شهود الانسان يوم القيامة
محمد بن خالد الخضير
1434/05/09 - 2013/03/21 10:36AM
أما بعد :
فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفسٌ مَا قَدَّمَت لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بمَا تَعمَلُون "
أيها المسلمون :
في صحيح الإمام مسلم : قصَّ علينا رسولنا صلى الله عليه وسلم حديثاً عجيباً في مجادلة العبد لربِّه وسيده ومولاه فقال :
( يقول العبد يوم القيامة : يا رب ألم تُجرني من الظلم ؟
فيقول : بلى ،
فيقول : إني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني ،
فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً ، وبالكرام الكاتبين شهوداً ، فيختم على فيه ،
ويقال لأركانه ( يعني جوارحه ) : انطقي ، فتنطق بأعماله ، ثم يخلَّى بينه وبين الكلام فيقول : بعداً لكنَّ وسحقاً ، فعنكنَّ كنتُ أناضل )
هكذا يظن الإنسان أن الكلّ عدوه يوم القيامة ، فلا يرضى بشهادة أحد من الناس عليه ، لكنه يتفاجأ : بشهادة جوارحه عليه
يا عبد الله :
تخيَّل نفسك أنك ذلك الرجل الذي شهد عليه لسانه بما قال :
فكم هي الكلمات من رضوان الله التي قلتها ؟
وكم هي الكلمات التي تسخط الله وقد زلَّ بها اللسان ؟
وأنك ذلك الرجل الذي شهد عليه سمعه وبصره ، ويده ورجله ، وجلده وفرجه ، فكيف سيكون الحال يومئذ ؟
إني لأتخيل ذلك الرجل ، وقد وقف مبهوتاً مدهوشاً ، فاغراً فاه ، لهول ما يسمع ويرى .
يا الله :
كلُّ ما وصل إلى سماعك من أصوات سيظهر
كلُّ ما أبصرته عيناك سيظهر
كلُّ ما بطشته يداك سيظهر
كلُّ ما مشت إليه قدماك سيظهر
كلُّ ما عملته بفرجك سيظهر
وما من حيلة لهذه الجوارح إلا الإعتراف ، فالذي أنطقها هو الله (حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{20} وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)
(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) .
أيها المسلمون :
وزيادة في كمال العدل من الله تعالى على ابن آدم ، فهناك شاهد ثاني .
إنهم الملائكة الكرام الكاتبون .
وهل نسيت يا مسلم أن معك ملكان يسجلان الأعمال ؟
فصاحب اليمين يسجل الحسنات ، وصاحب الشمال يسجل السيئات .
(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ{10} كِرَاماً كَاتِبِينَ{11} يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) .
ويقول جل وعلا :
(مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) .
ويقول :
(اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً).
فإذا أنكر الإنسان شيئا من أعماله ، نشرت صحيفته وكتبه ، فيرى كل عمل عمله في هذه الدنيا فيقول :
(مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا )
فتنبه يا عبد الله ولا تُمْلِ على الكتبة إلا خيرا .
وإياك والغفلة عن الكتاب ، فأنت آخذ كتابك باليمين أو آخذه بالشمال .
فإن كنت صاحب عمل صالح : من صلاة وصيام وصدقة وصلة رحم وحسن جوار وكلمة طيبة وذكر وتسبيح ونظافة قلب فابشر بالفرج من الله فأنت ممن يتسلم كتابه بيمينه ، فيقول للناس والفرحة تعلوا وجهه :
(هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ{19} إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ{20} فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ{21} فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ{22} قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ{23} كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) .
وأما من طاوع هوى نفسه والشيطان ، سواء طاوع شياطين الجن ، أو طاوع شياطين الإنس فيقول :
(يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ{25} وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ{26} يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ{27} مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ{28} هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ) .
فيأتيه الجواب من الله :(خُذُوهُ فَغُلُّوهُ{30} ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ{31} ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ) .
أيها الإخوة الكرام :
وزيادة في كمال العدل من الله فهناك شاهد ثالث .فيا ترى من سيشهد عليك غير جوارحك ، وغير الكتاب التي كتبته الملائكة ؟
إنها الأرض التي تمشي عليها في هذه الدنيا.
(إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا{1} وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا{2} وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا{3} يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا{4} بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) .
والآن يا عبد الله : عُدْ بالذاكرة إلى الوراء .
كم من خطوة مشيتها إلى بيوت الله لأداء الصلاة جماعة مع المسلمين ؟ فهذه لك .
كم من خطوة مشيتها لتصلح بين المتخاصمين ؟ فهذه لك 0
كم من خطوة مشيتها إلى أمر بمعروف أو نهي عن منكر ؟ فهذه لك .
كم من خطوة مشيتها لتأكل بالحلال ، وتطعم أولادك وأهلك الحلال ؟ فهذه لك
وهكذا فأنت أدرى بما هو لك ، و ما هو عليك من الخطوات ،
فغدا تنطق الأرض بخطواتك التي مشيتها عليها
أيها الإخوة الكرام :
وزيادة في كمال العدل من الله ، فهناك شاهد رابع : إنه محمد صلى الله عليه وسلم
الرسول - صلى الله عليه وسلم -، في ذلك اليوم الذي تتبدل فيه الأرض غير الأرض والسموات، وتتحطم كل موازين الدنيا، ويبقى ميزان الآخرة، هو وحده الذي يحكم ذلك الموقف، يشرف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالشهادة على المكذبين والعصاة من أمته، يقول تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا} يحشر الناس في ساحة العرض الواسعة، وكل أمة تكون حاضرة، وعلى كل أمة شهيد بأعمالها، وعندما يكون هؤلاء العصاة واقفون في الساحة ينتدب الرسول - صلى الله عليه وسلم - للشهادة، عندها تتمنى طوابير العصاة والمخالفين من كل أمة، أن تبتلعهم الأرض، ويهال عليهم التراب، حتى تسوى بهم الأرض، {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا} بل يتمنون أن يكونوا تراباً لا قيمة لهم تطأهم الأقدام، كما كانوا هم يطأون رقاب عباد الله، ويطأون أوامر الله بالمخالفة، يتمنون كل ذلك ولا يقفون ذلك الموقف المهين أمام الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو يشهد على معاصيهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا اما بعد
ومع كل ما تقدم من الشهادات :
فهناك خير الشهود ، وأعظم الشهود ، وأكبر الشهود .
إنه أعظم شهيد، وأقرب حفيظ، إنه الله جل جلاله الذي هو معنا بعلمه حيث كنا: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} سورة الحديد(4)، إنه الله الذي أحاط علماً بكل شيء: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} سورة يونس(61). إنه الله جل وعلا: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ* وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} سورة الشعراء(218)(219). إنه الله سبحانه وتعالى الذي: {لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء} سورة آل عمران(5).. إنه الله-تبارك وتعالى- أعظم شهيد: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}فيا عبد الله يا مسلم :
تخيل نفسك الآن ، أن الله سيشهد عليك بما عملته ، وبعد تلك الشهادة يؤمر بك إما إلى الجنة أو إلى النار .
فإن تخيلت الموقف وصعوبته ، فاستعد بالعمل الصالح ، فهو الذي تحب ظهوره أمام الله تعالى .
وإن كنت إلى هذه الساعة غافلاً لاهياً لا تبالي بموعظة ، ولا ذكرى ، فاحذر من يوم ،يقول الله فيه لأمة من الناس :
(وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ{22} وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ{23} فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ) .
فتنبه يا عبد الله :
فان الأمر جدٌّ وليس بالهزل ، وأنك راحل عن الدنيا ولست بخالد ، وأنك قد بلغت السن التي بعدها الحساب بالحسنات والسيئات ، وهي سن البلوغ .
فكن على حذر يا مسلم :
من شهادة جوارحك ، وشهادة الملائكة المسجِّلين عليك أعمالك ، وشهادة الأرض التي تمشي عليها ، وشهادة من بكى حين قرأ عليه قول الله تعالى : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً ) 0
وشهادة خير الشاهدين ، وكفى بالله شهيدا .
نسأل الله أن يسترنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض. اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وزدنا ولا تنقصنا، وأنفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا
هذا وصلّوا وسلِّموا على الرحمةِ المهداة والنّعمة المسداة رسولِ الله محمّد بن عبد الله.
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولك محمّد صاحبِ الحوض المورودِ واللّواء المعقود، وأورِدنا حوضَه، واحشرنا تحت لِوائه، وارضَ اللهم عن صحابة نبيك أجمعين...
فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفسٌ مَا قَدَّمَت لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بمَا تَعمَلُون "
أيها المسلمون :
في صحيح الإمام مسلم : قصَّ علينا رسولنا صلى الله عليه وسلم حديثاً عجيباً في مجادلة العبد لربِّه وسيده ومولاه فقال :
( يقول العبد يوم القيامة : يا رب ألم تُجرني من الظلم ؟
فيقول : بلى ،
فيقول : إني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني ،
فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً ، وبالكرام الكاتبين شهوداً ، فيختم على فيه ،
ويقال لأركانه ( يعني جوارحه ) : انطقي ، فتنطق بأعماله ، ثم يخلَّى بينه وبين الكلام فيقول : بعداً لكنَّ وسحقاً ، فعنكنَّ كنتُ أناضل )
هكذا يظن الإنسان أن الكلّ عدوه يوم القيامة ، فلا يرضى بشهادة أحد من الناس عليه ، لكنه يتفاجأ : بشهادة جوارحه عليه
يا عبد الله :
تخيَّل نفسك أنك ذلك الرجل الذي شهد عليه لسانه بما قال :
فكم هي الكلمات من رضوان الله التي قلتها ؟
وكم هي الكلمات التي تسخط الله وقد زلَّ بها اللسان ؟
وأنك ذلك الرجل الذي شهد عليه سمعه وبصره ، ويده ورجله ، وجلده وفرجه ، فكيف سيكون الحال يومئذ ؟
إني لأتخيل ذلك الرجل ، وقد وقف مبهوتاً مدهوشاً ، فاغراً فاه ، لهول ما يسمع ويرى .
يا الله :
كلُّ ما وصل إلى سماعك من أصوات سيظهر
كلُّ ما أبصرته عيناك سيظهر
كلُّ ما بطشته يداك سيظهر
كلُّ ما مشت إليه قدماك سيظهر
كلُّ ما عملته بفرجك سيظهر
وما من حيلة لهذه الجوارح إلا الإعتراف ، فالذي أنطقها هو الله (حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{20} وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)
(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) .
أيها المسلمون :
وزيادة في كمال العدل من الله تعالى على ابن آدم ، فهناك شاهد ثاني .
إنهم الملائكة الكرام الكاتبون .
وهل نسيت يا مسلم أن معك ملكان يسجلان الأعمال ؟
فصاحب اليمين يسجل الحسنات ، وصاحب الشمال يسجل السيئات .
(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ{10} كِرَاماً كَاتِبِينَ{11} يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) .
ويقول جل وعلا :
(مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) .
ويقول :
(اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً).
فإذا أنكر الإنسان شيئا من أعماله ، نشرت صحيفته وكتبه ، فيرى كل عمل عمله في هذه الدنيا فيقول :
(مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا )
فتنبه يا عبد الله ولا تُمْلِ على الكتبة إلا خيرا .
وإياك والغفلة عن الكتاب ، فأنت آخذ كتابك باليمين أو آخذه بالشمال .
فإن كنت صاحب عمل صالح : من صلاة وصيام وصدقة وصلة رحم وحسن جوار وكلمة طيبة وذكر وتسبيح ونظافة قلب فابشر بالفرج من الله فأنت ممن يتسلم كتابه بيمينه ، فيقول للناس والفرحة تعلوا وجهه :
(هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ{19} إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ{20} فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ{21} فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ{22} قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ{23} كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) .
وأما من طاوع هوى نفسه والشيطان ، سواء طاوع شياطين الجن ، أو طاوع شياطين الإنس فيقول :
(يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ{25} وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ{26} يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ{27} مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ{28} هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ) .
فيأتيه الجواب من الله :(خُذُوهُ فَغُلُّوهُ{30} ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ{31} ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ) .
أيها الإخوة الكرام :
وزيادة في كمال العدل من الله فهناك شاهد ثالث .فيا ترى من سيشهد عليك غير جوارحك ، وغير الكتاب التي كتبته الملائكة ؟
إنها الأرض التي تمشي عليها في هذه الدنيا.
(إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا{1} وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا{2} وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا{3} يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا{4} بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) .
والآن يا عبد الله : عُدْ بالذاكرة إلى الوراء .
كم من خطوة مشيتها إلى بيوت الله لأداء الصلاة جماعة مع المسلمين ؟ فهذه لك .
كم من خطوة مشيتها لتصلح بين المتخاصمين ؟ فهذه لك 0
كم من خطوة مشيتها إلى أمر بمعروف أو نهي عن منكر ؟ فهذه لك .
كم من خطوة مشيتها لتأكل بالحلال ، وتطعم أولادك وأهلك الحلال ؟ فهذه لك
وهكذا فأنت أدرى بما هو لك ، و ما هو عليك من الخطوات ،
فغدا تنطق الأرض بخطواتك التي مشيتها عليها
أيها الإخوة الكرام :
وزيادة في كمال العدل من الله ، فهناك شاهد رابع : إنه محمد صلى الله عليه وسلم
الرسول - صلى الله عليه وسلم -، في ذلك اليوم الذي تتبدل فيه الأرض غير الأرض والسموات، وتتحطم كل موازين الدنيا، ويبقى ميزان الآخرة، هو وحده الذي يحكم ذلك الموقف، يشرف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالشهادة على المكذبين والعصاة من أمته، يقول تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا} يحشر الناس في ساحة العرض الواسعة، وكل أمة تكون حاضرة، وعلى كل أمة شهيد بأعمالها، وعندما يكون هؤلاء العصاة واقفون في الساحة ينتدب الرسول - صلى الله عليه وسلم - للشهادة، عندها تتمنى طوابير العصاة والمخالفين من كل أمة، أن تبتلعهم الأرض، ويهال عليهم التراب، حتى تسوى بهم الأرض، {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا} بل يتمنون أن يكونوا تراباً لا قيمة لهم تطأهم الأقدام، كما كانوا هم يطأون رقاب عباد الله، ويطأون أوامر الله بالمخالفة، يتمنون كل ذلك ولا يقفون ذلك الموقف المهين أمام الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو يشهد على معاصيهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا اما بعد
ومع كل ما تقدم من الشهادات :
فهناك خير الشهود ، وأعظم الشهود ، وأكبر الشهود .
إنه أعظم شهيد، وأقرب حفيظ، إنه الله جل جلاله الذي هو معنا بعلمه حيث كنا: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} سورة الحديد(4)، إنه الله الذي أحاط علماً بكل شيء: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} سورة يونس(61). إنه الله جل وعلا: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ* وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} سورة الشعراء(218)(219). إنه الله سبحانه وتعالى الذي: {لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء} سورة آل عمران(5).. إنه الله-تبارك وتعالى- أعظم شهيد: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}فيا عبد الله يا مسلم :
تخيل نفسك الآن ، أن الله سيشهد عليك بما عملته ، وبعد تلك الشهادة يؤمر بك إما إلى الجنة أو إلى النار .
فإن تخيلت الموقف وصعوبته ، فاستعد بالعمل الصالح ، فهو الذي تحب ظهوره أمام الله تعالى .
وإن كنت إلى هذه الساعة غافلاً لاهياً لا تبالي بموعظة ، ولا ذكرى ، فاحذر من يوم ،يقول الله فيه لأمة من الناس :
(وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ{22} وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ{23} فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ) .
فتنبه يا عبد الله :
فان الأمر جدٌّ وليس بالهزل ، وأنك راحل عن الدنيا ولست بخالد ، وأنك قد بلغت السن التي بعدها الحساب بالحسنات والسيئات ، وهي سن البلوغ .
فكن على حذر يا مسلم :
من شهادة جوارحك ، وشهادة الملائكة المسجِّلين عليك أعمالك ، وشهادة الأرض التي تمشي عليها ، وشهادة من بكى حين قرأ عليه قول الله تعالى : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً ) 0
وشهادة خير الشاهدين ، وكفى بالله شهيدا .
نسأل الله أن يسترنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض. اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وزدنا ولا تنقصنا، وأنفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا
هذا وصلّوا وسلِّموا على الرحمةِ المهداة والنّعمة المسداة رسولِ الله محمّد بن عبد الله.
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولك محمّد صاحبِ الحوض المورودِ واللّواء المعقود، وأورِدنا حوضَه، واحشرنا تحت لِوائه، وارضَ اللهم عن صحابة نبيك أجمعين...