صبر الرسول صلى الله عليه وسلم والغضب
سليمان بن خالد الحربي
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إنَّ الحمدَ للهِ، نحمدُه ونستعينُه ونستغفِرُه، ونعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أنفُسِنا وسيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هَادِيَ له، وأَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صَلَّى اللهُ عليه، وعلى آلِهِ وأصحابِهِ ومَنْ سَارَ على نَهْجِهِ، واقْتَفَى أَثَرَهُ إلى يَوْمِ الدِّينِ، وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بَعْدُ:
فاتَّقُوا اللهَ -عبادَ اللهِ- حَقَّ التقْوَى ولا تَمُوتُنَّ إلَّا وأنتم مسلمون.
مَعْشَرَ الإِخْوَةِ: إنَّ مَنْ يتأَمَّلُ سُنَّةَ رسولِ اللهِ ه وسيرتَه؛ لا بُدَّ أنْ تَسْتَوْقِفَه خَصْلَةٌ عظيمةٌ في رَسُولِ اللهِ ه ألَا وهي سَعَةُ صَبْرِهِ، ومتانةُ عَزْمِهِ، فهي مِنْ أَسْمَى الخِصَالِ والخِلالِ التي بَلَغَ بها الغايةَ مِنَ الدعوةِ، ولهذا كان مِنْ أوائلِ الأوامِرِ التي نَزَلَتْ عليه في سُورَةِ المُدَّثِّرِ الأَمْرُ بالصَّبْرِ (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) [المدثر: 7]، فامْتَثَلَ رسولُ اللهِ ه لأَمْرِ رَبِّهِ، وبادَرَ إليه، وصَبَرَ للهِ أَكْمَلَ صَبْرٍ، فصَبَرَ على طاعةِ اللهِ، وعن معاصي اللهِ، وعلى أقدارِ اللهِ المؤلمةِ؛ حتَّى فَاقَ أُولِي العَزْمِ مِنَ المُرْسَلِينَ، صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه وعليهم أجمعينَ.
وفي القُرآنِ عَشَرَاتُ المواضِعِ بأَمْرِهِ بالصبرِ؛ بل لا تكادُ تَفْقِدُه وأنت تَقْرَأُ القرآنَ، مما يَدُلُّ على أهمِّيَّتِهِ وتعظيمِه.
ويتَجَلَّى صَبْرُ رسولِ اللهِ ه في استقامَتِه كما أَمَرَهُ اللهُ، ومواصلتِه العبادةَ آناءَ الليلِ وأطرافَ النهارِ، تراه مُتَهَجِّدًا ناسكًا، جاء في الصحيحَيْنِ عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى حَتَّى انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ فَقِيلَ لَهُ: أَتَكَلَّفُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟! فَقَالَ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا»([1]).
يتجَلَّى صَبْرُه وشِدَّةُ عَزْمِه في احتمالِ ما تَجْرِي به صُرُوفُ الأقدارِ مِنَ الشدائدِ والخُطُوبِ([2])، فقد كان يتَلَقَّى المنغِّصاتِ والمُكَدِّرَاتِ والخُطُوبَ فلا يَخْضَعُ لها، ولا تَسْتَفِزُّهُ الأحوالُ؛ وإلَّا فكيف بكَ بِمَنْ كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ([3])، وشُجَّ([4]) وَجْهُهُ وهو يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وجهِه ويقول: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»([5])، قَتَلُوا عَمَّه وأَحَبَّ الناسِ إليه؛ بل مُثِّلَ به أَقْبَحَ تمثيلٍ، ومع ذلك لا يَنْتَقِمُ انتصارًا لنَفْسِهِ وثَأْرِهِ، بل يَكْسِرُ سَوْرَةَ([6]) غَضَبِهِ، يَزْلِقُونَهُ([7]) بأبصارهم، ويَنْشُرُون عنه الدعاياتِ الكاذبةَ، ويَصِفُونَه بأَشْنَعِ الألفاظِ في عَقْلِهِ وفي خُلُقِه، بل وفي عِرْضِهِ، ويسمعُ الناسَ يتحَدَّثون بها، وهو صابرٌ، واقفٌ وُقُوفَ الشُّجْعَانِ، فهِمَّتُه أَسْمَى مِنْ هِمَمِ قَطِيعِ الغابِ، جاء في الصحيحَيْنِ عَنْ أبي هريرةَ ت أَنَّ رَجُلًا تَقَاضَى رَسُولَ اللهِ ه، فَأَغْلَظَ لَهُ، فَهَمَّ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ: «دَعُوهُ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا»([8])، وَاشْتَرُوا لَهُ بَعِيرًا فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ وَقَالُوا: لاَ نَجِدُ إِلَّا أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ، قَالَ: «اشْتَرُوهُ، فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ، فَإِنَّ خَيْرَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً»([9]).
فهو قَوِيٌّ بتَجَلُّدِهِ وعَزْمِه وصَبْرِه؛ حتى كان اليهودُ يدخلون عليه ويُحَرِّفُون السلامَ إلى: السامُ([10])، كما قالت عائشةُ م كما في الصحيحَيْنِ كَانَ الْيَهُودُ يُسَلِّمُونَ عَلَى النَّبِيِّ يَقُولُونَ: السَّامُ عَلَيْكَ، فَفَطِنَتْ عَائِشَةُ إِلَى قَوْلِهِمْ، فَقَالَتْ: عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ النَّبِيُّ: «مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ» فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا يَقُولُونَ؟! قَالَ: «أَوَلَمْ تَسْمَعِي أَنِّي أَرُدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَأَقُولُ وَعَلَيْكُمْ»([11]).
إنَّ هذا الصبرَ، وهذا التجَلُّدَ فَهِمَهُ أعداؤُه قبلَ أصحابِه بأنه القوةُ الكامنةُ في نَفْسِه، وأنه ليس رَجْعًا لِصَدَى النفْسِ والشيطانِ، وإنَّما له قُوَّةٌ تَغْلِبُ الهَوَى، وتَتَّبِعُ الهُدَى، ولهذا غَيَّرَ رسولُ اللهِ ه مفهومَ القوةِ التي كان يَفْهَمُها أَهْلُ الجاهليةِ، والتي هي مفهومُ ساحاتِ الغابِ والحيوانِ؛ حينما سألهم: «فَمَا تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ([12]) فِيكُمْ»، قَالَ: قُلْنَا: الَّذِى لَا يَصْرَعُهُ الرِّجَالُ، قَالَ: «لَيْسَ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ الَّذِى يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ»([13]).
نَعَمْ، الذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عندَ المُخاصَمَةِ والمنازعةِ والطَّيْشِ هو القويُّ، القويُّ الذي يَتَعَجَّبُ الناسُ مِنْ قُوَّتِهِ؛ وإلَّا فكُلُّ حَيٍّ له رَدَّةُ فِعْلٍ طائشةٍ؛ لكِنَّ القويَّ هو الذي يَمْلِكُ زِمَامَ نَفْسِه، ويُفَكِّرُ بالعواقبِ والمآلاتِ، ويَتَصَبَّرُ ويَقْوَى على نَزَغَاتِهِ، وهذه السيرةُ أيضًا تُرْشِدُ كلَّ مَنْ له ولايةٌ، أو رئاسةٌ، أو إدارةٌ، أو كان تَحْتَهُ مُوَظَّفُونَ أنْ يُوَسِّعَ صَدْرَهُ لِمَنْ يُنَاقِشُه ويُجادِلُه، ولو صَاغَ ألفاظَه في غِلَظٍ وجَفَاءٍ، فعليه أنْ يَتَصَبَّرَ ويَتَذَكَّرَ سِيرَةَ رَسُولِه ه، وكيف عَامَلَ الناسَ جميعًا وتَحَمَّلَ الأَذَى، فإنَّه إنْ فَعَلَ ذلك فقد تَعَبَّدَ اللهَ بعبادةِ الذين يَدْخُلُونَ الجنةَ بغَيْرِ حِسَابٍ.
أَعُوذُ باللهِ مِنَ الشيطانِ الرجيمِ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21].
بَارَكَ اللهُ لي ولكُم في القرآن العظيم، ونَفَعَنِي وإيَّاكُمْ بما فيه مِنَ الآياتِ والذِّكْرِ الحَكِيمِ، أقولُ ما سَمِعْتُمْ، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولِسَائِرِ المسلمين مِنْ كُلِّ ذنبٍ وخطيئةٍ، فاسْتَغْفِرُوهُ وتُوبُوا إليه، إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
***
الخُطْبَةُ الثانيةُ:
الحمدُ للهِ على إحسانِهْ، والشُّكْرُ على توفيقه وامتنانِهْ، وأشهدُ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ تعظيمًا لشانِهْ، وأشْهَدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى جَنَّتِهِ ورِضْوَانِهْ، صَلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وأعوانِهْ.
أمَّا بَعْدُ:
مَعْشَرَ الإخوةِ: إنَّ الغَضَبَ سَبَبُهُ قِلَّةُ الصبرِ؛ بل أحيانًا يكونُ الصبرُ سهلًا، ومع هذا يستسلمُ المَرْءُ لِجَمْرَةِ غَضَبِهِ، مع قُدْرَتِه على إطفائها؛ خوفًا مِنْ وَصْفِ الناسِ له بالضعفِ، أَوِ الجُبْنِ وَالخَوَرِ، والسؤالُ: لِمَ لَمْ يَرِدْ هذا الواردُ على أَعْظَمِ رَجُلٍ عَرَفَهُ التاريخُ؟! لِمَ لَمْ يَقُلْ سَيَحْفَظُ الناسُ والتاريخُ خوفي ويَتَحَدَّثُون به؟! كلَّا، لم يَرِدْ عليه هذا الوَسْوَاسُ، بلِ الواقعُ المُشاهَدُ أنَّ المُتَصَبِّرَ لهذه النزَغاتِ هو الذي تُعْقَدُ عليه الخَنَاصِرُ([14]).
نَزَغاتُ الشيطانِ في كلِّ يومٍ نراها لأَتْفَهِ الأسبابِ، الطلَّابُ في مدارسهم، والناسُ في شوارعِهم وأماكِنِ عَمَلِهِمْ، بل وفي بُيُوتِهِمْ مع أبنائِهِم وأزواجِهِم، مَعَارِكُ كَلامِيَّةٌ، وأُخْرَى قِتَالِيَّةٌ، مضارباتٌ ومهارشاتٌ، بأسبابٍ تافهةٍ، تَرَى الرجلَ والطالِبَ فيُعْجِبُكَ مَظْهَرُه وهِنْدَامُهُ([15]) وكَلامُه، فإذا ما ضَاقَتْ نَفْسُه، واحْتَمَقَتْ؛ خَرَجَ المارِدُ الشيطانيُّ الذي في نَفْسِهِ، فَقَوِيَ عليه وسَخِرَ منه وبه، وأَصْبَحَ الناسُ حَيَارَى، أَهَذَا هو فلانٌ؟! أهذا هو الرجلُ المُتَدَيِّنُ؟! أهذا هو الرجلُ المُثَقَّفُ؟! أهذا كبيرُ العائلةِ؟! أهذا الذي تُعْرَضُ عليه مشاكلُ الناسِ؟!
إنَّنا -وبِكُلِّ أَسَفٍ- نعيشُ وَاقِعًا مُتَأَزِّمًا بكثرةِ الغَضَبِ، الناسُ يَخْرُجون في صباحِهم إلى أعمالِهم بأَنْفُسٍ مُحْتقَنَةٍ، يَسْتَفْتِحُونَها بالغضبِ والتَّكْدِيرِ على أَهْلِهِمْ وأولادِهِمْ وزملائِهِم، في عَمَلِهِمْ وسُوقِهِمْ، لا يَسْتَفْتِحُونَه بالذِّكْرِ والتهليلِ والتسبيحِ، وسُؤَالِ اللهِ الإعانةَ والمغفرةَ والرِّزْقَ الواسِعَ الطيِّبَ، ومِنْ ثَمَّ تَرَى تِلْكَ النفوسَ المتوحشةَ الغاضبةَ.
نَعَمْ، الدنيا ليستْ جَنَّةً، وليستْ خاليةً مِنَ الأكدارِ؛ ولَكِنْ لِنَقْتَفِ أَثَرَ رَسُولِنا ه بالتعَبُّدِ بالصبرِ وقُوَّةِ العزمِ، لِنُحَاوِلْ جَاهِدِينَ أنْ نُصْلِحَ مِنْ حالِنا في استسلامنا لأنفُسِنَا وأهوائنا، وإذا ناقَشْتَ أَحَدَهُمْ قال لك: أنا غَضُوبٌ، كثيرُ الغضبِ، ولا يَدْرِي أنَّه يَسُبُّ نَفْسَه، ويَصِفُها بأقبحِ الأوصافِ، مِنَ الضعفِ وقِلَّةِ الحِيلَةِ والعَزِيمَةِ.
كثيرٌ مِنَ الناسِ يَقُولُها على وَجْهِ التفاخُرِ والتشبُّعِ؛ إِذْ إنَّ أعظمَ أسبابِ الغضبِ هو العَجَبُ والغُرُورُ ورؤيةُ النفْسِ والإعجابُ بها، وهذا أَحَدُ أسبابِ انتشارِه، ولو أنَّنا تَمَثَّلْنا أَمْرَ اللهِ بالاستعاذة مِنْ نَزَغَاتِ الشياطينِ لَذَهَبَ ما فيه، وبَرَدَتْ نَفْسُه: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [فصلت: 36].
([1]) أخرجه البخاري: (2/50، رقم 1130)، ومسلم: (4/2171، رقم 2819).
([2]) جمع الخَطْب، وهو الأمر الشديد ينزل. المصباح المنير (خطب).
([3]) هي السن التي بين الثنية والناب. المصباح المنير (ربع).
([4]) أي: شُقَّ جلدُ وَجهه. انظر: المعجم الوسيط (شجج).
([5]) أخرجه البخاري: (4/175، رقم 3477)، ومسلم: (3/1417، رقم 1792).
([6]) أي: حِدَّة. انظر: المعجم الوسيط (سور).
([7]) يقال: زَلَقَه عن مكانِه: بَعَّدَه ونَحَّاه. والمعنى: يعتانُونَكَ بعُيونِهم، فيُزِيلُونَك عَن مُقامِك الذي أقامَكَ اللهُ فيه عَداوةً لكَ. انظر: تاج العروس (زلق).
([8]) أخرجه البخاري: (3/99، رقم 2306)، ومسلم: (3/1225، رقم 1601).
([9]) أخرجه البخاري: (3/99، رقم 2305)، ومسلم: (3/1225، رقم 1601).
([10]) أي: الموت. المعجم الوسيط (سوم).
([11]) أخرجه البخاري: (8/84، رقم 6395)، ومسلم: (4/1706، رقم 2165).
([12]) هو المبالِغُ في الصِّرَاع الذي لا يُغْلَب. النهاية (صرع).
([13]) أخرجه مسلم: (4/2014، رقم 2608).
([14]) يقال: هذا أمر تُعْقَد عليه الخناصر: يُعْتد به، ويحتفظ به. المعجم الوسيط (خنصر).
([15]) الهندام: حُسْن الْقَدَّ، وتنظيم الملابس. المعجم الوسيط (هندم).
المرفقات
صبر-الرسول-صلى-الله-عليه-وسلم-والغضب
صبر-الرسول-صلى-الله-عليه-وسلم-والغضب