»رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَصَامَ بَعْضٌ، وَأَفْطَرَ بَعْضٌ، فَتَحَزَّمَ الْمُفْطِرُونَ وَعَمِلُوا، وَضَعُفَ الصُّوَّامُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ:«ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ»؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَأَمَّا صِيَامُ التَّطَوُّعِ فِي السَّفَرِ فَالقَاعِدَةُ أَنَّ المُسَافِرَ يُكْتَبُ لَهُ مَا كَانَ يَصُومُ مُقِيمًا مَا دَامَ أَنَّ السَّفَرَ مَنَعَهُ مِنْ صِيَامِهِ، وَيُشْرَعُ لَهُ الصَّوْمُ إِذَا لَمْ يَضُرَّهُ أَوْ يَشُقَّ عَلَيْهِ، وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يَصُومُ عَاشُورَاءَ فِي السَّفَرِ وَيُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ، وَيَقُولُ: عَاشُورَاءُ يَفُوتُ، ورَمَضَانُ لَهُ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ.
وَإِذَا كَانَ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ يُفَوِّتُ مَصْلَحَةً عَلَى المُسَافِرِ أَوْ عَلَى المُسْلِمِينَ وَجَبَ عَلَيْهِ الفِطْرُ؛ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:«سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مكَّةَ ونَحْنُ صِيامٌ، فنَزَلْنَا مَنْزِلاً فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَالفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ، فَكَانَتْ رُخْصَةً، فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، ثُمَّ نَزَلْنَا مَنْزِلاً آخَرَ فقَالَ: إِنَّكُم مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ وَالفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَأَفْطِرُوا، وَكَانَتْ عَزْمَةً فَأَفْطَرنَا...»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ:«إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ، فَقَالَ: أُولَئِكَ الْعُصَاةُ، أُولَئِكَ الْعُصَاةُ»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَلاَ يُفْطِرُ مَنْ نَوَى السَّفَرَ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لاَ يَكُونُ مُسَافِرًا بِالنِّيَّةِ، وَلاَ يُبَيِّتُ الفِطْرَ مِنَ اللَّيْلِ، بَلْ يُبَيِّتُ الصَّوْمَ، فَإِذَا رَكِبَ رَحْلَهُ وَبَاشَرَ السَّفَرَ حَلَّ لَهُ الفِطْرُ.
وَلَوْ نَوَى الصَّوْمَ وَهُوَ مُسَافِرٌ وَأَمْسَكَ، ثُمَّ تَعِبَ فِي سَفَرِهِ وَبَدَا لَهُ أَنْ يُفْطِرَ جَازَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَوْ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ أَثْنَاءَ النَّهَارِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَ؛ لِأَنَّهُ أَفْطَرَ بِعُذْرٍ صَحِيحٍ.
وَالأَصْلُ أَنَّ لِكُلِّ شَخْصٍ فِي إِمْسَاكِهِ فِي الصِّيَام وَإِفْطَارِهِ، وَأَوْقَاتِ صَلاتِهِ حُكْمَ الأَرْضِ الَّتي هُوَ عَلَيْهَا، أَو الجوِّ الَّذِي يَسِيرُ فِيهِ، فَمَنْ غَرَبَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي المطَارِ فأفطر وصَلَّى المغْرِبَ، ثُم أَقْلَعَتْ بِه الطَّائِرَةُ باتِّجاهِ الغَرْبِ فَرَأَى الشَّمْسَ فَلا يَلْزَمُهُ الإِمْسَاكُ، وَصَلاتُهُ وصِيَامُهُ صَحِيحَانِ؛ لأَنهُ وَقْتَ الإِفْطَارِ والصَّلاةِ لَهُ حُكْمُ الأَرْضِ الَّتي هُوَ عَلَيْهَا، وَإِنْ أَقْلَعَتْ بهِ الطَّائِرَةُ قَبْلَ الغُرُوبِ بِدَقَائِقَ، وَاسْتَمَرَّ مَعَهُ النَّهَارُ فَلا يَجُوزُ لَهُ الفِطْرُ ولا الصَّلاةُ حَتَّى تَغْرُبَ شَمْسُ الجوِّ الَّذي يَسِيرُ فيهِ، ولَوْ مَرَّ بِسَماءِ بَلَدٍ أَهْلُهَا قَدْ أَفْطَرُوا وَصَلُّوا المغْرِبَ، وَهُوَ فِي سَمائِهَا يَرَى الشَّمْسَ فَلا يَحلُّ لَهُ الفِطْرُ ولا الصَّلاةُ إِلَّا بَعْدَ غُرُوبها.
وَإِذَا تَنَقَّلَ الصَّائِمُ بَيْنَ بَلَدَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ أَثْنَاءَ رَمَضَانَ فَيَعْتَدُّ فِي نِهَايَةِ رَمَضَانَ وَفِي العِيدِ بِالبَلَدِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَيُعَيِّدُ مَعَ أَهْلِهَا؛ فَإِنْ كَانَ صَامَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا أَوْ ثَلاَثِينَ يَوْمًا فَفِعْلُهُ صَحِيحٌ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ صَامَ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا قَضَى يَوْمًا بَعْدَ العِيدِ.
وَإِذَا تَهَيَّأَتْ لَهُ العُمْرَةُ فِي رَمَضَانَ، وَوَصَلَ مَكَّةَ فِي النَّهَارِ صَائِمًا، وَكَانَ بَيْنَ أَنْ يَتِمَّ صَوْمَهُ وَيُرْجِئَ عُمْرَتَهُ إِلَى اللَّيْلِ، أَوْ يُفْطِرَ وَيُبَادِرَ بِالعُمْرَةِ، فَالأَفْضَلُ أَنْ يُفْطِرَ وَيُبَاشِرَ العُمْرَةَ؛ أَخْذًا بِرُخْصَةِ السَّفَرِ، وَاتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ فِي المُبَادَرَةِ بِالنُّسُكِ.
تِلْكُمْ كَانَتْ جُمْلَةً مِنْ أَحْكَامِ المُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ، وَأَنَّ رُخْصَةَ اللهِ تَعَالَى لَهُ هِيَ الفِطْرُ وَالقَضَاءُ، وَهِيَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ؛ لِئَلاَّ تَحُولُ العِبَادَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَسْفَارِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ؛ وَلِيَقُومُوا بِفَرَائِضِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ؛ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَام كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ] {البقرة:184}.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُم إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَحْسِنُوا اسْتِقْبَالَ الشَّهْرِ الكَرِيمِ بِالتَّوْبَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنَ الذُّنُوبِ، وَالإِقْبَالِ عَلَيْهِ بِالطَّاعَاتِ، وَمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ وَاصْطِبَارِهَا عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ رَمَضَانَ أَيَّامٌ مَعْدُودَةٌ، يَرْبَحُ فِيهَا العَامِلُونَ، وَيَخْسَرُ فِيهَا العَابِثُونَ؛ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] {آل عمران:200}.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: لِنُجَدِّدْ قُبَالَةَ هَذَا الشَّهْرِ الكَرِيمِ عَهْدَنَا مَعَ اللهِ تَعَالَى، بِلُزُومِ التَّوْبَةِ وَكَثْرَةِ الاسْتِغْفَارِ، وَالإِقْلاَعِ عَنِ الذُّنُوبِ وَالمَعَاصِي، وَالمُحَافَظَةِ عَلَى الفَرَائِضِ، وَتَعْوِيدِ النَّفْسِ عَلَى لُزُومِ المَسَاجِدِ، وَالتَّبْكِيرِ إِلَى الجُمَعِ وَالجَمَاعَاتِ، وَكَثْرَةِ قِرَاءَةِ القُرْآنِ.
وَفِي الاسْتِغْفَارِ سِرٌّ عَجِيبٌ فِي قُوَّةِ قَلْبِ العَبْدِ وَبَدَنِهِ عَلَى الطَّاعَةِ، فَلْنُكْثِرْ مِنْهُ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ وَنَحْنُ نَنْتَظِرُ الشَّهْرَ الكَرِيمَ، قَالَ العَبْدُ الصَّالِحُ نَبِيُّ اللهِ تَعَالَى هُودٌ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَدْعُو قَوْمَهُ: [وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ] {هود:52}.
عِبَادَ اللهِ: وَلْنُطَهِّرْ قُلُوبَنَا مِنْ غِشِّهَا وَبَلاَبِلِهَا وَأَحْقَادِهَا وَحَسَدِهَا، وَلْنَجْعَلْهَا صَافِيَةً نَقِيَّةً عَلَى إِخْوَانِنَا المُسْلِمِينَ؛ فَنَصِلُ القَرَابَةَ الَّتِي قَطَعْنَا، وَلْتَمْتَدَّ أَيْدِينَا بِمُصَافَحَةِ مَنْ جَفَانَا؛ إِذْ لاَ يَلِيقُ أَبَدًا أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْنَا الشَّهْرُ الكَرِيمُ وَفِي قُلُوبِنَا شَيْءٌ عَلَى إِخْوَانِنَا، وَلْنَعْلَمْ جَمِيعًا أَنَّ رَفْعَ أَعْمَالِنَا مَرْهُونٌ بِسَلاَمَةِ قُلُوبِنَا، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:« تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ، فَيَغْفِرُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، لِكُلِّ امْرِئٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا امْرَأً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَلْيَتَخَيَّلْ كُلُّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُؤْمِنٍ شَحْنَاءُ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ جَارٍ أَوْ صَدِيقٍ أَوْ زَمِيلِ عَمَلٍ، أَنَّهُ يَصُومُ نَهَارَ رَمَضَانَ، وَيُصَلِّي التَّرَاوِيحَ، وَيَقْرَأُ القُرْآنَ، وَيَمُدُّ مَوَائِدَ الإِفْطَارِ، وَيَبْذُلُ الصَّدَقَةَ وَالإِحْسَانَ، ثُمَّ فِي كُلِّ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ مِنْ رَمَضَانَ تُرْفَعُ أَعْمَالُ النَّاسِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَعَمَلُهُ مَوْقُوفٌ عَنِ الرَّفْعِ حَتَّى يَصْطَلِحَ مَعَ أَخِيهِ وَيُزِيلَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِنْ شَحْنَاءَ.
وَاللهِ لَوْ أَنَّ رَاتِبَ المُوَظَّفِ أُوقِفَ، أَوْ أُوقِفَتْ أَرْبَاحُ التَّاجِرِ، أَوْ كِرَاءُ المُؤَجِّرِ، شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ مِنْ أَجْلِ خُصُومَةٍ وَقَعَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ، لأَزَالَهَا مَهْمَا عَظُمَتْ أَسْبَابُهَا، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِمُؤْمِنٍ أَنْ يُبْقِيَ فِي قَلْبِهِ شَحْنَاءَ عَلَى قَرِيبٍ أَوْ جَارٍ أَوْ زَمِيلٍ أَوْ صَدِيقٍ أَدَّتْ إِلَى التَّهَاجُرِ وَالتَّقَاطُعِ أَشْهُرًا عِدَّةً وَرُبََّما سَنَوَاتٍ، تَوَقَّفَ خِلَالَهَا عَرْضُ العَمَلِ الصَّالِحِ عَلَى اللهِ تَعَالَى؟!
وَقَدْ جَاءَ فِي الأَحَادِيثِ أَنَّ الصِّيَامَ سَبَبٌ لِإِزَالَةِ مَا فِي القَلْبِ مِنَ الغِشِّ وَالغِلِّ وَالشَّحْنَاءِ وَالبَغْضَاءِ، فَلْيَكُنْ صَيَامُنَا مُزِيلاً لِضَغَائِنِ قُلُوبِنَا، وَلْنُصْلِحْ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا، وَإِذَا حَقَّقَ العَبْدُ التَّوْبَةَ فَقَدْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى، وَإِذَا صَالَحَ إِخْوَانَهُ وَوَاصَلَهُمْ فَقَدْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الخَلْقِ، فَيَكُونُ مُتَهَيِّئًا لِرَمَضَانَ تَهَيُّئًا حَسَنًا، فَحَرِيٌّ بِهِ أَنْ يَصُونَ الصِّيَامَ، وَيُحْسِنَ الْقِيَامَ، وَيُكْثِرَ الإِحْسَانَ، فَتُرْفَعُ أَعْمَالُهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات
من أحكام السفر وآدابه 6.doc
من أحكام السفر وآدابه 6.doc
مِنْ أَحْكَامِ السَّفَرِ وَآدَابِهِ 6.doc
مِنْ أَحْكَامِ السَّفَرِ وَآدَابِهِ 6.doc
المشاهدات 2321 | التعليقات 2
شكر الله تعالى لك شيخ شبيب مرورك وتعليقك على الخطبة وأسأل الله تعالى أن ينفع بك..
وأهنئك والإخوة المشايخ الأفاضل ببلوغ الشهر الكريم، ونسأل الله تعالى الإعانة فيه على ما يرضيه..
وأهنئك والإخوة المشايخ الأفاضل ببلوغ الشهر الكريم، ونسأل الله تعالى الإعانة فيه على ما يرضيه..
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله كل خير
تعديل التعليق