صلاة الفجر
سليمان بن خالد الحربي
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه وَنستَعِينُه ونسْتغْفِرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرُورِ أنفُسِنا وسَيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومَن سَار على نهجِه، واقْتَفَى أثرَه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بَعْدُ:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -جل وعلا-:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30].
مَعْشَرَ الإِخْوةِ: في مثل هذه الأيام يتكاسَل كثيرٌ مِن النَّاس عن الصلوات، فَقِصَرُ اللَّيلِ مع اعتياد السَّهَر سببٌ كبيرٌ في التخلُّف عن الصلاة، ومع شِدَّة الحرِّ والنَّوْم في النِّهار يَتساهَلُ فِي صَلاتَيْ الظُّهر والعصرِ، ولِذا كانَ مِن أعْظَمِ المنَنِ على الْعَبْدِ أن يكون مِمَّن يَعبُدُ اللهَ في الرَّخاءِ والشِّدَّةِ، والسِّعةِ والضِّيق، والمنْشَطِ والمكْرَهِ.
ومَعْلُومٌ أنَّ المحافَظَةَ عَلى الصَّلاةِ تَحْتَاجُ إِلى جِهَادٍ ومجاهَدَةٍ ومُصَابَرَةٍ ومُرَابَطَةٍ وتَقْوى، أَوَلَيْس اللهُ يقول: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132]، قال السعدي: -رحمه الله- أي: «على الصلاةِ بإقامتِها، بحُدودِها وأركانِها وآدابِها وخُشوعِها، فإنَّ ذَلك مُشِقٌّ على النَّفْس، ولكنْ ينْبَغي إكراهُهَا وجِهادُها على ذلك، والصبرُ معهَا دائِمًا، فإنَّ الْعبْدَ إِذا أقامَ صلاتَه على الْوَجْهِ المأمُورِ به، كان لما سِواها مِن دينِه أحفظَ وأقْوَمَ، وَإِذا ضَيَّعَها كَان لِما سِوَاها أَضْيَع»([1]).
ومثله قولُه تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:٤٥]، قال بعضُ المفسِّرين: «على الصلاةِ وحدَها خاصَّةً لأنَّها تَكْبُر على النُّفوسِ، ما لا يَكْبُر الصَّوْم، والصَّبْر هنا: الصَّوْم؛ فالصَّلاة فيها سَجْنُ النُّفُوسِ، والصُّوم إنما فيه مَنْعُ الشَّهْوةِ، فليْسَ مَن مَنَع شهوةً واحدةً أو شَهْوَتَيْن كَمَنْ مَنع جميعَ الشَّهواتِ؛ فالصَّائِمُ إِنَّما منع شهوةَ النِّساءِ والطَّعامِ والشَّرابِ، ثُمَّ ينْبَسِطُ في سائر الشَّهَواتِ مِن الْكَلام وَالمشْي والنَّظر، إِلى غيْرِ ذَلِك مِن مُلاقَاةِ الخلْقِ؛ فيَتَسلَّى بِتلك الأَشْياءِ عَمَّا مُنِع، وَالمصَلَّي يمتَنِع مِن جميعِ ذَلك، فَجَوَارِحُه كلُّها مقيَّدَةٌ بالصَّلاةِ عَنْ جميع الشَّهَواتِ. وَإِذا كان ذلِك كانَتِ الصَّلاةُ أصْعبَ عَلى النَّفْس، ومُكَابَدَتُها أشدَّ؛ فَلذَلِك قال: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ}، فعُلِم مِن ذلك عِظَمُ الصلاةِ، ومحبَّةُ البارِي لها، وتأْكِيدُه لِنبيِّهِ وَلِعبادِه بِالاصْطِبارِ والتَّصُبُّر عَلى مُكابَدَةِ النَّفْسِ لِلعِنايَةِ بِها، والمحَافَظَةِ عليْهَا؛ فإنَّ اللهَ قال: {وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ}[مريم: 65]، كما قالَ في الصلاة: {وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132].
إنَّ قضيَّةَ الصَّبْرِ والمصَابَرَةِ عَلى أمْرِ الصَّلاةِ أمْرٌ فِي غَايَةِ الْأهَمِّيةِ؛ حتَّى لا يَكْسَل المتَكاسِلُ، ويَعْلَم أنَّ الصَّلاةَ مُلازِمَةٌ للصَّبرِ، فَإِذا أرَادَ أنْ يُؤْثِرَ الْفرَاشَ عَلى الصَّلاةِ حَملَتْه مُصابَرَتُه عَلى الْقِيامِ، وَدَفَعَ الْكَسَلَ؛ وَلِذا تأمَّلُوا قَولَ اللهِ تَعالَى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ} [هود:114-115]، قالَ الْقُرطِبِيُّ: «ذَهب جُمهُورُ المتَأَوِّلِينَ مِن الصَّحابَةِ وَالتَّابِعينَ -رضي الله عنهم أجمعين- إِلى أنَّ الحَسنَاتِ هَاهُنا هِي الصَّلَواتُ الخَمْسُ، وقوله: {وَاصْبِرْ} أي: على الصلاة»([2]).
وَلِذا تأمَّلُوا كَيْفَ وَصفَها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَوصَفَ الْوُضُوءَ لها وَأَجْرَها؛ وَلْنَسْتَمِعْ إِلى هذا الحديثِ الْعظيمِ، الَّذي صحَّحهُ الإِمامُ الْبُخارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حدِيثِ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ
-رضي الله عنه- قال: احْتَبَس عَنَّا رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ذاتَ غدَاةٍ عَنْ صَلاةِ الصُّبْحِ؛ حَتَّى كِدْنا نَترَاءَى عينَ الشَّمسِ، فَخَرجَ سَرِيعًا فَثَوَّبَ بِالصَّلاةِ، فصَلَّى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وتجوَّزَ فِي صلاتِه، فلـمَّا سلَّمَ دَعا بِصَوْتِه، قَال لَنا: «عَلَى مَصَافِّكُمْ كَمَا أَنْتُمْ»، ثم انْفَتَل إِليْنَا، ثم قال: «أَمَا إِنِّي سَأُحَدِّثُكُمْ مَا حَبَسَنِي عَنْكُمُ الْغَدَاةَ، إِنِّي قُمْتُ مِنَ اللَّيْلِ، فَتَوَضَّأْتُ، وَصَلَّيْتُ مَا قُدِّرَ لِي، فَنَعِسْتُ، فَإِذَا أَنَا بِرَبِّي -عز وجل- فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَبِّ. قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ الملَأُ الْأَعْلَى؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي، قَالَهَا ثَلَاثًا، قَالَ: فَرَأَيْتُهُ وَضَعَ كَفَّهَ بَيْنَ كَتِفَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرَدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ ثَدْيَيَّ، فَتَجَلَّى لِي كُلُّ شَيْءٍ، وَعَرَفْتُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَبِّ. قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ الملَأُ الْأَعْلَى؟ قُلْتُ: فِي الْكَفَّارَاتِ. قَالَ: مَا هُنَّ؟ قلت: مَشْيُ الْأَقْدَامِ إِلَى الصَّلَوَاتِ -وَفِي رِوَايَةٍ: الْحَسَنَاتِ- وَالْجُلُوسُ فِي المسَاجِدَ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ، وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ حِينَ الْكَرِيهَاتِ»([3]).
وَفي رِوَايَةٍ مِن حَديثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «وَالْكَفَّارَاتُ المكْثُ فِي المسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ، وَالمشْيُ عَلَى الْأَقْدَامِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ، وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي المكَارِهِ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَاشَ بِخَيْرٍ وَمَاتَ بِخَيْرٍ، وَكَانَ مِنْ خَطِيَئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»([4]).
قالَ المبَارَكْفُورِيُّ: «واختِصامُ الملأِ الأعْلى إِما عِبارَةٌ عن تبَادُرِهم إِلى إثباتِ تِلكَ الْأعمالِ، والصَّعودِ بِها إِلى السَّماءِ، وَإِمَّا عَن تقاوُلِهم فِي فضلِها وشرفِها، وَإِمَّا عن اغْتِباطِهِمْ لِلنَّاسِ بِتِلكَ الْفضائِلِ؛ لِاخْتِصاصِهِمْ بِها، وتفَضُّلِهِمْ عَلى الملَائِكَةِ بِسَبِبِها، مَعَ تَهَافُتِهِمْ فِي الشَّهَواتِ»([5]).
أَعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ المشْرِكِينَ} [الروم:31].
بَاركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونَفَعني وإياكُم بما فيه من الآياتِ والذِّكر الحكيم، أقولُ ما سَمِعْتُم، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمْدُ للهِ عَلى إحسانِه، والشُّكرُ على توفيقِه وامتنانِه، وأشهَدُ أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الدَّاعي إلى جنَّتِه ورضوانِه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانه.
مَعْشَرَ الإِخْوةِ: إنَّ قضيَّةَ صلاةِ الْفَجْرِ فِي هذا الْوَقتِ خاصَّةً بحاجةٍ إلى مُتابَعَةٍ ومُصَابَرَةٍ، ولْيَتَذَكَّرْ كُلٌّ مِنَّا أجرَها وثوابَها؛ لِتْدَفَعَه إِلى المحَافَظَةِ عليْهَا، فقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ في صحيحِه، عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، قَالَ: دَخَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ المسْجِدَ بَعْدَ صَلاَةِ المغْرِبِ، فَقَعَدَ وَحْدَهُ، فَقَعَدْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي! سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ، فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ»([6])، أيُّ ثوابٍ وبشارَةٍ ينالُها مَنْ صَلَّى هاتين الصلاتَيْنِ مع الجماعة؟!
هنيئًا لِأَهْلِ الجماعاتِ، هنيئًا لِمَنْ يشهدُ العشاءَ والْفَجْرَ في جماعَةٍ، أجرُ قيامِ ليلةٍ كامِلَةٍ، ومَا أشدَّ خسارةَ الْكُسَالَى! وَمَا أزْهَدَهُمْ بِالْأُجورِ! بَلْ إِنَّ بعضَ أهلِ العلْمِ فسَّر حديثَنا هَذا بأنَّ أجْرَ الْعِشاءِ مَع الجماعَةِ أجْرُهُ نِصْفُ ليلةٍ، وأجْرُ الْفَجْرِ ليلةٌ كامِلَةٌ، فيَكُونُ المصلِّي مَع الجماعَةِ قَدْ حَصَلَ بِشُهودِهِ صلاةَ الْعِشاءِ وَالْفَجْرِ أجرَ قيامِ ليلةٍ ونِصْفٍ.
قالَ ابْنُ الجوزيِّ -رحمه الله- كما في مشكل الصحيحين: «ينالُ مُصلِّي الصبحِ في جماعةٍ ضِعْفَ ثوابِ مَنْ صَلَّى العِشاءَ فِي جماعَةٍ، ويُحْتَمَلُ أَنْ يكُونَ قولُه: «فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ» أي: كُلَّ واحدةٍ بِنِصْفِ اللَّيْلِ»([7]).
وروى مالكٌ في الموَطَّأِ عَن عُمَر، قَالَ: «لأَنْ أشهدَ الْفَجْرَ وَالعِشاءَ فِي جماعةٍ أحبُّ إليَّ مَنْ أن أُحِيي مَا بَيْنَهُمَا»([8]).
قَالَ إبراهيمُ النَّخْعِيُّ: «كانُوا يَرَوْنَ أنَّ المشْيَ إِلى الصَّلاةِ فِي الليلةِ الظَّلْماءِ مُوجِبَةٌ»([9])، يعني: تُوجِبُ لصاحبِها الجنَّةَ.
وهاتَانِ الصَّلاتَانِ جاءَتْ الأحَادِيثُ بِفَضْلِهما وتكاثَرَتْ، فَمِنْ ذَلك مَا روَاهُ الْبُخارِيُّ وَمسْلِمٌ مِن حديثِ أَبِي هريرةَ -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ صَلَاةٌ أَثْقَلَ عَلَى المنَافِقِينَ مِنَ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا»([10]).
وفِي حديثِ أُبِيِّ بْنِ كعْبٍ، عندَ أَبِي داوُدَ، أنه قال: «لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الرُّكَبِ»([11])، مَع أنَّ مَنْ لا يستَطِيعُ الحضُورَ معذَورٌ بتَرْكِ الجَماعَةِ، ولكنَّ كلَّ هذَا لِعِظَمِ الأَجْرِ فِي الْإِتيَانِ إِلى هاتَيْنِ الصَّلاتَيْنِ.
ولْنَنْظُرْ إِلى الصَّحابَةِ -رضي الله عنهم- فِي فَهْمِهمْ لِفَضلِ صلاةِ العِشاءِ فَقدْ خرَّج أَبُو الْفَضْلِ بْنُ دُكَيْنٍ بإِسْنادِهِ إِلى أَبِي الدَّردَاءِ، قَالَ: «اسْمَعُوا وَبَلِّغُوا مَنْ خَلْفَكَمْ، حَافِظُوا عَلَى هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ الْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَيْتُمُوهُمَا وَلَوْ حَبْوًا عَلَى مَرَافِقِكُمْ وَرُكَبِكُمْ»([12]). وخرَّج بإسناده، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ الْقَاعِدُونَ مَا لِلْمَشَّائِينَ إِلَى هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ: صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا»([13]).
وروَى الحافِظُ أَبُو مُوسَى بِإسْنَادِه عَن عقبةَ بْنِ عَبْدِ الغافر، قَالَ: «صَلَاةُ الْعِشَاءِ فِي جَمَاعَةٍ تَعْدِلُ حَجَّةً، وَصَلَاةُ الْفَجْرِ فِي جَمَاعَةٍ تَعْدِلُ عُمْرَةً». وروى عَن شدَّادِ بْنِ أوسٍ، قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهُ اللهُ مِنَ الَّذِينَ يَدْفَعُ اللهُ بِهِمُ الْعَذَابَ عَنْ أَهْلِ الْأَرْضِ فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ فِي جَمَاعَةٍ: الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، وَالصَّبْحِ»([14]).
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ: ألَسْنا أهلَ الذَّنُوبِ؟! أَلسْنا مَنْ أسْرَفَ عَلى نفسِه وظلَمَها وتَجَاوَزَ؟! بَلْ وَأكْثَرَ مِن التَّمادِي فِي الْإِثْمِ؟! أيُّ فرصةٍ أعْظَمُ مِن هذه الْفُرصِةِ؟!
لِمَ نَرىَ التفرِيطَ مِن أصحابِ الشَّهواتِ وَالْعَظِائمِ فِي أمرِ الصَّلاةِ؟!
والغريبُ أنَّ التفريطَ كانَ في الشَّبابِ والفتيانِ، وأمَّا الآنَ فأصْبَحْنَا نَراهُ وبِكُلِّ أسفٍ عِنْدَ كِبارِ السِّنِّ مِن الرِّجَالِ والنِّساءِ، وإذا ضيَّعَ المرءُ صَلاتَه فقدْ ضَيَّعَ دُنياهُ ودِينَه.
وخِتامًا؛ فإِنَّه يَكْثُر السُّؤالُ عَنْ جوازِ تِكْرارِ الجَماعَاتِ في مَسَاجِدِ المحَطَّاتِ والأَسْواقِ الَّتي لَا يُوجَدُ لها إِمامٌ رَاتِبٌ مُعَيَّنٌ مِن قِبَل الأوْقافِ.
والجوَابُ: أنَّ ذَلِك جائِزٌ، بِلا كرَاهَةٍ، ولَوْ كان ذَلك بعدَ خُروجِ النَّاسِ مِنْ مساجِدِهمْ، أو قبلَ ذَلِكَ، فَما دامَ أنَّ وقتَ الصَّلاةِ الشَّرْعيَّ لَمْ يخرُجْ، وأعْنِي بِوقت الصلاةِ الوْقتَ الَّذِي حدَّدهُ الشَّارِعُ، فَالْفَجْرُ مثلًا مَا لَمْ تَطْلُع الشمسُ، والْعَصْرُ مَا لم تَغْرُبْ، فتَكْرارُ الجماعَةِ في هذا المسجِدِ غيرُ مَكْرُوهٍ، مَا دامَ أنَّه ليْسَ لَهُ إِمامٌ راتِبٌ، فتَشْدِيدُ بعضِ النَّاسِ على من يُكَرِّرُونَ الجمَاعَةَ فِي بَعْضِ مساجِد المحَطَّاتِ تشَدُّدٌ لا أصلَ لَهُ؛ فَالجماعَاتُ الَّتي تُصلِّي بعدَ أنْ خَرجَ النَّاسُ مِنْ مساجِدِهِمْ، وَلوْ بكثِيرٍ، مَا دَامَ أنَّ الَوَقْتَ لم يَخْرُجْ صحيحٌ لَا إِشْكالَ فِيهِ؛ إِلَّا أنَّه فاتهم أفضليَّةُ الصلاةِ في أوَّلِ الَوَقْتِ.
قالَ الشيخُ ابْنُ عثيمين -رحمه الله-: «إذا كان المسجدُ مسجدَ سوقٍ، أو مسجدَ طريقِ سياراتٍ، أو ما أشبْهَ ذَلك، فإذا كان مسجدَ سُوقٍ يتردَّدُ أهلُ السُّوقِ إليه فيأتي الرَّجُلان والثلاثةُ والعشرةُ يصلُّون ثم يَخْرُجُونَ، كَما يُوجَدُ في المسَاجِدِ الَّتي فِي بعْضِ الأسْوَاقِ، فلا تُكره إعادةُ الجماعَةِ فيه، قال بعضُ العلماء: قولًا واحدًا، ولا خِلافَ في ذلك؛ لأنَّ هذا المسجدَ مِن أصلِهِ مُعَدٌّ لجماعاتٍ متفرِّقةٍ؛ ليس له إمامٌ راتبٌ يجتمعُ الناسُ عليه»([15])، ولكن يُشَدَّد على أهميَّةِ اختِيَارِ الْإِمامِ الْكُفْءِ لِلصَّلاةِ، فإنه «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ»([16])، وَلَيْس أشْجَعَهم وأجرَأهُمْ.
ثمَّ صلُّوا وسلِّمُوا على رسولِ الْهُدَى، وإمام الورى، فقد أمركم ربُّكم فقال -جل وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، اللهُمَّ صلِّ وسلِّمْ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِه وصحبه أجمعين، وارْضَ اللهُمَّ عن الخلفاء الراشدين، وَالأئِمَّةِ المهْدِيِّين أَبي بكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ وعليٍّ، وعنِ الصَّحابةِ أجْمَعين، وعنَّا معهم بعفْوِك وكَرَمِك يا أكرمَ الأكْرَمِين...
([3]) أخرجه أحمد (5/243، رقم 22162)، والترمذي (5/368، رقم 3235)، وقال: حسن صحيح، والطبراني (20/109، رقم 216)، والبزار (7/110، رقم 2668).
([4]) أخرجه أحمد (1/368، رقم 3484) وعبد بن حميد (ص 228، رقم 682) والترمذي (5/367، رقم 3234)، وقال حسن غريب.
([6]) أخرجه مسلم (1/454، رقم 656).
([7]) كشف المشكل من حديث الصحيحين (ص: 122).
([8]) فتح الباري لابن رجب (6/ 36).
([9]) فتح الباري لابن رجب (6/ 35).
([10]) أخرجه البخاري (1/234، رقم 626)، ومسلم (1/451، رقم 651).
([11]) أخرجه أحمد (5/140، رقم 21302)، وأبو داود (1/151، رقم 554)، والنسائي (2/104، رقم 843)، وابن ماجه (1/259، رقم 790)، وابن حبان (5/405، رقم 2056)، والحاكم (1/375، رقم 904).
([12]) تفسير القرطبي (3/ 212).
([13]) فتح الباري لابن رجب (6/ 36).
([14]) فتح الباري لابن رجب (6/ 36).