صورة «المشايخ» في أعين الناس

أبو عبد الرحمن
1431/02/08 - 2010/01/23 05:58AM
صورة «المشايخ» في أعين الناس

الاربعاء, 13 يناير 2010


عبدالرحمن الخطيب *









تُعرّف المعاجم العربية كلمة «الشيخ»: بأنه من استبانت فيه السن، أو من 50 أو 51 إلى آخر عمره، وجمعها شيوخ وأشياخ ومشايخ. كان هذا اللقب يُطلق في القرون الأُول الهجرية على رواة الحديث، إذ أُطلق على الإمامين البخاري ومسلم لقب «الشيخان». ثم انسحب هذا اللقب على معظم علماء الدين من الدعاة، والفقهاء، والقرّاء، والحفّاظ، بل والمدرّسين في الكتاتيب. ثم توسع هذا اللقب ليشمل أصحاب المهن، إذ يُطلق على بعضهم لقب مثل شيخ الحدادين أو شيخ النجارين. كما أطلق أيضاً على زعماء القبائل، إذ يُطلق على زعيم القبيلة لقب «شيخ القبيلة».

ثم توسع إطلاق هذا اللقب أخيراً ليشمل بعض الأثرياء العرب. وتوسع أيضاً إطلاق هذا اللقب على بعض زعماء الطوائف في لبنان حتى على من لا يدينون بالديانة الإسلامية، إذ أطلق على بعض الزعماء مثل: الشيخ بيير الجميل، والشيخ بشارة الخوري. وفي مصر كان يُطلق هذا اللقب على بعض الفنانين والموسيقيين أمثال: الشيخ سيد درويش، والشيخ زكريا أحمد. بل إن الغرب اقتبس هذا اللقب من العرب فصار يُطلق في الولايات المتحدة الأميركية على كل عضو في البرلمان لقب شيخ Senator، وسمي مجلسهم بمجلس الشيوخ.

ولقب الشيخ الذي نود الحديث عنه في هذا المقال هو لقب الشيخ العالم الفقيه الداعية. فمن الملاحظ في الآونة الأخيرة أن صورة ذلك الشيخ المتجلبب بجلبابه، والمعمم بعمامة بيضاء، وله لحية كثة قد اهتزت كثيراً في أعين الناس. فقبل نصف قرن، عندما كنا صغاراً، كان أحدنا حين يرى شيخاً كبيراً في السن تبدو عليه آثار الهيبة والوقار، يركض باتجاهه ليسلم عليه ويقبل رأسه ويديه، إحساساً داخلياً منه أن هذا الشيخ يعني الوقار والسلام والمحبة والطمأنينة.

ومن الملاحظ أن هذا الانطباع اختفى كلياً، وحل محله إما الخوف من الاقتراب والتجنب، أو الاستهزاء من لباسه ولحيته. فما الأسباب التي أدت إلى تغير صورته في أعين الناس؟

ربما يقول بعضهم: إن ردود الأفعال تلك ليست إلا انعكاساً لبعض التصرفات السلبية التي قام بها بعضهم. ويعزوها بعضهم الآخر إلى ابتعاد الناس عن الدين، وبالتالي الابتعاد عن رجل الدين. ويفسرها آخرون أنها بسبب ضعف التربية الأخلاقية، وانعدام التوجيه للقيم الاجتماعية الفاضلة. ولكن الحقيقة التي يجب أن تقال: إن الغرب كان، وما زال، وراء تلك الظاهرة؛ لأن المقصد الحقيقي هو تقبيح صورة الشيخ المسلم فقط في أعين الناس.

والدليل على ذلك أن صورة رجل الدين المسيحي واليهودي لا تزال كما كانت، بجلالها، وقدرها، واحترامها، ومحبتها. على رغم أن الغرب اتجه في القرن الماضي باتجاه الإلحاد والعلمانية. بعد سقوط الخلافة العثمانية، التي كانت ترفع راية الإسلام في معظم الأراضي العربية، لجأت بعض الدول الغربية المحتلة مثل فرنسا وإنكلترا إلى أساليب ماكرة وخبيثة لنقض أسس هذه الخلافة، التي منها محاولة إسقاط هيبة رجل الدين أيام الخلافة العثمانية. يقول الباحث حسني الشيخ عثمان: عندما سيطر الفرنسيون على سورية، واستقر لهم المقام، أقالوا الشيخ بدر الدين الحسيني من جميع وظائفه، وعينوا ابنه الشيخ تاج الدين رئيساً للجمهورية العربية السورية، وفي أواخر عهد الشيخ تاج قام بعض المتظاهرين في أنحاء متفرقة من شوارع مدينة دمشق بالقيام بحركات استعراضية هزلية، القصد منها التهريج الهادف، إذ أخذ بعضهم يرتدي جلباباً ويضع عمامة على رأسه، ويمتطي حماراً بالمقلوب ويمسك بذيله، ويضع على رأس ذلك الحمار عمامة كالتي يرتديها، ويصيح قائلاً: أنا الشيخ تاج عزوني، فيرد عليه الشباب المأجورون الذين كانوا يتبعونه: «كذا عليك، كذا عليك». ويهتفون: «يا شيخ تاج يا بومة يا بو لفة مبرومة». وكان القصد من هذا كله الحط من مكانة المشايخ، وتقبيح صورهم في أعين الناس.

في مصر أيضاً لم يكن الإنكليز بأقل من الفرنسيين مكراً وخبثاً، فقد تفرغوا لدعم الإعلام لهدم صورة المشايخ في أعين عامة الشعب، عن طريق تشبيههم في الأفلام التي كان يشرف على إنتاجها وإخراجها وإدارتها ثلة من اليهود والأرمن، إذ كانوا يُقرنون صورة الشيخ بصورة أشعب وجحا وطمعهما، ويبرزون شكل الشيخ بأنه ذلك الإنسان البخيل الطماع الذي يلهث وراء كل وليمة يسمع بها، بل أصبح زي القفطان والجبة والعمامة رمزاً للتخلف والرجعية، ورمزاً للسخرية في كل مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية.

فكانوا يمثلون صورة الشيخ الأزهري الذي يرتدي ثوباً فضفاضاً وجبة وعمامة بأنه مثال للبساطة والسذاجة والغفلة. فكان يُمنح في الفيلم دوراً فكاهياً وهو يتشدق بالفصيح من الكلام بأسلوب متكلف، ويتقعر بفظاظة لينفر الناس من اللغة العربية، وليضحك الناس على نفسه، وعلى الفصيح من اللغة العربية. ولنأخذ على سبيل المثال فيلم «غزل البنات» الذي قام بتمثيله نجيب الريحاني مع الممثلة اليهودية ليلى مراد، والذي فحواه الاستهزاء من صورة مدرّس اللغة العربية، ومن اللغة العربية نفسها في أغنية «أبجد هوز»، أما الأفلام الحديثة فجلّها تبرز صورة الشيخ الملتحي بأنه رمز للتطرف والإرهاب بشكل ساخر، مثل أفلام الممثل عادل إمام، والمسلسلات الفكاهية مثل «طاش ما طاش» لا تخلو أيضاً من تصوير رجل الهيئة بأنه رمز لإرهاب الناس وإخافتهم.

أما صورة المأذون فلا يكاد يخلو فيلم عربي منها، وهي صورة رجل شرعي الهيئة يرتدي جبة وعمامة، وذي لحية كثة؛ لإبراز صورته بشكل هزلي، مع العلم أن المهمة التي يقوم بها في الأحوال العادية تعدّ من أشرف وأقدس المهام. ولا تزال صورة المأذون الهزلية تُعرض إلى الآن، ففي فيلم الممثل عادل إمام «زوج تحت الطلب» يقوم بدور التيس المستعار ليحلل رجوع مديره وأصدقاء مديره إلى زوجاتهم، بعد طلاقهم الطلقة الثالثة البائنة، ويكون دور المأذون أن يأتي في اليوم الأول ليزوج عادل إمام، وفي اليوم الثاني ليطلقه. وكأن الشرع عند ذلك المأذون استهزاء وضحك مقابل أجر زهيد.

وفي مسرحية «الواد سيد الشغال» يُكرر المأذون عبارة «لا بد أن يدخل بها» ويرددها وراءه عادل إمام بصورة هزلية، القصد منها الحط من قيمة الشرع، والاستهزاء من صورة الشيخ المأذون. إن الغرب كما أبرز في الماضي صورة المشايخ كرمز للتخلف والغباء والسذاجة من خلال التركيز عليهم في حلقات الصوفية ورقصة الميلوية، وحلقات الزار، ودورهم في عمل السحر والشعوذة، يحاول جاهداً الآن إبراز صورة المشايخ من العلماء والدعاة بأنهم هم وجه التطرف والإرهاب الحقيقي، فبعد 11 (أيلول) سبتمبر كان الإعلام الغربي، ولا يزال، يعرض صورة أسامة بن لادن والظواهري وأبي حمزة المصري وغيرهم، بلحاهم الكثة، في كل القنوات الفضائية الغربية، على أن هؤلاء هم المشايخ الذين يمثلون رجل الدين في الإسلام. حتى أنني شهدت شخصياً بعض الآباء في إحدى الدول الأوروبية، حين كانت تظهر صور لبعض الملتحين من المسلمين في التلفاز، وهم يحاولون إخافة صغارهم بتلك الصور إذا رفضوا إطاعتهم.

وللأسف لقد تأثر كثير من المسلمين بتلك الصورة السلبية عن رجل الدين، فأصبح أي رجل متجلبب وملتحٍ عرضة للمراقبة والمساءلة حين يدخل بعض الدول العربية، وأضحت صورة الشيخ الملتحي، مهما كان مركزه ووظيفته، رمزاً للبغض والكراهية، بل إن بعض الشباب والفتيات في أسواق المملكة حين يرون رجل الهيئة يجرون مبتعدين عنه خشية منه، على رغم أنهم لم يفعلوا شيئاً مخالفاً للنظام.

* باحث في الشؤون الإسلامية.

http://international.daralhayat.com/ksaarticle/96888
المشاهدات 3559 | التعليقات 0