صلة الرحم

صلة الرحم

ألقيت في جامع حمراء الأسد – المدينة المنورة

عبد الله بن عبد الرحمن الرحيلي

13/ 12/ 1442

عناصر الخطبة:

1-منزلة صلة الرحم.

2-ثمرات صلة الرحم.

3-صفة  صلة الرحم.

4-التحذير من قطيعة الرحم.

5- مقابلة إساءة ذوي الرحم بالإحسان.

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي أنشأ خلقه وبَرَا، ﴿خَلَقَ مِنَ الماءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهرًا﴾ [الفرقان: 54] لا يغيب عن بصره دبيب النمل في الليل إذا سرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ﴿لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرضِ وَما بَينَهُما وَما تَحتَ الثَّرى﴾ [طه: 6]

وأشهد أن محمدًا رسولُ الهدى وخيرُ الورى، أعلى الناس منزلة وقدرًا، وأوصلهم رحمًا وبرًّا، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أعلام الهدى.

 

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى،  واشكروا نعم المنان الكريم، واحمدوه أن هداكم لدين قويم، دين يحض على الاجتماع والصلة والائتلاف، وينهى عن الفرقة والقطيعة والاختلاف.

 

ألَّف بين المسلمين برباط الأسرة، ووثق بنيان المؤمنين بإيجاب المودة والصلة.

 

فكم قرن الله في كتابه بين حقه وحق الوالدين وحق الأقربين ؛ قال تعالى في كتابه المبين (وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَـاناً وَبِذِى الْقُرْبَى) [النساء: 36]

 

ولأهمية الرحم قرن الله بينها وبين حقه في التقوى؛ فقال تعالى: (وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ واَلأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء: 1]،   اتقوها أن تقطعوها، واعرفوا حقها أن تهضموها.

 

صلة الرحم من واجبات الدين، وعلامة على كمال إيمان المؤمنين، ((من كان يؤمِن بالله واليومِ الآخر فليصِل رحِمَه))

 

هي حق لكل من تربطك به صلة نسب أو قرابة، وكل من كان أقرب كان حقه أولى وألزم: أمَّكَ، وأباكَ، وأختَكَ، وأخاكَ، ثمَّ أدناكَ أدناكَ.

 

عباد الله.. لصلة الرحم ثمرات عظيمة في الدنيا والآخرة:

فبصلة الرّحم تندفَع المصائب النازلة، وترتفع البَلايا الحاصلة، لمّا نزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي أول ما نزل رجع ترجِف بوادرُه حتّى دخل على خديجةَ فقالت له: (كلاّ والله، لا يخزيكَ الله أبدًا؛ إنّك لتصلُ الرّحم، وتحمِل الكَلّ، وتكسِب المعدومَ، وتَقري الضّيف).

 

الله أكبر!

صلة الرحم سبب لدفع البلايا العظام، وهي من شريف خصال نبينا عليه الصلاة والسلام!

 

لقد خلق الله الرحمَ، وشقَ لها اسمًا من اسمِه، ووعَد تعالى بوصلِ مَن وصلَها، وحسبك بصلة الرحمن الرحيم، وإحسان الرب العظيم.

 

قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((قال الله للرّحم: أما ترضينَ أن أصلَ من وصلك وأن أقطعَ من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لك))

((والرحمُ معلّقة بالعرش تقول: مَن وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله)).

 

يُبقي الله أثرَ واصلِ الرّحم طويلاً، فلا يضمحل سريعا.

إن صلة ذوي القربى بركة في الأعمار والآجال، وبسط في الأرزاق والأموال.

 

قال نبينا صلى الله عليه وسلم ((صلة الرحم محبّةٌ في الأهل، مثراة في المالِ، منسَأَة في الأثر)).

 

و ((من أحبَّ أن يُبسَط له في رزقه ويُنسَأ له في أثَره فليصِل رحمَه))

الصلة سبب لنيل محبة الله ؛ قال الله في الحديث القدسي (حقت محبتي للمتواصلين فيَّ)

 

عبادة جليلة من أجل العبادات.. يقول عمرو بن دينار: "ما مِن خطوة بعد الفريضةِ أعظمُ أجرًا من خطوةٍ إلى ذي الرّحم".

 

منن من المنان متكاثرة، وثوابُ معجَّل في الدنيا قبل الآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: ((ليس شيء أُطِيع الله فيه أعْجَل ثوابًا من صِلةِ الرحم))

 

إن حقّ الرحم في البذلِ والعطاء مقدّمٌ على اليتامَى والفقراء

قال عليه الصّلاة والسّلام: ((الصدَقَةُ على المِسكينِ صَدقةٌ ، و هِيَ على ذِي الرَّحِمِ اثْنتانِ : صَدَقةٌ و صِلَةٌ))

 

وأما في الدار الأخرى؛ فجنات النعيم لمن وصل ذوي القربى.

يقول عليه الصلاة والسلام: ((أهلُ الجنة ثلاثة: ذو سلطانٍ مُقسط، ورجلٌ رحيم رقيقُ القلب بكلّ ذي قُربى ومسلم، ورجلٌ غنيّ عفيف متصدِّق))

 

آثار جليلة، وثمار مباركة، يجتمع على الواصل الشمل، ويمتنع عنه الذل، وينال محبة الأهل، ويورثه الله ذكرًا حسنًا في الحياة وبعد انقضاء الأجل.

 

فهنيئا للواصل؛ فهو في أفضل المنازل

قال رسولُ اللهِ ﷺ: " إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ المَنَازِلِ"

 

عباد الله ..

صلة الرحم؛ أجور كبيرة، وطرق سهلة يسيرة، زيارة وصلة، بشاشة ولين معاملة، ومهاتفة ومراسلة؛ هدية وسؤال، صدقة وتفقد للأحوال.

 

مشاركةٌ في الأفراح ومواساةٌ في الأتراح، زيارة مريضهم وإجابة دعوتهم.

وتحمل الأذى منهم، والصفح عنهم.

 

والمعنى الجامِع لذلك كلّه إيصالُ ما أمكَن من الخير، ودفعُ ما أمكنَ منَ الشرّ.

 

أيها المؤمنون: إن قطيعة الرحم كبيرة من كبائر الذنوب؛ متوعد صاحبها بالعقوبات العاجلة والآجلة، في الدنيا والآخرة.

إن قاطع الرحم مقطوع من الله تعالى؛ متوَعَّد بلعنة المولى، وبسوء الدار في الأخرى.

 

إن قطيعة الرحم من أسباب طمس القلوب والضمائر، والحرمان من العلم وعمى البصائر، إنها فساد في الأرض عظيم.. (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) [محمد: 22-23]

 

الهجران والقطيعة، مزيلة للألفة والمودة، ومؤذنة بتعجيل العقوبة وحلول اللعنة، إنها سبب لنزول النقم، وزوال النعم.

 

عقوبتُها معجَّلة في الدّنيا قبلَ الآخرة، يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((ما مِن ذنبٍ أجدر أن يعجِّل الله لصاحبِه العقوبةَ في الدّنيا مع ما يدَّخره له في الآخرة من البغي ـ أي: الظلم ـ وقطيعة الرحم))

 

والجنة تبلغ ريحها خمسمائة عام ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحمٍ.

قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يدخل الجنّةَ قاطع))

 

 لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يستوحِشون مِن الجلوس مع قاطِع الرّحم، فقد كان ابن مسعود رضي الله عنه جالسًا في حلقةٍ بعدَ الصبح فقال: (أنشد الله قاطعَ رحمٍ لَمَا قام عنَّا فإنّا نريدُ أن ندعوَ ربَّنا؛ وإنّ أبوابَ السماء مُرتَجَة ـ أي: مغلقة ـ دونَ قاطِع الرّحم).

 

قال علي بن الحسين -رحمه الله-: "يا بني: لا تصحبن قاطع رحم؛ فإني رأيته ملعونًا في كتاب الله في ثلاثة مواضع، ومن لم يصلح لأهله لم يصلح لك، ومن لم يذب عنهم لم يذبَّ عنك".

 

وبعد عباد الله.. فصلوا أرحامكم وتواضعوا، وتغاضوا عن زلاتهم وتغافلوا، واقبلوا أعذارهم إن هم أخطأوا واعتذروا، واصفحوا عنهم، وانسوا معايبهم؛ فما زادَ الله عبدًا بعفو إلاّ عِزًّا.

 

اللهم أعنا على البر والصلة، وأعذنا من الهجر والقطيعة، وطهر قلوبنا من الغل والغش والحسد والضغينة.

واغفر لنا وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله العلي الأعلى، وصلى الله وسلم على النبي المصطفى والرسول المجتبى، وعلى آله وصحبه أولي الألباب والنهى.

 

أما بعد..

فقد جاء رجلٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله، إنّ لي قرابةً أصِلهم ويقطعونني، وأُحسِن إليهم ويسيؤون إليّ، وأحلم عليهم ويجهَلون عليّ، فقال عليه الصلاة والسلام: (لئن كان كما تقول فكأنّما تسِفُّهم المَلّ - كأَنَّمَا تُطْعِمُهُمْ الرَّماد الحارَّ، فيلْحَقُهمْ عظيم الإثم بإساءتهم، كما يَلْحقُ آكِلَ الرَّمادِ الحار عظيم الأذى-

 

قال (فكأنّما تسِفُّهم المَلّ، ولا يزال معك من الله ظهير ما دمتَ على ذلك)

الله أكبر !

(ولا يزال معك من الله ظهير ما دمتَ على ذلك)

 

إنّ مقابلةَ الصلة بالصلة؛ والإحسانِ بالإحسان: مكافأةٌ ومجازاة، ولكن الواصلَ من يَتفضَّل على صاحبِه، ولا يُتَفضّل عليه، قال عليه الصلاة والسلام: ((ليسَ الواصل بالمكافئ، ولكنّ الواصلَ مَن إذا قَطعَت رحمُه وصَلها))

 

عباد الله.. فشت القطيعة في زماننا؛ من أناس ماتت عواطفهم؛ وغلب عليهم لؤمهم!

قطعوا أرحامهم؛ بل وألحقوا الضرر بهم، وورثوا القطيعة أبناءهم.

 

يهجر الأقربين والعشيرة؛ لحظوظ دنيوية حقيرة؛ وتستمر القطيعة والهجران؛ وينفخ في نارها الشيطان، إلى أن يحضر الأجل؛ ويندم النادم حين لا ينفع الندم، فيذهبون جميعا إلى خالقهم، ويترُكون جيفَةَ الدنيا وراءهم، فيقضي الله الحكم العدل بينهم.

 

فكلّ رحِم آتيةٌ يومَ القيامةِ أمامَ صاحبها، تشهَد له بصلةٍ إن كانَ وصلها، وعليه بقطيعةٍ إن كان قطعَها.

 

فاتقوا الله ما دمتم في زمن الإمهال؛ وبلوا أرحامكم ولو بالمهاتفة والسؤال.

صلوا أرحامكم يرحمكم المولى، وخالفوا بذلك النفس والهوى، اصبروا منهم على الأذى، تنالوا حسن العاقبة في الدنيا، وجنات النعيم في الأخرى.

 

ثم صلوا وسلموا عباد الله؛ على نبيكم محمد رسول الله.

صلوا وسلموا على من بعثه الله إماما ورحمة، وقد كان أوصل الخلق لرحمه.

 

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ، اللهم بارِك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما بارَكتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.

 

اللهم أحسِن عاقبَتنا في الأمور كلِّها، وأجِرنا من خِزيِ الدنيا وعذابِ الآخرة.

اللهم إنا نعوذُ بك من زوالِ نعمتِك، وفُجاءَة نقمتِك، وتحوُّلِ عافيتِك.

اللهم انصر دينَك، وكتابَك، وسُنَّةَ نبيِّك وعبادك الصالحين.

اللهم آمنَّا في أوطانِنا، وأصلِح اللهم وُلاةَ أمورنا، اللهم وفِّق خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضَى، اللهم وفِّقه وولي عهده لهُداك، واجعل عملَهما في رِضاك.

نسألُك الجنةَ وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل، ونعوذُ بك من النار وما قرَّب إليها من قولٍ أو عمل، برحمتِك يا أرحم الراحمين.

 

 

المرفقات

1631109631_خطبة صلة الرحم.docx

1631109631_خطبة صلة الرحم.pdf

المشاهدات 1635 | التعليقات 0