صُوَرٌ بَهِيَّةٍ مِنْ هَدْيِ خَيْرِ البَرِيةِ فِيِ حَيَاتِهِ الزَوْجِيَةِ. (1)

عبد الله بن علي الطريف
1443/01/11 - 2021/08/19 18:11PM

صُوَرٌ بَهِيَّةٍ مِنْ هَدْيِ خَيْرِ البَرِيةِ فِيِ حَيَاتِهِ الزَوْجِيَةِ. (1) 1443/1/11هـ

أما بعد أيها الإخوة: اتقوا الله تعالى حق التقوى، واعلموا أن الله تعالى خلق آدم من تراب ونفخ فيه من روحه، وخلق منه زوجه وأسكنهما جنتَه، ثم أهبطهما منها إلى الأرض.. وحتى يبقى العنصرُ الإنساني ويتكاثرُ ليعمرَ هذه الأرض.. ويتعبدَ لله تعالى، جعل وسيلة تكاثره الزواج؛ فخلق الإنسان من ذَكَرٍ وأنثى.. وعد ذلك من آياته الدالةِ على رحمته وعنايته بعباده، وحكمته العظيمة، وعِلْمُهُ المحيط، فقال تعالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) وذلك بما رتب سبحانه على الزواج من الأسباب الجالبة للمودة والرحمة.. فحصل بالزوج الاستمتاعَ واللذةَ والمنفعةَ بوجود الأولاد وتربيتِهم، والسكونَ إلى الزوجة، فلا تجد بين اثنين من الناس في الغالب مثل ما بين الزوجين من المودة والرحمة.. ثم قال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي يُعْمِلُوْنَ أفكارهم ويتدبرون آيات اللّه [الروم:21]. فالسكينةُ والرحمةُ والمودَّةُ من أعظم آيات الله في الزواج.

أيها الأحبة: لقد سَمَتْ تعاملاتُ رسولِ الله ﷺ سموًّا لا يدانيه أَحد؛ فكان النموذجَ والمثلَ الأعلى في تعامله مع زوجاته وأولاده وأحفاده وأصحابه فأحبَّوه حبًّا ملك عليهم أفئدتهم.. وكان صلوات ربي وسلامه عليه مُعلِّمًا ومربيًّا.. غرس في نفوسهم وعقولهم المبادئ السامية التي تَفُوق كل المبادئ التي عرفتها الإنسانيَّة؛ فكانت معاملاتُه دليلاً على نبوَّته..

وكانت حياته ﷺ الزوجيَّة تطبيقًا لهذه المعانيَ القرآنيَّة القائمة على المودَّة والرحمة، فهو القائل: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي" رواه ابن ماجة، والترمذي. وقال الألباني: صحيح.

أيها الأحبة: إن الناظر في سيرة المصطفى ﷺ يبهر لما يجده من تقديرٍ للمرأة عموماً ولزوجة خاصة؛ فقد أولاها عناية فائقة، وأحبها محبة لائقة.. وضرب ﷺ من خلال حياته اليومية أروع الأمثلة التي سنذكر جزءً منها في ثنايا خطبتنا هذه إن شاء الله، ونعرج على الباقي في خطب أخرى..

ولو قارن الناظر في الكتب الأجنبية الحديثة التي تعنى بالحياة الزوجية وتنظيراتها، بما نُقل لنا من هديه ﷺ في التعامل مع زوجاته؛ لرأى خلو تلك النظريات من الأمثلة الحقيقية الواقعية، وأنها لا تعدو من أن تكون شعارات على الورق.! بل وتعجز أكثرُ الكتبِ مبيعاً في هذا الشأن بأن تبلغ في تنظيرها ما بلغه نبي الرحمة ﷺ من خلال حميدة، وهدي جميل، وحسن معاشرة فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه أجمعين ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين..

محبي محمدٍ ﷺ: إليكم صورًا رائعة من عَلاقته مع زوجاته..

فإن اشتكت إحداهن إليه ﷺ حالاً؛ وَجَدتَهُ يسمعُ شكواها، ويواسيها، ويُكَفْكفُ دَمْعها، ويُقَدِّرُ مشاعرها، ويخفِّفُ أحزانها، ولا يهزأُ بقولها وطلبها؛ فعَنْ أَنَسٍ قَالَ: بَلَغَ صَفِيَّةَ زوجَ النَّبيِّ ﷺ أَنَّ حَفْصَةَ قَالَتْ: (أَيْ عَنْ صَفِيَّةَ) بِنْتُ يَهُودِيٍّ فَبَكَتْ؛ فَدَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ ﷺ وَهِيَ تَبْكِي؛ فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ.؟ فَقَالَتْ قَالَتْ: لِي حَفْصَةُ إِنِّي بِنْتُ يَهُودِيٍّ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: إِنَّكِ لَابْنَةُ نَبِيٍّ وَإِنَّ عَمَّكِ لَنَبِيٌّ وَإِنَّكِ لَتَحْتَ نَبِيٍّ [أَيْ أَنَّ أباها هَارُونُ بْنُ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وعَمَّها مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وزَوْجَهَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله ﷺ] فَفِيمَ تَفْخَرُ عَلَيْكِ؟" ثم قال: "اتَّقِي اللهَ يَا حَفْصَةُ". رواه الترمذي وأحمد وقال الألباني: صحيح.

وضرب رسول الله ﷺ أروع الأمثلة بصفته زوجاً فكان تعاملُه مع زوجاته من منطلق الرحمة والحب، بل ويتعامل أيضاً معهن من منطلق أنه بشرٌ مثلُ باقي البشر الأسوياء، الذين لا يَرَوْنَ غضاضة في مساعدة أزواجهم.

وقد وصفت عائشة -رضي الله عنها- حال رسول الله ﷺ داخل بيته كزوج، فقالت كان "يَخْصِفُ نَعْلَهُ [أي يصلحه] وَيُرَقِّعُ ثَوْبَهُ [أي يخيط رقعة من قماش في موضع خرق الثوب]. رواه أحمد وابن حبان وهو صحيح. ولما قِيلَ لِعَائِشَةَ: مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ، قَالَتْ: كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ، يَفْلِي ثَوْبَهُ، يَحْلِبُ شَاتَهُ، وَيَخْدِمُ نَفْسَهُ.. صحيح

وجامع ذلك كله: ما رواه البخاري عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها مَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ.

رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كان يشارك زوجاتِه رضي الله عنهن المأكل والمشرب من نفس الإناء، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كُنْتُ أَشْرَبُ فَأُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ ﷺ، فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ، وَأَتَعَرَّقُ الْعَرْقَ [أي: العظم، وتَعَرَقْتُ العظمَ أي: أخذتُ اللحم عنه بأسناني نهشًا] فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فيَّ" رواه مسلم.. وكان يغتسل مع إحداهن من الجنابة من إناء واحد وربما تنافسا على الماء من باب الدعابة، وربما اغتسل بباقي الماء الذي تركته إحداهن بعد غُسلها، قَالَتْ أم سلمة رضي الله عنها: «أنها كَانَتْ هِيَ وَرَسُولُ اللهِ ﷺ يَغْتَسِلَانِ فِي الْإِنَاءِ الْوَاحِدِ، مِنَ الْجَنَابَةِ».. وعن مَيْمُونَةَ: «أَنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ هِيَ وَالنَّبِيُّ ﷺ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ» وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ إِنَاءٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَاحِدٍ، فَيُبَادِرُنِي حَتَّى أَقُولَ: دَعْ لِي، دَعْ لِي. قَالَتْ: وَهُمَا جُنُبَانِ" وكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَغْتَسِلُ بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ» روها مسلم "وكَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا كَانَ بِاللَّيْلِ سَارَ مَعَ عَائِشَةَ يَتَحَدَّثُ" أي يخرج ليؤنسها ويزيد في أواصر المحبَّة بينهما، رواه البخاري..

أيها الإخوة: ومن تودده ﷺ لزوجاته وحسن معاشرتهن أنه لا ينفر منهن حتى وإن كنَّ في الحيض، وكان يقول ﷺ: «اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ».. وعن أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: بَيْنَمَا أَنَا مُضْطَجِعَةٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي الْخَمِيلَةِ، إِذْ حِضْتُ، فَانْسَلَلْتُ، فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيْضَتِي فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَنَفِسْتِ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، فَدَعَانِي فَاضْطَجَعْتُ مَعَهُ فِي الْخَمِيلَةِ.. وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ﷺ: «نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنَ الْمَسْجِدِ» [وهي السجادة التي يصلي عليها] قَالَتْ فَقُلْتُ: إِنِّي حَائِضٌ، فَقَالَ: «إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ» روى هذه الأحاديث مسلم.. وعند البخاري ومسلم عن عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَتَّكِئُ فِي حَجْرِي وَأَنَا حَائِضٌ ثُمَّ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ..

اللهم وفقنا لإتباع هديه والسير على دربه واجعلنا هداة مهتدين... وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...

الخطبة الثانية:

أيها الإخوة: الحديث عن هديه وشمائله مع أهله حديث طويل ونحن نقتطف من هديه ونقتبس..

أحبتي: رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كان يسامر نساءه ويسمع لأمثالهن وحديثهن وكان يخبرهن عن بعض سلوكهن ويفسره فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى قَالَتْ فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ.؟ فَقَالَ: أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً فَإِنَّكِ تَقُولِينَ لَا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى قُلْتِ: لَا وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ.! قَالَتْ قُلْتُ: أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوَ نَزَلْتَ وَادِيًا فِيهِ شَجَرٌ كَثِيرٌ قَدْ أُكِلَ مِنْهَا، وَوَجَدْتَ شَجَرَةً لَمْ يُؤْكَلْ مِنْهَا، فِي أَيِّهَا كُنْتَ تَرْتَعُ بَعِيرَكَ؟ قَالَ: «فِي الَّذِي لَمْ يُرْتَعْ فِيهَا»، تُرِيدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا. رواه البخاري.

رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كان وفياً محباً يعلن حبه لإحداهن ويمتدحها حتى بعد موتها ويفي لها بصلة صديقاتها.. فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ ﷺ إِلَّا عَلَى خَدِيجَةَ، وَإِنِّي لَمْ أُدْرِكْهَا.! قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا ذَبَحَ الشَّاةَ فَيَقُولُ أَرْسِلُوا بِهَا إِلَى أَصْدِقَاءِ خَدِيجَةَ. قَالَتْ فَأَغْضَبْتُهُ يَوْمًا فَقُلْتُ خَدِيجَةَ.! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا.. رواه مسلم وفي رواية: قالت عائشة: فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأنْ لَمْ يَكُنْ في الدُّنْيَا إلاَّ خَديجَةَ.‍! فَيَقُولُ: إنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ وَكَانَ لي مِنْهَا وَلَدٌ..

وكان يُسَرُ إذا اجتمعت مع صواحبها فعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا كَانَتْ تَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، قَالَتْ: وَكَانَتْ تَأْتِينِي صَوَاحِبِي فَكُنَّ يَنْقَمِعْنَ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ (أي يتغيبن حياء منه وهيبة)، قَالَتْ: «فَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُسَرِّبُهُنَّ إِلَيَّ» (أي يرسلهن) رواه مسلم..  وللحديث بقية.. وصلوا وسلموا...

 

     

 

 

 

     

 

 

المشاهدات 969 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا