شهر مضر المحرم

بسم الله الرحمن الرحيم

إِخْوَةُ الْإِيمَانِ وَالْعَقِيدَةِ.. لَقَدْ قَضَى اللَّهُ -تَعَالَى- وَقَدَّرَ أَنْ يَتَمَايَزَ كُلُّ شَيْءٍ وَيَتَفَاضَلَ؛ فَفَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ؛ وَفَضَّلَ بَعْضَ الْأَمَاكِنِ عَلَى بَعْضٍ؛ وَفَضَّلَ بَعْضَ الْأَزْمِنَةِ عَلَى بَعْضٍ؛ وَمِنْ تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ الْمُفَضَّلَةِ شَهْرُ رَجَبٍ الْحَرَامُ.

وَكَلِمَةُ رَجَبٍ مُشْتَقَّةٌ مِنَ التَّرْجِيبِ؛ بِمَعْنَى التَّعْظِيمِ، فَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَجَبٍ مُعَظَّمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَقَرَّ تَعْظِيمَهُ وَزَادَهُ فَضْلًا وَإِجْلَالًا، فَهُوَ أَحَدُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، الَّتِي عَنَاهَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ حِينَ قَالَ ]إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ[ وَقَدْ وَضَّحَهَا النَّبِيُّ ﷺ بِقَوْلِهِ (السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحَجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ، الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ).

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ .. إِنَّ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ تَحْرِيمِ شَهْرِ رَجَبٍ أَلَّا يُبْدَأَ فِيهِ بِقِتَالٍ، قَالَ اللَّهُ ]يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ[ هَذَا فِي جِهَادِ الطَّلَبِ، أَمَّا جِهَادُ الدَّفْعِ فَيَجُوزُ فِيهِ اتِّفَاقًا.

وَمِنْ مُقْتَضَيَاتِ حُرْمَتِهِ .. الْحَذَرُ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ ]فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ[ فَإِنَّ الظُّلْمَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَعْظَمُ خَطِيئَةً وَوِزْرًا مِنَ الظُّلْمِ فِيمَا سِوَاهَا، وَإِنْ كَانَ الظُّلْمُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَظِيمًا، فالشَّهْرُ الْحَرَامُ تُغَلَّظُ فِيهِ الْآثَامُ.

بَيِّضْ صَحِيفَتَكَ السَّوْدَاءَ فِي رَجَبٍ *** بِصَالِحِ الْعَمَلِ الْمُنْجِي مِنَ اللَّهَبِ

شَهْرٌ حَرَامٌ أَتَى مِنْ أَشْهُرٍ حُرُمٍ *** إِذَا دَعَا اللَّهَ دَاعٍ فِيهِ لَمْ يَخِبِ

طُوبَى لِعَبْدٍ زَكَى فِيهِ لَهُ عَمَلٌ *** فَكَفَّ فِيهِ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالرِّيَبِ

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ .. إِنَّ مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ -تَعَالَى- وَرَحْمَتِهِ أَنْ جَعَلَ رَجَبًا شَهْرًا حَرَامًا تُتَجَنَّبُ فِيهِ الذُّنُوبُ؛ لِيَكُونَ هُوَ وَشَهْرُ شَعْبَانَ كَالتَّمْهِيدِ وَالْمُقَدِّمَةِ لِشَهْرِ رَمَضَانَ، وَمَا أَجْمَلَ مَا قِيلَ: رَجَبٌ شَهْرُ الْبَذْرِ، وَشَعْبَانُ شَهْرُ السَّقْيِ، وَرَمَضَانُ شَهْرُ الْحَصَادِ. فَحَرِيٌّ بِمَنْ فِي رَجَبٍ أَنْ يُحْسِنَ فِي شَعْبَانَ، وَجَدِيرٌ بِمَنِ اغْتَنَمَهُمَا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُوَفَّقِينَ الْمُعْتَقِينَ فِي رَمَضَانَ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَيْسَ مَعْنَى تَعْظِيمِنَا لِشَهْرِ رَجَبٍ أَنْ نُجَاوِزَ حُدُودَ الشَّرْعِ وَنُخَالِفَهُ، بَلْ لَا نَزِيدُ فِي رَجَبٍ مِنَ الْعِبَادَةِ عَلَى مَا نَفْعَلُهُ فِي بَاقِي الشُّهُورِ، فَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ خَصَّ شَهْرَ رَجَبٍ بِصَلَاةٍ وَلَا بِصِيَامٍ وَلَا بِغَيْرِهِمَا.

فَمَنْ أَرَادَ الْإِحْسَانَ فِي شَهْرِ رَجَبٍ فَلْيَصْنَعْ مَا كَانَ يَصْنَعُهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ طَوَالَ الْعَامِ، فَلْيَصُمِ الْإِثْنَيْنَ وَالْخَمِيسَ، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَلْيَقُمِ اللَّيْلَ بِمَا اسْتَطَاعَ، وَلْيُكْثِرْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ -تَعَالَى-... وَغَيْرِهَا مِنَ الْقُرُبَاتِ، بِشَرْطِ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهَا طَوَالَ الْعَامِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ النَّبِيُّ ﷺ وَلَا يَخُصُّ بِهَا شَهْرَ رَجَبٍ وَحْدَهُ. وَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ غِنًى عَمَّا سِوَاهُ، فَإِنَّ الْخَيْرَ فِي الِاتِّبَاعِ، وَالشَّرَّ كُلَّ الشَّرِّ فِي الِابْتِدَاعِ.

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ..

مَعَاشِرُ الْمُؤْمِنِينَ .. لَقَدْ جَاوَزَ قَوْمٌ وَبَالَغُوا وَغَرَّهُمُ الشَّيْطَانُ حَتَّى أَحْدَثُوا فِي شَهْرِ رَجَبٍ مِنَ الْبِدَعِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ﷺ، فَابْتَدَعُوا مَا أَسْمَوْهُ بِـ"صَلَاةِ الرَّغَائِبِ"؛ تِلْكَ الَّتِي يُقِيمُونَهَا لَيْلَةَ أَوَّلِ جُمْعَةٍ مِنْ رَجَبٍ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، فَهَذِهِ الصَّلَاةُ (صَلاَةُ الرَّغَائِبِ) لَا أَصْلَ لَهَا فِي الدِّينِ، بَلْ هِيَ بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ.

وَمِنْهَا صَلَاةُ أُمِّ دَاوُدَ، وَهِيَ صَلَاةٌ يُصَلُّونَهَا وَسَطَ رَجَبٍ، وَتَعْظِيمُ هَذَا الْيَوْمِ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ أَصْلًا.

وَمِنْهَا (ذَبْحُ "الْعَتِيرَةِ) أَوِ (الرَّجَبِيَّةِ) وَهِيَ ذَبِيحَةٌ كَانُوا يَذْبَحُونَهَا فِي رَجَبٍ تَعْظِيمًا لَهُ، وَقَدْ قَالَ عَنْهَا النَّبِيُّ ﷺ (لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ) وَالْفَرَعُ: أَوَّلُ النِّتَاجِ، كَانُوا يَذْبَحُونَهُ لِطَوَاغِيَتِهِمْ، وَالْعَتِيرَةُ فِي رَجَبٍ.

وَمِنَ البِدَعِ (الِاحْتِفَالُ بِـالْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ) لَيْلَةَ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، وَهَذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ مَعْلُومٌ لَا عَلَى شَهْرِهَا وَلَا عَلَى عَشْرِهَا، وَلَا عَلَى عَيْنِهَا، وَلَا شُرِعَ لِلْمُسْلِمِينَ تَخْصِيصُ اللَّيْلَةِ الَّتِي يُظَنُّ أَنَّهَا لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ بِقِيَامٍ وَلَا غَيْرِهِ.

وَالْبَعْضُ يَحْرِصُ عَلَى إِخْرَاجِ زَكَاةِ الْمَالِ فِي شَهْرِ رَجَبٍ؛ ظَنًّا أَنَّ لِذَلِكَ مَزِيَّةً وَفَضِيلَةً، وَلَا أَصْلَ لِذَلِكَ فِي السُّنَّةِ، وَلَا عُرِفَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ.

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ أَهَمَّ مَا يُقَالُ فِي شَهْرِ رَجَبٍ أَنَّهُ مِنْ أَشْهُرِ اللَّهِ الْحُرُمِ، وَالَّتِي وَصَّى اللَّهُ فِيهَا عِبَادَهُ أَلَّا يَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَهُمْ، وَإِنْ كَانَ الظُّلْمُ مُحَرَّمًا فِي كُلِّ أَشْهُرِ الْعَامِ إِلَّا أَنَّهَا هُنَا أَشَدُّ ظُلْمًا، وَأَعْظَمُ جُرْمًا.

نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَهَبَنَا الْإِحْسَانَ فِي شَهْرِ رَجَبٍ وَبَعْدَ رَجَبٍ، وَأَنْ يَرْزُقْنَا تَعْظِيمَهُ، وَأَنْ يُجَنِّبْنَا الذُّنُوبَ وَالْمَعَاصِيَ، وَأَنْ يُوَفِّقْنَا إِلَى مَا يُرْضِيهِ عَنَّا، إِنَّهُ خَيْرُ الْمَسْئُولِينَ وَأَكْرَمُ الْمُجِيبِينَ. اللَّهُمَّ وَأَصْلِحْ أَحْوَالَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَخْزِي الْكُفْرَ وَالْكَافِرِينَ. اللَّهُمَّ رُدَّ الْمُسْلِمِينَ إِلَى دِينِكَ رَدًّا جَمِيلًا، وَوَفِّقْهُمْ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى. اللَّهُمَّ احْفَظْنَا بِحِفْظِكَ، وَوَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا، وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى؛ وَاحْفَظْ لِبِلَادِنَا الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ، وَالسَّلَامَةَ وَالْإِسْلَامَ، وَانْصُرِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى حُدُودِ بِلَادِنَا؛ وَانْشُرِ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِنَا؛ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مَهْدِيِّينَ غَيْرَ ضَالِّينَ وَلَا مُضِلِّينَ.