صلوا عليه وسلموا تسليما
د. محمد بن سعود
...
الحمدُ لله، الحمدُ لله ذي العزَّة القاهرة، والحكمةِ الباهِرة، لا إله إلا هو له الحمدُ في الأولى والآخرة، أحمدُه – سبحانه – وأشكرُه على نعمه المُتكاثِرة، وآلائه المُتوافرة، الباطنةِ منها والظاهرة، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ الحقِّ واليقين غيرَ مُرتابةٍ ولا حائِرة، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أعلى منارَ الدين، وجمع القلوبَ المُتنافِرة، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وعِترته الطاهرة، وأصحابِه الأنجُم الزاهِرة، والتابعين وتابِعيهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا ما تعاقبَت الأفلاكُ الدائِرة. أما بعد:-
فأُوصيكم – أيها الناس – ونفسي بتقوى الله، وإنما تُوعدون لآت. فتدارَكوا الهفَوات قبل الفوَات ، واستكثِروا من الصالحات، وراقِبوا أنفسكم في الخلَوات، قبل أن يفجَأ هادِم اللذَّات، ورحِم الله أقوامًا بادروا الأوقات، وسارعوا إلى الخيرات، )كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ(
عباد الله: صلوا على رسول الله r
إن الصلاة على النبي غنيمةٌ *** من حازها حاز الكرامة وامتلكْ
فُز بالصلاة على النبي مردِّدا *** صلى عليه الله ما دار الفلكْ
اسمعوا هذا التوجيه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)
للخلقِ أُرسِل رحمةً ورحيمًا *** صلُّوا عليه وسلِّموا تسليمًا
اللهم صل على محمد، قال ابن عباس t: ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسًا أكرم عليه من محمد r، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيرِه، قال الله تعالى: )لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ( [يقول: وحياتِك وعمرك وبقائك في الدنيا " إنهم لفي سكرتهم يعمهون]. رواه الإمام ابن جرير.
اللهم صل على محمد ... عن أبي هريرة -t- أن رسول الله -r- قال: "من صلَّى عليَّ واحدةً صلَّى الله عليه عشرًا". رواه الإمام مسلم.
اللهم صل على محمد ... كلما أثقلتنا الذنوب، وكلما أرهقتنا الهموم، عن أُبَيِّ بن كعبٍ -t- أنه قال للنبي r أجعلُ لك صلاتي كلها؟! أي: دعائي كلَّه. قال: "إذًا تُكفَى همَّك، ويُغفر لك ذنبُك". أخرجه أحمد والترمذي وحسّنه. قال العلامة ابن تيمية رحمه الله: لِأَن من صلى على النَّبِي r صَلَاةً، صلى الله عَلَيْهِ بهَا عشرا، وَمن صلى اللهُ عَلَيْهِ كَفاهُ همه وَغفر لَهُ ذَنبه.
اللهم صل على محمد .. حتى هذه الجملة أصابتها الغربة في زماننا، أما السلف: فقد قال زيدُ بن وهب: قال لي ابن مسعود -t-: (يا زيدَ بنَ وهب لا تدَع إذا كان يومُ الجمعة أن تصلي على النبي r ألف مرة).
نصلي على النبي r تعبدًا، وفي يوم الجمعة تألهًا، قال العلامة ابن القيم -رحمه الله -: "رسولُ الله -r- سيدُ الأنام، ويومُ الجمعة سيدُ الأيام، فللصلاة عليه في هذا اليوم مزِيَّةٌ، ومن شكره وحمده وأداء القليل من حقه -r-: أن نُكثِر الصلاة عليه في هذا اليوم وليلته". أهـ.
اللهم صل على محمد ... عن أوس بن أوسٍ -t- قال: قال رسول الله -r-: "إن من أفضل أيامكم يومَ الجمعة، فيه خُلِق آدم، وفيه قُبِض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثِروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضةٌ عليَّ". فقالوا: يا رسول الله: وكيف تُعرَضُ صلاتُنا عليك وقد أرِمتَ؟! -يعني: بلِيتَ- فقال: "إن الله -عز وجل- حرَّم على الأرض أجسادَ الأنبياء". رواه أحمد وأبو داود وصححه ابن حبان.
نصلي على النبي r؛ لأنا نعلم أن من لوازم محبته -r-: أن تتحرَّك الألسُن بالصلاة والسلام عليه كلما ذُكِر، وإن من الجفاء وقلةِ الوفاء، ومن التقصير وقلة التوقير: أن يُذكَر سيد البشر -r- فتُحجِمُ الألسنُ عن الصلاة والسلام عليه؛ فعن الحسين بن عليٍّ -رضي الله عنهما- أن النبي -r- قال: "البخيلُ الذي ذُكِرتُ عنده فلم يُصَلِّ عليَّ". رواه الترمذي وصححه.
عباد الله: ما أكثرَ المجالسَ اللاهية، والاجتماعاتِ الساهية، والنوادي اللاغية، والتي هي نقصٌ على أربابها، وحسرةٌ على أصحابها، وإذا لم يذكروا الله فيها، ولم يُصلوا على النبي -r- فقد حق عليهم ما رواه أبو هريرة -t- قال: قال رسول الله -r-: "ما جلَسَ قومٌ مجلسًا لم يذكروا الله فيه، ولم يُصلُّوا على نبيهم إلا كان عليهم تِرَة، فإن شاء عذَّبَهم، وإن شاء غفرَ لهم". رواه الترمذي وحسّنه. ومعنى "تِرَة" أي: حسرة وندامة. فطيّبوا مجالسكم بذكر الله، والصلاة على نبيه r.
وتشرعُ الصلاة على النبي -r- كتابةً، كلما كُتِب اسمه الشريف، ولا يُسأمُ من تكرير ذلك عند تكرُّره، وليجتنِب المسلمُ كتابتها منقوصة، رامزًا إليها بحرفٍ أو حرفين، كمن يكتب (ص)، أو (صلعم)؛ لأن ذلك غيرُ لائقٍ بحقه -r-.
واجتنبِ الرمزَ لها والحَذفَ *** منها صلاةً أو سلامًا تُكفَى
من عاملَ اللهَ لم تَخْسَرْ تِجَارَتُهُ *** وكلُّ قلبٍ خَرابٍ بالتُّقَى عَمَرَهْ
وما تصلي على المختار واحدةً *** إلا عليكَ يصلي ربُّه عشَرَهْ
فاغنم صلاتك يا هذا عليه تفُز *** بالربح عند إلهٍ فاز من شكَرَهْ
أقول قولي هذا، وأصلى على محمد وآله، وأستغفره الله لي ولكم فاستغفروه يغفر لكم الله
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله يُنالُ بحمده الثواب، أحمدُه على جزيل آلائه وهو الكريمُ الوهاب، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عليه توكلتُ وإليه متاب، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، جاء بالحكمة وفصلِ الخطاب، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِهِ والأصحابِ، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم المآب. أما بعد:-
فإن الدعاء هو العبادة، ولا غنى للبشر عن سؤال ربهم، والصلاةُ على النبي r هي مفتاح للدعاء، ومن أراد أن يستجاب دعاؤه، فليصل على رسول الله في دعائه، فعن فضالةَ بنِ عُبيد t قال: سمِعَ رسولُ الله -r- رجلاً يدعو في صلاته، لم يُمجِّد الله، ولم يُصلِّ على النبي -r-، فقال رسول الله -r-: "عجِلتَ أيها المُصلِّي"، وعلَّمهم رسول الله -r-، ثم سمع رسول الله -r- رجلاً يُصلِّي، فمجَّد الله وحمِدَه وصلَّى على النبي -r-، فقال رسول الله -r-: "ادعُ تُجَب، وسَلْ تُعطَ". رواه النسائي والترمذي وصححه.
قال عمر t: الدُّعَاء مَوْقُوف بَين السَّمَاء وَالْأَرْض لَا يصعد مِنْهُ شَيْء حَتَّى تصلي على نبيك r. وقال أبو سُلَيْمَان الدَّارَانِي رحمه الله: من أَرَادَ أَن يسْأَل الله حَاجته فليبدأ بِالصَّلَاةِ على النَّبِي rوليسأل حَاجته وليختم بِالصَّلَاةِ على النَّبِي rفَإِن الصَّلَاة على النَّبِي rمَقْبُولَة وَالله أكْرم أَن يرد مَا بَينهمَا.
اللهم صل على محمد .. نقولها بعد الأذان خاصة؛ لننال الأجورَ العظيمة؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -t- أنه سمع النبي -r- يقول: "إذا سمعتم المُؤذِّن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلُّوا عليَّ؛ فإنه من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا، ثم سلُوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلةٌ في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلَّتْ له الشفاعة". رواه مسلم.
يشجعنا على الصلاة على نبينا -r- أنها معروضة عليه؛ فعن عبد الله بن مسعود -t- قال: قال رسول الله -r-: "إن لله ملائكةً سيَّاحين في الأرض يُبلِّغوني من أمتي السلام". رواه والنسائي وصححه الحاكم وابن القيم.
صلى عليه اللهُ في ملكوته *** ما قام عبدٌ في الصلاة وكبّرا
صلى عليه اللهُ في ملكوته *** ما عاقب الليلُ النهارَ وأدبرا
صلى عليه اللهُ في ملكوته *** ما دارت الأفلاكُ أو نجمٌ سرى
وأختم هذه الخطبة بالوصية بالصلاة والسلام على نبي الرحمة والثواب، وبشيرِ السطوة والعقاب، الشافعِ المُشفَّع يوم الحساب، كما أمركم بذلك الملكُ الوهاب.
..
المرفقات
على-رسول-الله-صلى-الله-عليه-وسلم-3
على-رسول-الله-صلى-الله-عليه-وسلم-3