صلاة الجماعة بين اهتمام السلف، وتفريط الخلف
مريزيق بن فليح السواط
1433/05/13 - 2012/04/05 16:43PM
إن الحمد لله....
أيها المسلمون:
الصلاة خير أعمالنا، وأعظم سبب لفوزنا ونجاتنا، آكد أركان الإسلام، وأساس مبانيه العظام، عمود الدين، وشعار عباد الله المؤمنين "رأس الأمر الإسلام، وعاموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله" فلا دين لمن لا صلاة له، ولا حظ له في الآخرة " أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة فأن صلحت صلح سائر عمله وأن فسدت فسد سائر عمله".
شرعها الله تعالى لحكم عظيمة، وأسرار بليغة، ومقاصد جليلة، إذ بها يتحقق الفلاح ويحصل الفوز والنجاح "الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. والذين يؤمنون بما أنزا إليك وما أنزل من قبلك وبالأخرة هم يوقنون. أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون" أمر الله بإقامتها مع جماعة المسلمين، وفي مساجدهم، لما في ذلك من المنافع العظيمة، والمصالح الدينية والدنيوية قال تعالى: "وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين".
عباد الله:
حالنا مع صلاة الجماعة حالة سئية، قد خف ميزانها لدينا، وضعف شأنها عندنا، تساهلنا في شأنها، وصار التخلف عنها أمرا هينا بل وعاديا، فالأسرة الكبيرة في البيت لا يحضر منها الا الأفراد، وبعض البيوت لا يحضر منها أحدا. مصيبة والله أن تَرى البيوت والأسواق والشوارع مكتظة بالناس، ولا يرتاد المساجد منهم إلا أفراد، والغالبية رضوا بأن يكونوا مع الخوالف، فاستحقوا عقوبة الله، ورضوا بوصف النفاق، فإن من أبرز صفات المنافقين، التكاسل عن الصلاة مع جماعة المسلمين قال تعالى: "ولا يأتون الصلاة الا وهم كُسالى ولا يُنفقون ألا وهم كارهون" وعن أبي هريره رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون مافيهما _ أي من الأجر _ لأتوهما ولو حبوا" وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق. فهل ترضى أيها المسلم: أن تكون في زمرة المنافقين بتخلفك عن صلاة الجماعة مع إخوانك المسلمين.
أيها المصلون:
التخلف عن صلاة الجماعة، دليل على ضعف الإيمان، وخواء القلب من تعظيم الرحمن، وعلامة على فتور الهمة، ولين العزيمة، إذ كيف يليق بمسلم صحيح البدن، آمن من الخوف، يسمع منادي الله يناديه: حي على الصلاة، حي على الفلاح، ثم لا يجيبه؟ ويسمع منادي الله يقول: الله أكبر، الله أكبر، ثم يكون اللعب عنده أكبر، والجلوس أمام التلفاز أكبر، والبيع والشراء أكبر، ومشاغل الحياة الدنيا أكبر، يسمعه يقول: الصلاة خير من النوم، ثم يكون النوم عنده خير من الصلاة. أيعقل أن يتخلف المسلم عن صلاة الجماعة لمثل هذه الأعذارالبالية، والحجج الواهية؟؟ ولو حسبها ما زادت على ربع ساعة يؤدي الصلاة فيها مع الجماعة لتكن له في حياته زادا، ولذنوبه ومعاصيه تكفيرا وتمحيصا، ولدخول الجنة طريقا وسلما.
يا تارك الصلاة مع الجماعة ألم تسمع التهديد والوعيد، من النبي الرحيم أرحم الناس بأمته؟ "لقد جأكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ماعنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم" هذا النبي الكريم، الرؤف الرحيم، هدد وتوعد من تخلف عن صلاة الجماعة فقال عليه الصلاة والسلام: "ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا يصلي بالناس ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار" وفي رواية لأحمد "لولا ما في البيوت من النساء والذريه أقمت صلاة العشاء وأمرت فتياني يحرقون ما في البيوت بالنار" تُرى هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرق عليهم بيوتهم بالنار لولا شناعة فعلهم وسوء عملهم؟؟ وهذه عقوبة غليظة لا تكون إلا على جريمة عظيمة.
أيها المسلم أسمع هذه الكلمات، وفكر في الأدلة والبراهين القاطعات، وانبذ الهوى، واستقم على أمر الله جل وعلا أفيليق أن يأمر الله المسلم في حال الحرب في ذلك الموقف العصيب، والخطب الرهيب، حين لا يسمع غير صوت السيوف، وحين تتطاير الرؤس من على الكتوف، بالصلاة مع الجماعة ثم لا تجب على رجل يتقلب على فراشه أمنا مطمئنا "وإذا كُنتَ فيهم فأقمتَ لهُمُ الصلاةَ فَلْتقمْ طائفةٌ منهم معَكَ ولْيأخذُوا أسلحَتهُم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكُمْ ولْتأتِ طائفةٌ أُخرى لم يُصلُّوا فليُصلُّوا معك ولْيأخُذُوا حِذْرهم وأسلحتهم".
لم يُعذر الأعمى في ترك الجماعة رغم قسوة حاله، وشدة ظروفه، ففي صحيح مسلم عن إبي هريرة رضي الله عنه قال: آتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى، فقال يا رسول الله: إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأل رسول الله أن يرخص له أن يصلي في بيته فرخص له فلما ولى دعاه وقال: "أتسمع النداء بالصلاة" قال: نعم. قال عليه الصلاة والسلام: "فأجب" وفي رواية لأبي داود: "إني ضرير البصر، شاسع الدار" وفي رواية: "إن المدينة كثيرة الهوام والسباع" يا عبد الله: أتظن أن صلاة الجماعة تجب على هذا الصحابي، الذي جمع فقد البصر، وبعد الدار، وخطورة الطريق وما فيه من هوام وسباع، وعدم وجود القائد، ولا تجب على المبصر، الصحيح الآمن، المجاور للمسجد، الذي يخترق الأذان بيته من كل جانب؟؟.
أيها المسلم:
ما عذرك إذا وقفت بين يدي الله؟؟ وما هي إجابتك عن أول سؤال تسأل عنه يوم القيامة "أن أول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة الصلاة فإذا صلحت صلح سائر عمله، وإذا فسدت فسد سائر عمله" "قل لعباديَ الذين أمنوا يُقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقنهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لابيع فيه ولا خلال".
الحمد الله على إحسانه .....
عباد الله:
شأن صلاة الجماعة في الإسلام عظيم، ومكانتها عند الله عالية، ولذلك شرع الله بناء المساجد "في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها أسمه يسبح له فيها بالغدو والأصال" وأول عمل بداء به الرسول صلى الله عليه وسلم، حين قدم المدينة بناء المسجد ليجتمع فيه الصحابة، ويؤدون الصلاة فيه. وشرع الله النداء للصلاة من أرفع مكان، وبأعلى صوت، ورتب من الأجر للمؤذن والإمام ما يدعوا إليها، ويرغب فيها، وشهد الله لمن حافظ على صلاة الجماعة في المساجد بالإيمان فقال تعالى: "إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخشى إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين".
وللصلاة الجماعة من الفوائد، وعظيم العوائد، ما يدعوا للمسابقة لحضورها، والتنافس لإقامتها، فهي سبب للمودة والألفة والترابط بين المسلمين، وأمتنا في هذا العصر أحوج ما تكون إلى لم الشمل، واجتماع الكلمة، ووحدة الصف، لغلبة التفرق والإختلاف عندها، وحصول الشحناء والتقاطع بين كثير من أبنائها.
والصلاة مع الجماعه سبب للسعادة والطمأنينة وطرد الهموم والقلاقل التي هجمت على القلوب، فأذاقت أصحابها صنوف العقاب، وألوان الصعاب، فاستحوذ عليهم الشيطان، فسامهم سوء العذاب، وأدخل عليهم الهموم والغموم من كل باب، وشر الشيطان إنما تدفعه صلاة الجماعة قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من ثلاثة في قرية لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية".
رتب الله لمن أدها مع الجماعة أجرا عظيما، وثوابا جزيلا، فهو ضيف على الرحمن، وفي بيت الملك المنان، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلا في الجنة كلما غدا اوراح".
ومن فوائد صلاة الجماعة تحصيل الحسنات والأجور، وتكفير السيئات ومحو الذنوب، يقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: "صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاة في بيته وفي سوقه خمسا وعشرين ضعفا، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه ألا الصلاة لم يخط خطوة ألا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطئية، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما نتظر الصلاة" وفي روايه "صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" فيا لها من حسنات عظيمة، وأجور كثيرة، ويالله ما أشد غفلتنا، وتساهلنا في طاعة ربنا.
أيها المصلون:
لقد كان تأثر سلف هذه الأمة بهذه الأحاديث والأثار شديدا، واستقامتهم على حضور الجماعة في المسجد مستمر ودائما، لا يمنعهم مانع، ولا يقف أمام طاعة ربهم حائل، قال عبيد الله بن عمر القواريري: لم تكن تكاد تفوتني صلاة العتمة في جماعة. فنزل بي ضيف، فشغلت به، فخرجت أطلب الصلاة في قبائل البصرة، فإذا الناس قد صلوا. فقلت في نفسي: يُرْوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: صلاة الجميع تفضل على صلاة الفذ إحدى وعشرين درجة، وروي خمسا وعشرين درجة، وروي سبعا وعشرين، فانقلبت إلى منزلي، فصليت العتمة -العشاء- سبعا وعشرين مرة، ثم رقدت فرأيتني مع قوم راكبي أفراس، وأنا راكب، ونحن نتجارى وأفراسهم تسبق فرسي، فجعلت أضربه لألحقهم فالتفت إلي آخرهم، وقال: لا تجهد فرسك؛ فلستَ بلاحِقِنا!! فقلت: ولم؟؟ قال: لأنا صلينا العتمة في جماعة وصليت لوحدك.
فكم يخسر الذين يُصلّون الصلوات في بيوتهم، وكم أضاعوا من درجات علِيّة، وثواب جزيل، يُعدُّ بألوف الملايين، والله لو كان الناس يُعاقبون على صلاة الجماعة بلفت نظر في ملف الوظيفة لما تخلف عنها أحد، ولو كان حضور الصلاة مع الجماعة مقياس وشهادة للترقية والعلاوة وتولية المناصب، لتسابقوا عليها، وحرصوا على حضورها، ولو قيل لهم: إن مساهمة في شركة كذا؟؟ أو بنك كذا!! يَكسب فيها المساهم 10% لتسابقوا إليها، وسارعوا فيها، ولكنهم يُدعون إلى سبع وعشرين درجة ثم ينامون عنها، ويتخلفون عن شهودها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ولو يعلم الناس مافي النداء، والصف الأول، ثم لا يجدون ألا أن يستهموا عليها لستهموا". بشر بن الحسن كان يقال له الصُفِّي لأنه كان يَلزم الصف الأول في مسجد البصره خمسين سنة. فانقلبت الأمور، وتغيرت المفاهيم، ونَدُر من يحافظ على هذا الواجب العظيم، ويفوت الخير العميم، ابن المسيب يقول : مافتتني تكبيرة الاحرام منذ خمسين سنة، وما نظرت إلى قفا رجل في الصلاة منذ خمسين سنة. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، وليعمل العاملون، سليمان بن مهران سبعون سنة لم تفته تكبيرة الإحرام، وبعضنا قد لا يدرك تكبيرة الإحلام في العام ألا مرة أو مرتين، ابن سماعة يقول: مكثت أربعين سنة لم تفتني التكبيرة الأولى ألا يوم ماتت أمي، مصيبتنا أننا لا نشعر بفقد أمر ديننا، ولا نتألم إذا فرطنا في طاعة ربنا، سعيد بن عبد العزيز كان إذا فاتته صلاة الجماعة بكى بكاء الثكلى، وميمون بن مهران أتى المسجد فقيل له: أن الناس قد انصرفوا، فقال: أنا لله وأنا إليه راجعون، والله لفضل هذه الصلاة أحب ألي من ولاية العراق، وبعضنا تفوته الصلاة لأمر بسيط، وشغل يسير "بل تؤثرون الحياة الدنيا. والأخرة خير وأبقى" الناس يُعزي بعضهم بعضا لفقد عزيز، أو موت قريب، لكننا لا نرى من يُعزِّي في فقد جانب من الدين،قال حاتم الأصم: فاتتني صلاة الجماعة فعزَّاني أبو إسحاق البخاري وحده، ولو مات لي ولد لعزّاني أكثر من عشرة ألاف، كم لدينا ممن يغتمون بهموم العمل، وزيادة الراتب، وموعد الترقية، ويسهرون الليالي المتطاولة، ويكدحون الأيام المتتابعة، وربما تطاول بهم الهمَّ، واستحكم القلق، فلا ينامون ألا قليلا، يعملون لدنياهم بكل همة ونشاط، ويحسبون حساب كل شاردة وواردة، ثم تفوتوهم صلاة الجماعة فلا يتألمون ولا يألمون، وقد يعتذرون بكثرة المشاغل، ومتطلبات الحياة، وأمور الدنيا، قد لبس عليهم أبليس، وزيّن لهم المتاع الفاني الخسيس، فلا من هموم الدنيا استراحوا، ولا بالجنة ظفروا وفازوا، سمع عامر بن عبد الله بن الزبير النداء للصلاة فقال لبنيه: احملوني إلى المسجد، فقالوا له: أنك مريض وقد عذرك الله، فقال: أسمع داعي الله فلا أجيبه، فأخذوه إلى المسجد ودخل في صلاة المغرب فسجد مع الإمام فلم يرفع رأسه منها.