صحافتُنا غَيَّبتْ رأيَ علمائنا في السِّياقة!!

ناصر العلي الغامدي
1432/07/03 - 2011/06/05 15:08PM
صحافتُنا غَيَّبتْ رأيَ علمائنا في السِّياقة!!
منذ أن تفجَّر بركانُ الحملةِ المشبوهة "سأقود سيارتي بنفسي"، إذا بحِمَم البركان الصحفي والفضائي يمطرنا بوابلٍ من غثاء المقالات والمتابعات، تُعْلِن عن أحقيِّة المطالبة بقيادة المرأة السيارة، لكن هذه القنوات الإعلامية جَبُنَتْ عن أن تنشر رأيَ علمائنا ومشايخنا في مسألة القيادة، بل عَمَدتْ إلى خَلْق الأكاذيب والافتراءات على بعض الأشياخ (كابن منيع، والعبيكان) بأنهم يُجوَّزون قيادة المرأة للسيارة، بينما هم يمنعونها.
يا لله العجب! لطالما تشدَّق إعلامنا بالحيادية والحرية، بيْدَ أنه واقعيًّا يمارس الإقصاء المتعمَّد في منع نشر الرأي الآخر الأشهر الأكثر (وهو الرأي الشرعي بطبيعة الحال)، حتى خُيِّلَ للناس أن العلماء صمٌّ بكْمٌ عُمْيٌ أمام الأمور العظام والأحداث الجِسام.
إن الموقف الشرعيَّ المُغَيَّبَ في صحافتنا الذي ينبغي الصَّدْعُ به هو: أن قيادة المرأة السيارة في الوقت الراهن معصيةٌ لولاة الأمر، وقد قال عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾، وأولو الأمر: الأمراءُ والعلماءُ.
وقد صدر بيانُ وزارةِ الداخلية عام 1411هـ بمنع المرأة من قيادة السيارة، وأكَّد هذا المنعَ في هذه الأيامِ نائبُ وزير الداخلية وفقه الله. ومما جاء في البيان:
"فإن وزارة الداخلية توضح للعموم تأكيدَ منعِ جميعِ النساء من قيادة السيارات بالمملكة العربية السعودية منعًا باتًا ومن يخالف هذا المنع سوف يطبق بحقه العقابُ الرادع. والله الهادي الى سواء السبيل".
أما العلماء الذين أفتوا بمنع قيادة المرأة للسيارة فهم كُثُرٌ كُثُرٌ، كلُّهم أو جلُّهم على ذلك، منهم: الشيخ ابن باز وابنُ عثيمين وعبدُ الرزاق عفيفي وابنُ غديان وابنُ جبرين وبكرُ أبو زيد رحمهم الله، والمفتي العام عبد العزيز آل الشيخ وصالح اللحيدان وصالح الفوزان وعبد الرحمن البرَّاك وعبد المحسن العبَّاد وعبد العزيز الراجحي حفظهم الله، وغيرُهم كثيرٌ جِدًّا جِدًّا من أهل العلم الشرعي. وسأكتفي هنا بفتويين مُغيَّبتين إعلاميًّا للشيخين ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله تعالى.
* قال الشيخ ابن باز رحمه الله في مجموع فتاواه (3/351):
[فقد كَثُر حديثُ الناس في صحيفة الجزيرة عن قيادة المرأة للسيارة، ومعلوم أنها تؤدي إلى مفاسدَ لا تخفى على الداعين إليها، منها: الخلوة المحرمة، ومنها: السفور، ومنها: الاختلاط بالرجال، ومنها: ارتكاب المحظور الذي من أجله حُرِّمتْ هذه الأمور. والشرعُ المطهرُ منعَ الوسائلَ المؤديةَ إلى المحرم واعْتبرَها محرمةً].
* أما فتوى الشيخ ابن عثيمين رحمه الله فقال: [الجواب ينبني على قاعدتين مشهورتين بين علماء المسلمين:
القاعدة الأولى: أن ما أفضى إلى مُحَرَّمٍ فهو مُحَرَّمٌ.
والقاعدة الثانية: أن درء المفسدة إذا كانت مكافئةً لمصلحةٍ أو أعظمَ مقدَّمٌ على جلب المصالح.
وبناءً على هاتين القاعدتين يتبين حكمُ قيادة المرأة للسيارة، فإن قيادتها تتضمن مفاسدَ كبيرة:
منها: نزعُ الحجاب؛ لأن قيادة السيارة سيكون بها كشفُ الوجه الذي هو محلُّ الفتنة، ومحطُّ أنظار الرجال، وربما يقول قائل: يمكن أن تقود السيارةَ بأن تتلثمَ وتلبسَ في عينيها نظارتين سوداوين. والجواب: هذا خلافُ الواقع من عاشقات قيادة السيارات، وعلى فرض أنه يمكن تطبيقُه في بداية الأمر فلن يدوم طويلاً، بل سيتحول في المدى القريب إلى ما كانت عليه النساءُ في البلاد الأخرى كما هي سنةُ التطورِ المتدهور في أمورٍ بدأتْ هينةً ثم متدهورةً منحدرةً إلى محاذير مرفوضة.
ومن مفاسدها: نَزْعُ الحياءِ منها، والحياءُ هو الخلق الكريم الذي تقتضيه طبيعةُ المرأة وتحتمي به من التعرض إلى الفتنة، وإذا نُزِع الحياءُ منها فلا تسأل عنها.
ومن مفاسدها: أنها سببٌ لكثرة خروج المرأة، والبيتُ خيرٌ لها كما قال ذلك أعلم الخلق بمصالح الخلق محمدٌ r.
ومن مفاسدها: أن المرأة تكون طليقةً تذهب متى شاءت حيث شاءت، وربما تبقى إلى ساعة متأخرةٍ من الليل، وإذا كان أكثرُ الناس يعانون من هذا في الشباب فما بالُكَ بالشابَّةِ إذا خرجت حيث شاءت في عرض البلد وطوله، وربما خارجه.
ومن مفاسدها: أنها سببٌ لتمرُّدها على أهلها وزوجها، فلأدنى سببٍ يثيرها في البيت تخرج منه وتذهب بسيارتها إلى حيث ترى أنها تُرَوِّحُ عن نفسها.
ومن مفاسدها: أنها سبب للفتنة في مواقفَ عديدةٍ، كالوقوف عند الإشارات ومحطاتِ البنزين ونقاطِ التفتيش، وعندَ مخالفةٍ أو حادثٍ والوقوفِ عند خللٍ في السيارة فتحتاج إلى من يسعفها، وربما تصادف رجلاً سَافِلاً يساومها على عرضها لتخليصها من محنتها.
ومن مفاسدها: كثرةُ ازدحامِ السيارات، وكثرةُ الحوادث، لأن المرأةَ بطبيعتها أقلُّ من الرجل حزماً وأعجزُ قدرة.
ومن مفاسدها: أنها سبب لإرهاق النفقة، فالمرأة بطبيعتها تحب أن تُكَمِّلَ نفسَها، ألا ترى إلى تعلقها بالأزياء كلما ظهر زيٌّ رَمَتْ بما عندها وبادرت إلى الجديد؟ وعلى قياس ذلك السيارة، فكلما ظهر موديل جديد فسوف تترك الأول إليه.
وأما قول السائل: وما رأيكم بالقول إن قيادةَ المرأة للسيارة أخفُّ ضرراً من ركوبها مع السائق الأجنبي؟ فالذي أرى أن كلَّ واحدٍ منهما فيه ضرر، وأحدُهما أضرُّ من الثاني من وجه، ولكن ليس هناك ضرورةٌ توجب ارتكابَ واحدٍ منهما.
واعلم أنني بسطت القولَ في هذا الجانب لما حصل من المَعْمعةِ والضجَّةِ حول قيادة المرأة، والضغطِ المكثفِ على المجتمع السعودي المحافظِ على دينه وأخلاقه ليستسيغ قيادةَ المرأةِ للسيارة. وهذا ليس بعجيب إذا وقع من عَدوٍّ متربصٍ بهذا البلد الذي هو آخرُ معقلٍ للإسلام يريد الأعداء أن ينقضوا عليه، ولكن من أعجبِ العجب إذا وقع هذا من قومٍ من مواطنينا ومن أبناء جلدتنا يتكلمون بألسنتنا ويستظلون برايتنا! قومٍ انبهروا بما عليه دولُ الكفر من تقدم ماديٍّ دُنيويٍّ فأُعجبوا بما هم عليه من أخلاقٍ تحرَّرُوا بها من قيودِ الفضيلةِ إلى قيود الرذيلة]. (باختصار من كتاب: الفتاوي الشرعية في المسائل العصرية من فتاوي علماء البلد الحرام، ط:3، سنة: 1427هـ ، ص:1939 – 1942).
هكذا بدا أن علماء الفتوى خرَّجوا حكم قيادة المرأة للسيارة على دليل: "سدِّ الذرائع (سدّ الوسائل المباحة المفضية للحرام)، وعلى قاعدة: "اعتبار المآلات، وقاعدة: "الموازنة بين المصالح والمفاسد. وهذه حججٌ شرعية، وقواعدُ معتبرة، عليها شواهد كثيرة من الكتاب والسنة، وعمل الأئمة. ثمَّ إنها من العلم الدقيق، لا يخوض فيه إلا من لَطُف ذهنه، واستقام فهمه، وعلا كعبه في فقه الشريعة وفقه الواقع.
وإذا كان هناك من يَنْعى على المشايخ توسُّعَهم في العمل بدليل سدِّ الذريعة، فالإنصاف يقتضيه أن يحارب ازديادَ الفساد، واتساعَ رقعته؛ إذِ المطالب الغربية المحمومة يؤازرها حملاتُ أهل الأهواء والنفاق ما فتئت تتداعى إلى تحرير المرأة وانعتاقها من الفضيلة والحياء، أيُقال بعد هذا: إن هناك توسعًا في العمل بسد الذرائع؟ نعم، إنه توسُّع بإزاء توسُّع. وأهل العلم والنظر بما يرون ويتابعون يدركون الخطر المُحْدق ببلاد الإسلام التي تحافظ على حرمة نسائها ومجتمعها.
إن المفاسد التي ذكرها الشيخان وغيرهما ليستْ أوهامًا ولا تخرُّصاتٍ ولا مُتوقَّعة، بل هي مفاسد واقعةٌ، جلُّها قائمٌ بغير السياقة الآن، فكيف سيؤول الحال بعدها؟! هل لو ساقت المرأة سيقلُّ خروجها، وتصون حجابها، ويضمحل التحرُّش بها، ويتلاشى هروبها، وتخِفُّ فتنتها، وتتضاءل حوادث المرور واختناقات السير؟!.
وإذا كان هناك من يُشْهِر سيفَ مفسدةِ الخلوة بالسائق، فليعلمْ أن القاعدة الفقهية الكبرى تقول: "لا ضرر ولا ضرار، ومنها: "الضرر لا يُزالُ بمثله، فالخطأ لا يُعالج بالخطأ، والبدائلُ المباحةُ متاحةٌ لو كانوا صادقين. والله تعالى أعلم.
ناصر العلي
جامعة أم القرى
1 /7 / 1432هـ
المشاهدات 1418 | التعليقات 0