صلاة الجماعة (9) اختلاف الصفوف وتفرق القلوب للشيخ إبراهيم الحقيل

الفريق العلمي
1438/10/24 - 2017/07/18 15:24PM

صلاة الجماعة (9) اختلاف الصفوف وتفرق القلوب

خطبة الشيخ د. إبراهيم الحقيل 

بتاريخ 27-10-1438هـ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْبَرِّ الرَّحِيمِ، الْعَفُوِّ الْكَرِيمِ؛ رَحِمَ عِبَادَهُ بِكُتُبِهِ فَأَنْزَلَهَا، وَهَدَاهُمْ إِلَيْهِ بِشَرَائِعِهِ فَبَيَّنَهَا، فَمَنْ تَمَسَّكَ بِهَا هُدِيَ وَنَجَا، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا ضَلَّ وَشَقِيَ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ قَسَمَ الصَّلَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِهِ؛ فَالْعَبْدُ يَحْمَدُهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ يَسْتَعِينُ بِهِ وَيَسْأَلُهُ الْهِدَايَةَ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقْبَلُ حَمْدَهُ وَيَجْزِيهِ بِهِ، وَيُعْطِيهِ سُؤْلَهُ، وَيَهْدِيهِ صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ عَظَّمَ أَمْرَ الصَّلَاةِ وَأَكْثَرَ الْقَوْلَ فِيهَا، وَخَتَمَ حَيَاتَهُ وَهُوَ يُوصِي بِهَا، فَكَانَتْ آخِرَ وَصَايَاهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ، وَتَذَكَّرُوا نِعَمَهُ عَلَيْكُمْ فَاحْمَدُوهُ وَاشْكُرُوهُ، وَتَأَمَّلُوا مَقَادِيرَهُ فِي عِبَادِهِ فَعَظِّمُوهُ وَسَبِّحُوهُ، وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ وَكَبِّرُوهُ؛ فَإِنَّهُ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ، شَدِيدُ الْمِحَالِ، عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ [الْبَقَرَةِ: 165].

أَيُّهَا النَّاسُ: اجْتِمَاعُ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَآلُفُ قُلُوبِهِمْ؛ مَقْصِدٌ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ الْحَكِيمِ، وَعَلَيْهِ بُنِيَتْ كَثِيرٌ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ.

وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةَ مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ وَحَجٍّ مُجَرَّدَةٌ عَنْ ذَلِكُمُ الْمَقْصِدِ فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِالشَّرِيعَةِ وَأَحْكَامِهَا.

وَالصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ سَبَبٌ لِائْتِلَافِ الْمُسْلِمِينَ وَاجْتِمَاعِ كَلِمَتِهِمْ؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ فِي الْجَمَاعَةِ، فَيَلْتَقِي الْمُصَلِّي بِإِخْوَانِهِ الْمُصَلِّينَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَهَذَا مِنْ حِكَمِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي حُرِمَ خَيْرَهَا بَعْضُ النَّاسِ فَضَيَّعَهَا، وَأَسَاءَ آخَرُونَ فَزَهَّدُوا النَّاسَ فِيهَا، وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّنْ شَرَعَهَا وَفَرَضَهَا، وَأَوْجَبَ الْعُقُوبَةَ عَلَى الْإِخْلَالِ بِهَا.

إِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَيَعْجَبُونَ مِنْ كَثْرَةِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ. لَكِنْ لَوْ عَلِمُوا أَثَرَهَا فِي تَقَارُبِ الْقُلُوبِ وَاجْتِمَاعِهَا وَتَآلُفِهَا لَمَا عَجِبُوا مِنْ ذَلِكَ وَلَمَا اسْتَغْرَبُوهُ. وَأَوَامِرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ كَثِيرَةٌ؛ فَحَثَّهُمْ عَلَى تَرَاصِّ الصُّفُوفِ، وَبَيَّنَ أَنَّ إِقَامَةَ الصُّفُوفِ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَتَخَلَّلُ مِنْ خَلَلِ الصَّفِّ لِيَسْرِقَ مِنْ صَلَاتِهِمْ، وَيُذْهِبَ خُشُوعَهُمْ. وَذَكَرَ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الَّذِينَ يَصِلُونَ الصُّفُوفَ، وَيَسُدُّونَ الْفُرَجَ.

وَلَمْ يَكْتَفِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ بِالْقَوْلِ وَالْأَمْرِ، بَلْ ضَمَّ إِلَيْهِ الْفِعْلَ وَالْوَعِيدَ عَلَى الْمُخَالَفَةِ فِيهِ بِاخْتِلَافِ الْقُلُوبِ؛ لِنَعْلَمَ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّا يَقَعُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَبَاغُضٍ وَتَنَاحُرٍ وَاخْتِلَافٍ فِي الْقُلُوبِ فَإِنَّ مَنْ أَسْبَابِهِ عَدَمَ الْعِنَايَةِ بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، وَقَدْ أَخْبَرَنَا عَنْ أَثَرِ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ أَوِ الْإِخْلَالِ بِهَا عَلَى الْقُلُوبِ؛ فَفِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَوِّي صُفُوفَنَا حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِهَا الْقِدَاحَ حَتَّى رَأَى أَنَّا قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ، ثُمَّ خَرَجَ يَوْمًا فَقَامَ حَتَّى كَادَ يُكَبِّرُ فَرَأَى رَجُلًا بَادِيًا صَدْرُهُ مِنَ الصَّفِّ فَقَالَ: عِبَادَ اللَّهِ لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَالسِّيَاقُ لِمُسْلِمٍ.

وَقَدْ قِيلَ فِي اخْتِلَافِ الْوُجُوهِ: إِنَّهُ وَعِيدٌ بِمَسْخِهَا، قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ حَزْمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: «هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ. وَالْوَعِيدُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي كَبِيرَةٍ مِنَ الْكَبَائِرِ». وَقَدْ عَدَّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ فِي كَبَائِرِهِ اخْتِلَافَ الصُّفُوفِ وَقَطْعَهَا مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: «مَعْنَاهُ: يُوقِعُ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ وَاخْتِلَافَ الْقُلُوبِ، كَمَا يُقَالُ: تَغَيَّرَ وَجْهُ فُلَانٍ عَلَيَّ، أَيْ: ظَهَرَ لِي مِنْ وَجْهِهِ كَرَاهَةٌ لِي، وَتَغَيَّرَ قَلْبُهُ عَلَيَّ؛ لِأَنَّ مُخَالَفَتَهُمْ فِي الصُّفُوفِ مُخَالَفَةٌ فِي ظَوَاهِرِهِمْ، وَاخْتِلَافُ الظَّوَاهِرِ سَبَبٌ لِاخْتِلَافِ الْبَوَاطِنِ».

وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى مَا جَاءَ مِنْ أَحَادِيثَ تُثْبِتُ أَنَّ اخْتِلَافَ الصُّفُوفِ سَبَبٌ لِاخْتِلَافِ الْقُلُوبِ، وَمِنْهَا حَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَلَّلُ الصُّفُوفَ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَى نَاحِيَةٍ، يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا وَصُدُورَنَا وَيَقُولُ: لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

وَقَدْ فَهِمَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ مَا وَقَعَ مِنَ اخْتِلَافٍ وَتَفَرُّقٍ فِي الْأُمَّةِ فِي أُخْرَيَاتِ حَيَاتِهِمْ إِنَّمَا كَانَ مِنْ أَسْبَابِهِ اخْتِلَافُهُمْ فِي صُفُوفِ صَلَاتِهِمْ؛ كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلَاةِ، وَيَقُولُ: «اسْتَوُوا، وَلَا تَخْتَلِفُوا، فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ...» قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: «فَأَنْتُمُ الْيَوْمَ أَشَدُّ اخْتِلَافًا».

وَالِاخْتِلَافُ فِي الصُّفُوفِ يَكُونُ بِاعْوِجَاجِهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَاهُمْ عَنِ الِاخْتِلَافِ فِي الصَّفِّ لَمَّا رَأَى رَجُلًا بَادِيًا صَدْرُهُ لِتَقَدُّمِهِ فِي الصَّفِّ. كَمَا يَكُونُ بِوُجُودِ فُرُجَاتٍ يَتَخَلَّلُ مِنْهَا الشَّيْطَانُ، كَمَا يَكُونُ بِقَطْعِ الصَّفِّ وَعَدَمِ وَصْلِهِ؛ وَلِذَا فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ لِكَيْ تَتَحَقَّقَ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ تَسْوِيَةِ الصَّفِّ مِنَ الِاعْوِجَاجِ، وَتَرَاصِّ الْمُصَلِّينَ فِيهِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى فِيهِ فُرُجَاتٌ، وَوَصْلِ الصَّفِّ الْمُنْقَطِعِ، وَعَدَمِ إِنْشَاءِ صَفٍّ جَدِيدٍ حَتَّى يَمْتَلِئَ الصَّفُّ الَّذِي قَبْلَهُ.

وَإِذَا وُجِدَتْ فُرْجَةٌ فِي الصَّفِّ وَأَرَادَ أَحَدُ النَّاسِ أَنْ يَسُدَّهَا وَجَبَ عَلَى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ أَنْ يُلِينُوا أَيْدِيَهُمْ وَمَنَاكِبَهُمْ لِيَدْخُلَ فِي تِلْكَ الْفُرْجَةِ وَيَسُدَّهَا؛ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَقِيمُوا الصُّفُوفَ، فَإِنَّمَا تَصُفُّونَ بِصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ، وَلِينُوا فِي أَيْدِي إِخْوَانِكُمْ، وَلَا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ...» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، ثُمَّ قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي تَفْسِيرِهِ: «مَعْنَى: وَلِينُوا بِأَيْدِي إِخْوَانِكُمْ: إِذَا جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الصَّفِّ فَذَهَبَ يَدْخُلُ فِيهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُلِينَ لَهُ كُلُّ رَجُلٍ مَنْكِبَيْهِ حَتَّى يَدْخُلَ فِي الصَّفِّ» اهـ. وَقَدْ فُسِّرَ قَطْعُ الصَّفِّ بِأَنْ يَقْعُدَ بَيْنَ الصُّفُوفِ بِلَا صَلَاةٍ، أَوْ يَمْنَعَ الدَّاخِلَ مِنَ الدُّخُولِ فِي الْفُرُجَاتِ.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خِيَارُكُمْ أَلْيَنُكُمْ مَنَاكِبَ فِي الصَّلَاةِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَهَذِهِ الْخَيْرِيَّةُ يُحْرَمُ مِنْهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِسَبَبِ أَنَّهُ يَرَى أَنَّهُ جَاءَ مُبَكِّرًا فَلَا يَحِقُّ لِلْمُتَأَخِّرِ أَنْ يَدْخُلَ بِجِوَارِهِ. مَعَ أَنَّهُ يَتْرُكُ فَرَاغًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ هُوَ بِجِوَارِهِ، يُرِيدُ السَّعَةَ وَلَا يُرِيدُ الضِّيقَ. وَالنَّاسُ فِي هَذَا طَرَفَانِ وَوَسَطٌ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي الصَّفِّ بِالْقُوَّةِ وَلَوْ لَمْ يَكْتَمِلْ تَرَاصُّ الصَّفِّ، أَوْ كَانَ مُتَرَاصًّا وَيُرِيدُ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُوَسِّعُوا لَهُ لِيَنَالَ فَضِيلَةَ الصَّفِّ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ يُؤْذِي غَيْرَهُ بِهَذَا التَّصَرُّفِ، وَيَعْتَدِي عَلَى حَقِّ الْمُبَكِّرِينَ فِي الْحُضُورِ لِلْمَسْجِدِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْرُكُ فُرُجَاتٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ هُمْ بِجِوَارِهِ، فَيُحْدِثُ بِسَبَبِ ذَلِكَ خَلَلًا فِي الصَّفِّ، وَيَدَعُ فِيهِ فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ، وَالصَّوَابُ فِي ذَلِكَ: أَنْ لَا يَعْتَدِيَ الْمُصَلِّي عَلَى حَقِّ غَيْرِهِ فِي الصَّفِّ، وَلَا يُؤْذِيهِمْ لِيَدْخُلَ فِيهِ بِالْقُوَّةِ، وَإِنْ رَأَى فُرْجَةً سَدَّهَا أَوْ أَلَانَ مَنْكِبَيْهِ وَيَدَيْهِ لِمَنْ يُرِيدُ سَدَّهَا.

نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُفَقِّهَنَا فِي دِينِنَا، وَأَنْ يَرْزُقَنَا الْعَمَلَ بِمَا عَلِمْنَا، وَأَنْ يَجْعَلَهُ حُجَّةً لَنَا لَا عَلَيْنَا، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ ﴿وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [الْأَنْعَامِ: 72].

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: يُنْهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَيْنَ مَا يَقْطَعُ الصُّفُوفَ كَالسَّوَارِي وَنَحْوِهَا؛ لِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كُنَّا نُنْهَى أَنْ نَصُفَّ بَيْنَ السَّوَارِي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنُطْرَدُ عَنْهَا طَرْدًا» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.

وَإِذَا كَانَ الْمُصَلِّيَانِ اثْنَيْنِ صَفَّ الْمَأْمُومُ عَنْ يَمِينِ إِمَامِهِ مُسَاوِيًا لَهُ، فَلَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ، وَقَدْ بَوَّبَ عَلَى ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فَقَالَ: «بَابٌ: يَقُومُ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ، بِحِذَائِهِ سَوَاءً، إِذَا كَانَا اثْنَيْنِ» وَسَاقَ تَحْتَهُ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ ثُمَّ قَامَ، فَجِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ...» وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: « قُلْتُ لِعَطَاءٍ: الرَّجُلُ يُصَلِّي مَعَ الرَّجُلِ أَيْنَ يَكُونُ مِنْهُ؟ قَالَ: إِلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، قُلْتُ: أَيُحَاذِي بِهِ حَتَّى يَصُفَّ مَعَهُ لَا يَفُوتُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أَتُحِبُّ أَنْ يُسَاوِيَهُ حَتَّى لَا تَكُونَ بَيْنَهُمَا فُرْجَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ».

وَبَعْدُ -أَيُّهَا الْإِخْوَةُ- فَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ يَدُلُّ عَلَى عِنَايَةِ الشَّارِعِ الْحَكِيمِ بِالصَّلَاةِ وَإِقَامَتِهَا، وَحُضُورِ جَمَاعَتِهَا، وَتَسْوِيَةِ صُفُوفِهَا. وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِمَصْلَحَةِ الْمُصَلِّي فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ. وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ قَدْ فَرَّطُوا فِي الصَّلَاةِ تَفْرِيطًا عَظِيمًا، وَضَيَّعُوا مِنْهَا مَا ضَيَّعُوا. فَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَهَا بِالْكُلِّيَّةِ فَقَطَعَ صِلَتَهُ بِخَالِقِهِ سُبْحَانَهُ فَتَعْسًا لَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ ضَيَّعَ أَوْقَاتَهَا فَيَنَامُ عَنْهَا وَيُؤَخِّرُهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ ضَيَّعَ جَمَاعَتَهَا فَيُصَلِّيهَا وَحْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْضُرُ لِلْمَسْجِدِ بِلَا وَقَارٍ وَلَا سَكِينَةٍ؛ فَيَصِيحُ بِهَذَا وَذَاكَ، أَوْ يُزْعِجُ الْمُصَلِّينَ بِهَاتِفِهِ النَّقَّالِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَهَاوَنُ بِرَصِّ الصُّفُوفِ وَاسْتِقَامَتِهَا، وَيَتَضَايَقُ مِمَّنْ يَطْلُبُ مِنْهُ الِاقْتِرَابَ مِنْهُ لِسَدِّ الْفُرْجَةِ. وَكُلُّ أُولَئِكَ مِمَّنْ قَصَّرُوا فِي إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَتَعْظِيمِهَا.

فَاللَّهَ اللَّهَ فِي صَلَاتِكُمْ -عِبَادَ اللَّهِ- فَإِنَّهَا رَاحَةُ قُلُوبِكُمْ وَطُمَأْنِينَتُهَا، وَصِلَتُكُمْ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَلَا غِنَى لَكُمْ عَنْهُ سُبْحَانَهُ فِي كُلِّ أَحْوَالِكُمْ ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ [التَّوْبَةِ: 18].

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...

المرفقات

الجماعة-9-مشكولة

الجماعة-9-مشكولة

الجماعة-9-مشكولة-2

الجماعة-9-1

الجماعة-9-1

المشاهدات 1264 | التعليقات 2

جزاكم الله خير الجزاء شيخنا الفاضل


جزاك الله خيرا