صدقة الشتاء
هلال الهاجري
الحمدُ للهِ على فضلِه وإنعامِه، الحمدُ للهِ على مَنِّه وإكرامِه، الحمدُ للهِ الذي جعلَ الشَّمسَ ضِياءً، والقمرَ نوراً، وقَدَّرَه منازلَ لتعلموا عددَ السِّنينَ والحسابِ، الحمدُ للهِ الملكِ الحقِّ المبينِ، وأشهدُ أن لا الهَ الا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، إلهُ الأولينَ والآخرينَ، وبيدِه ملكوتُ السَّمواتِ والأراضينَ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه إمامُ المتقينَ، وخَاتمُ النَّبيينَ، بعثَه اللهُ رحمةً للعالمينَ، فصلواتُ اللهِ وسلامُه عليه وعلى آلِه وأصحابِه ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ، أما بعد:
رأى رَجلٌ في الشَّامِ رؤيا عجيبةً في المنامِ، فجهَّزَ لها متاعَه ودابتَه، ثُمَّ انطلقَ إلى المدينةِ النَّبويةِ، يسيرُ الليلَ والنَّهارَ، ويقطعُ الفَيافيَ والقِفارَ، حتى إذا بَلغَ المدينةَ صارَ يقولُ للنَّاسِ: دُلُّوني على صفوانَ بنِ سُليمٍ، فقِيلَ له: وما حاجتُكَ بصفوانَ بنِ سُليمٍ؟، قالَ: رأيتُه في المنامِ وقد دَخلَ الجَنَّةَ، فقيلَ له: بأيِّ شيءٍ؟، قالَ: بقَميصٍ كَساهُ إنسانًا .. فسُئلَ صَفوانُ رحمَه اللهُ عن قِصَّةِ القَميصِ، فقَالَ: خرجتُ من المسجدِ في ليلةٍ بارِدةٍ فإذا رجُلٌ عُريانٌ، فنزعتُ قَميصي فكسوتُه.
وسيزدادُ عَجبُكَ حينما تعلمُ أنَّ صفوانَ بنَ سُليمَ هذا كانَ من أهلِّ الحديثِ الذينَ رووا الحديثَ عن بعضِ الصَّحابةِ، بل وكانَ من العُبَّادِ الصَّالحينَ، حتى قالَ عنه أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ: رَأَيْتُ صَفْوَانَ بْنَ سُلَيْمٍ وَلَوْ قِيلَ لَهُ: غَدًا الْقِيَامَةُ، مَا كَانَ عِنْدَهُ مَزِيدٌ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْعِبَادَةِ.
وكَانَ يُصَلِّي عَلَى السَّطْحِ فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ لِئَلَّا يَجِيئَهُ النَّوْمُ .. قَالَ سُفْيَانُ: أَخْبَرَنِي الْحَفَّارُ الَّذِي يَحْفِرُ قُبُورَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: حَفَرْتُ قَبْرَ رَجُلٍ، فَإِذَا أَنَا قَدْ وَقَعْتُ عَلَى قَبْرٍ فَوَافَيْتُ جُمْجُمَةً، فَإِذَا السُّجُودُ قَدْ أَثَّرَ فِي عِظَامِ الْجُمْجُمَةِ، فَقُلْتُ لِإِنْسَانٍ: قَبْرُ مَنْ هَذَا؟، فَقَالَ: أَوَ مَا تَدْرِي؟، هَذَا قَبْرُ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ.
والآنَ قد يسألُ السَّائلُ وحُقَّ له أن يَسألَ: مع علمِ وعبادةِ وزُهدِ وصلاحِ وعملِ صَفوانَ، ما هو السِّرُ في رؤيةِ دخولِه الجنَّةِ بسببِ ثوبٍ واحدٍ كساهُ عُريانَ في ليلةٍ باردةٍ؟.
تأملوا معي هذه الأسبابِ التي قد تكونُ قد دفعتْ صفوانَ لهذا الفعلِ فبلغَتْ به هذا المنزلةِ:
السببُ الأولُ: أنَّ بذلَ المالِ وهو المحبوبُ للنَّفسِ البشريةِ، لا يُمكنْ أن يكونَ إلا لما هو أحبُّ إليها منهُ، فلا يبذلُه في سبيلِ اللهِ تعالى إلا من تحقَّقَ فيهِ قولُه تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ) أيْ: من كلِّ شيءٍ، حتى من المالِ، ولا يبذلُه إلا مَنْ كانَ خائفاً من يومٍ ليسَ للإنسانِ فيه إلا ما سعى، استجابةً لقولِه عزَّ وجلَّ: (قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ).
السببُ الثَّاني: أنَّ العبادةَ إذا كانتْ مُتعديَّةً إلى الغيرِ، فإنَّها من أحبِّ الأعمالِ إلى اللهِ تعالى، كما في حديثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَجُلا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟، وَأَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا)، فما هو شعورُ ذلكَ المسلمِ، وهو يَكتسي بعدَ العُريِّ، ويشعرُ بالدِّفءِ بعدَ البردِ، خاصةً بعدما آثرهُ صفوانُ بثوبِه في تلكَ الليلةِ الباردةِ، فأيُّ سُرورٍ أدخلَه صفوانُ على قلبِه، وأيُّ سعادةٍ مَلأَ بِها حياتَه، وما هو الدُّعاءُ الذي دعا به لصفوانَ؟.
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقولُ ما تسمعونَ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، جعلَ المسلمينَ أُخوةً مَتحابينَ، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، الملكُ الحقُ المبينُ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه الصادقُ الأمينُ، صلى اللهُ وسلمَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه والتَّابعينَ، أما بَعدُ:
السببُ الثَّالثُ: هو المعنى العظيمُ الذي يستشعرُه المُتصدِّقُ في قولِه تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، ثُمَّ يرى أخاهُ في موقفِ الحاجةِ مع قدرتِه على العَطاءِ، فيُعطيه عطاءَ الأخِ لا عطاءَ الفُقراءِ، ويؤمنُ بما جاءَ عَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)، فكيفَ يذوقُ الإنسانُ طعمَ النَّومِ والرَّاحةِ، وعضوٌ من أعضائهِ مكشوفٌ في البَردِ.
وهكذا المؤمنُ يتعاطفُ ويرحمُ إخوانَه المؤمنينَ، فإذا جلستَ أنت وأبناءَك على مائدةِ العشاءِ السَّاخنِ في الليلةِ الباردةِ، قد آواكم بيتٌ دَافئٌ، وفِراشٌ ناعمٌ، فتذكَّرْ أنَّ لكَ إخواناً أُخرجوا من بيوتِهم قَهراً، فهم نُزلاءُ الخيامِ دَهراً، لباسُهم العَراءُ، ولِحافُهم السَّماءُ، فَرُّوا من موتِ السَّلاحِ والحروبِ، فقتلَهم البردُ في الملاجيءِ والدُّروبِ، ومنهم من هو بينِنا لا نَفطنُ لهُ، فهم بينَ بردِ الشِّتاءِ والجوعِ، وبينَ الأحزانِ والدُّموعِ، ينظرُ إلى زوجتِه وأبنائه وهم يشتكونَ، ولا يملكُ إلا دعاءَ خالقِ الكونِ، لِسانُ حالِ أحدِهم يقولُ:
أَتـدري كيـفَ قَابلنـي الشِّتاءُ *** وكيفَ تَكونُ فيه القُرفصاءُ
وكيفَ البردُ يفعلُ بالثَّنايا *** إذا اصطكَّتْ وجاوبَها الفَضاءُ
فـإنْ حلَّ الشِّتاءُ فأدفئونـي *** فإنَّ الشَّـيخَ آفتُه الشِّتاءُ
أَتدري كيفَ جارُك يا ابنَ أُمِّي *** يهدِّدُه من الفَقـرِ العَناءُ
يَصبُّ الزَّمهريرُ عليـه ثَلجاً *** فتَجمدُ فـي الشَّـرايينِ الدِّماءُ
خِرافُ الأرضِ يَكسوهُنَّ عِهنٌ *** وتَرفلُ تحتَـه نِعـمٌ وشَـاءُ
وللنَّملِ المساكنُ حيـنَ يَأتـي *** عليـهِ البردُ أو جُنَّ المسـاءُ
وهذا الآدمـي بغيرِ دَارٍ *** فهل تَرضى بما فعلَ الشِّتاءُ
يجوبُ الأرضَ من حَيٍّ لحيٍّ *** ولا أرضٌ تَـقيهِ ولا سَماءُ
أَتلقاني وبي عَوزٌ وضِـيقٌ *** ولا تَحـنو؟ .. فما هذا الجفاءُ
اللهمَّ يا حيُّ يا قيّومُ برحمتِك نَستغيثُ، ارحم إخوانَنا وأهلَنا في كلِّ مكانٍ، اللهمَّ اكشف عنهم البلاءَ، واجعل لهم مَخرجاً، اللهمَّ أطعمْ جائعَهم، وأمِّنْ خائفَهم، اللهمّ فَرِّجْ همَّهم، ويسِّرْ أمرَهم، اللهمَّ اغفر لنا ذنوبَنا، وإسرافَنا في أمرِنا، وأدخلنا جنتَك، وأعذنا من نارِك يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ اجعلنا مقيمي الصَّلاةِ ومن ذرياتِنا، ربنا وتقبلْ دعاءَنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنينَ يومَ يقومُ الحسابُ، اللهمَّ استر عيوبَنا، واقض ديونَنا، واشف مرضانا، وارحم موتانا، اللهم اهدِ ضالَنا، واجمع على الحقِّ كلمتَنا يا ربَّ العالمينَ، اللهم آمنا في الأوطانِ والدورِ، وأصلح الأئمةَ وولاةَ الأمورِ، واغفر لنا يا عزيزُ يا غفورُ، اللهمَّ اكفنا بحلالِك عن حرامِك، واغننا بفضلِك عمن سواك، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
المرفقات
1673409152_صدقة الشتاء.docx
1673409159_صدقة الشتاء.pdf