صراع الوسطيّات / د. أحمد الزهراني( مقالة يحتاجها كل متحدث وموجه)

أبو عبد الرحمن
1430/12/26 - 2009/12/13 08:58AM
صراع الوسطيّات

د. أحمد الزهراني

التاريخ: 24/12/1430 الموافق 12-12-2009




المختصر / ما أكثر ما نتحدث عن الوسطية، وما أقل ما نصل إليها.

هناك خطآن كبيران نقع فيهما ينتج عنهما كثير من الخلط الفكري والسلوكي تحت حماية وحصانة دعوى الوسطيّة.

أوّلهما: التعامل مع الوسطية كمعيار قيمي.

فالوسطيّة ليست ضابطاً عقلياً ومعياراً فكرياً لمعرفة الصواب والخطأ، ولا لمعرفة الحق من الباطل.

الوسطيّة فضيلة وصف الله به هذه الأمّة وكتابها وشريعتها، وبهذا تيقّنّا أنّ الشريعة ونصوصها القطعيّة وثوابتها ومعالمها الشّامخة هي المعيار للصّواب والخطأ في حياة البشريّة، بغضّ النّظر عن وصف الآخرين لذلك بالوسط أم لا؛ فالشّريعة هي الحاكمة.

وإذا تبيّنّا وعلمنا حكم الشّريعة ونصوص الدّين، وما تشير إليه فتلك هي الوسطيّة الّتي ننشدها.

إنّ وسطية الإسلام ثبتت بوصف الله - تعالى - له بذلك، لا بنظر بشري.

وعليه فوسطية الإسلام مقطوعٌ بها في أحكامه العلمية والعملية والتربوية.

وبهذا يصبح من الواجب أن يتوجّه من ينشد الوسطية والاعتدال في الدين إلى النص الشرعي مباشرة، فإذا تحقق من ثبوته أولاً، ومن فهمه بفهم العلماء والأئمة الّذين بيّنوه وعملِهم به ثانياً، فإنه حينئذ قد عرف الوسطية والاعتدال حقاً من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

فالوسطية ليست علة تُشرّع من أجلها الأحكام، وإنما هي وصف يُشير إلى الحكم الشّرعي، مثلها مثل الحكم والغايات الّتي يذكرها العلماء للحكم الشرعي.

وبهذا نعرف الخطأ الذي وقع فيه من استحسن بعض الأحكام والأقوال لمجرد أنه رآها وسطاً بين أقوال عدّة.

جاءت الوسطية في النصوص الشرعية كوصف، ولم يأت الأمر بها صريحاً بلفظ التوسّط .

وهذا يجعلنا نتوقف أمام محاولة البعض وضع ضوابط للوسطية باعتبارها منهجاً، وضابطاً مستقلاً توزن به تصرفات المؤمن.

صحيح أنّ المدح والثناء بشيء يدل على الأمر، لكن امتثال هذا الأمر لا يكون بمنهج عقلي بحت، فحين يكون الأمر ليس منصوصاً على ضوابطه يكون للعقل مجال كبير فيه، وما كان للعقل مجال كبير فيه أصبح مظنة الاجتهاد والتحسين، الذي لا يخلو بحال من الأحوال من تأثير الهوى، أو المذهب، أو الأغراض الشخصية.

ولهذا يرى الباحث من خلال تتبعه للنصوص الشرعية أنها أمرت بأحوال نصّت عليها هي بلا شك ظاهرة الاعتدال والوسطيّة.

لكن لم تأمر بشيء تحت مسمى الوسط، وهذا يشير إشارة واضحة إلى أنّ اعتماد الوسطية كحال يُستنبط منه الحكم الشرعي أمر غير صحيح، والدليل على هذا هو غياب هذا الضابط في كلام السلف في نصوص وقواعد الاستدلال، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كثرة التخبط والاختلافات بين من يتنازعون دعوى الوسطية والاعتدال: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً).

والخطأ الثاني: ظنُّنا أنّ الوصول والاهتداء للوسطية – أي الحق - ممكن دون المرور بقنواتها.

الوسطية في الآراء والاجتهادات والقناعات سواء كان في مسائل شرعية أو غيرها لا يُهتدى إليها إلاّ عبر قنواتها؛ فالقول الوسطي المعتدل هو نتيجة الوسطية والاعتدال في الحالة النفسية والعقلية والعلمية للباحث المجتهد.

فالحالة النفسية والمزاجية للمجتهد قد تذهب به بعيداً عن الحق – وهو محض الوسطية بلا شك - دون أن يشعر، وهذه الحالة النفسية هي نتيجة لعوامل خلقية وعوامل بيئية اجتماعية تشكّل شخصية الإنسان، فتجعل منه شخصاً قاسياً صلباً أو شخصاً مستهتراً متهاوناً، أو غير ذلك من أنواع الشخصيات، وهذه الحالة لها تأثير في تصور الحق والقبول به.

بعض الناس يوفق للسيطرة على حالته غير المعتدلة، وبعضهم لا يوفق لذلك، بل قد لا يشعر أصلاً بانحراف حالته النفسية، ولهذا قال صلى الله عليه وسلّم: «ثلاث مهلكات: شحٌّ مطاع، وهوى متّبع، وإعجاب المرء بنفسه» فالشح والهوى والإعجاب بالنفس حالات نفسية تمنع عن الاهتداء للحق أو تصوّره أو تبنّيه والعمل به.

ومثل ذلك الحالة العقلية، ونقصد بها مجمل التصورات والأحكام العقلية التي قد تشكل قناعات سابقة، وهذه القناعات لها تأثير في نتائج اختيارات الشخص ورؤيته.

والحالة العلمية كذلك، فالشخص الجاهل أو المقلّد أو المتعصب للمذهب، كل هؤلاء حالاتهم لها تأثير في القدرة على الوصول للحق وتصور الحقيقة وتبينها، وسبب ذلك عدم قدرتهم على التغيير، إمّا بسبب الجهل بالحق أو تجاهلهم له.

دعوني أذكر لكم تأثير القصور في الحالة النفسية والعقلية والعلمية في الوسطية -كنتيجة - من خلال النظر في خاصية التوازن وتأثيرها في الوسطية:

تدور معاني الوزن حول الثقل، والتوازن مأخوذ منه بمعنى التساوي في الثقل، يُقال: توازَنَ الشيئان: استويا في الثّقل، ووازَنَ بينهما: ساوى وعادل بينهما.

ويأتي الوزن - أيضاً - بمعنى التّقدير والاعتدال، تقول: وَزَن الكلام: قدّره، واتّزن الشّيء: اعتدل.

والموازنة تشمل كلّ هذا، فتتضمّن التساوي والعدل والتّقدير، فإذا قدّرت الأمر قدره، وعدلت بين المتساويين، وأعطيت كلّ أمر وزنه وساويته بغيره مما هو مثله، فقد وازنْتَ ووزنْتَ وحقّقت التّوازن.

والتوازن من أهمّ المعاني الّتي ينتظمها منهج الوسطيّة، وعلاقته بالوسطيّة علاقة سبب بنتيجة متعاكسة؛ فالتّوازن يحقّق الوسطيّة والوسطية تحقق التوازن.

والتّوازن كمنهج أو باعتباره حالة شخصية -كما هو في معناه اللغوي - يعتمد على التقدير، وأهمّ وجوهه ثلاثة:

أ- الوجه الأوّل: تقدير الوزن القيمي لكل شيء من حولنا، بمعنى إعطاء كلّ شيء وزنه الحقيقي الذي يستحقه، سواء كان أمراً مادياً أو معنوياً، وهذا يدخل في الحالة النفسية.

وهذا له أثر كبير في إحكام تصرفاتنا وانفعالاتنا تجاه ما حولنا، فالّذي يرى صخرة كبيرة يريد أن يحملها إذا لم يستطع تقدير وزنها الحقيقي فإنّه سيعجز عن حملها، أو يعود ذلك عليه بالضرر إن حاول ذلك.

والّذي يرى المشكلة الصغيرة الّتي تمر به كبيرة فيعطيها أكبر من وزنها سيكون شخصاً معاقاً عن التصرف بسبب الخلل في تصوره وتفكيره وتقديره للأشياء، وهذا ناتج عن اختلال التوازن لديه.

ب- الوجه الثاني: هو التقدير النّسبي، وهو راجع للأول وقائم عليه؛ لأنّ الشخص إذا كان قادراً على تقدير الوزن الحقيقي للأمور استطاع أن يقارن بين كل ما حوله فيعرف الأثقل والأخف، المهم والأهم، السّيّئ والأسوأ.

وهذه الخاصية العقلية تعينه على تحديد أولويّاته، وترتيب مصالحه من حيث الأهميّة، وترتيب مشاكله من حيث أهميّتها، وترتيب المفاسد من حيث أثرها.

وهذا الأمر الّذي يقيم عليه كثير من العلماء التربويين والإداريين قواعد تدريبهم ودوراتهم، عرّفه الفقهاء المسلمون من قديم في ما يُسمى المصالح والمفاسد، وذكروا من القواعد الفقهية التي تقوم على هذا الأساس: «تُدرأ المفسدة العظمى بالدّنيا»، و «يُضحّى بالمصلحة الأقل في سبيل تحقيق مصلحة أعظم»، وغيرها كثير، وهذه القواعد وأمثالها لا يكون العالم عالماً فقيهاً حَذِقاً إلاّ إذا تحقّق لديه منهج التوازن في تفكيره وسلوكه، وإلاّ وقع في تضخيم الأمور أكثر من الحقيقة، ونحا منحى الغلوّ والتّشدّد، أو في تبسيطها أكثر من الواقع فوقع في التفريط والتساهل.

ج- والوجه الثّالث: الشّموليّة، فإنّ التّوازن بوجهيه السابقين لا يتحقق - وإن تحقق لا يكمل - دون شموليّة النظر والفكر، وهذا يدخل في الحالة العلمية.

إنّ الشخص الّذي ينظر للأمور – ماديّة أو معنويّة – من زاوية دون أخرى، أو يهمل عند معالجته لأمر من الأمور بعض عناصره الأساسية لن يستطيع الوصول إلى موقف أو حكم أو انفعال متوازن مع الواقع الّذي يعالجه، وبهذا يبتعد عن التوسط والاعتدال المطلوب.

هناك عامل آخر وهو الموقف المسبق: فإذا كان الباحث صاحب موقف مسبق فإنّ موقفه هذا سيؤثر عليه في تبنيه لقول ما في مسألة ما، فكلما كان الناظر حيادياً أو غفلاً عن المسألة والأقوال فيها قبل ذلك، كان أكثر توفيقاً للوسط والحق.

وخلاصة المقال: إنّ الوسطية لا يمكن أن تتحقق فينا أفراداً وجماعات إلاّ إذا عرفنا - أفراداً وجماعات - مراد الله منّا، وتحققنا بأمره ونهيه، بعيداً عن الأهواء الشخصية والأغراض الدنيوية والتفكير العقلي المحض.

وإلاّ إذا توافرت فينا – أيضاً أفراداً وجماعات- الصفات الّتي تنتجها، واتبعنا في ذلك القنوات الموصلة إليها.

وغير ذلك يعني أنّنا سنظلّ رهناً لعدد غير متناهٍ من الوسطيات بعدد القائلين والمتكلمين والمجتهدين والعاملين من داخل الصف الإسلامي ومن خارجه.. وهو ما يطلق عليه البعض: صراع الوسطيات.

المصدر: الإسلام اليوم

المشاهدات 2179 | التعليقات 0