شهر رمضان شهر الصيام والقيام والقرآن

محمد بن عبدالله التميمي
1440/09/04 - 2019/05/09 14:47PM

الخطبة الأولى

عباد الله.. الفرص تمرُّ مرَّ السحاب، والقعود من أخلاق الخوالف، أيامُ القدرة وإن طالت قصيرة، ومَن استوطأ مركب العجز عثر به، انتبِهْ لنفسك قبل حلول رَمْسِك، واعلم أن عليك حافظًا ورقيبًا، اثبتْ في صف الاجتهاد ثبوتَ عازم ولازم؛ فما نال الغنائمَ نائِم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}

اللهَ اللهَ عباد الله اغتنموا شهرَ المَتاب، وما وُعدتُّم فيه من جزيل الثواب، ومن العفو عن الأوزار وعتق الرقاب، شهرٌ لياليه أنور من الأيام، وأيامه مطهرة من دنس الآثام، شهرٌ جعله الله مصباح العام، شهرٌ أنزل الله فيه كتابه، وفتح للتائبين فيه أبوابه، فلا دعاء فيه إلا مسموع، ولا عمل إلا مرفوع، ولا خير إلا مجموع، ولا ضرر إلا مدفوع، شهرٌ السيئات فيه مغفورة، والأعمال الصالحة فيه موفورة، والتوبة فيه مقبولة، والرحمة من الله لملتمسها مبذولة، والمساجد بذكر الله فيه معمورة {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ}، هذا عباد الله شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وفي بقيته للعابدين مُستمتَع، فللقرآن فيه خصيصة، فيُعنى المسلم بالقرآن -قراءَته وتدبرَه ومدارستَه وتدريسَه-، قال ابن عباس رضي الله عنهما : "كان جبريل يلقى النبي صلى الله عليه وسلم في كل ليلةٍ من رمضان فيُدارِسه القرآن"؛ رواه البخاري، وهكذا كان صحبه المصطفَون، وسلفهم الصالحون، كان قتادة رضي الله عنه: يدرس القرآن في شهر رمضان، وكان الزهري إذا دخل رمضان قال: "فإنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام"، وقال ابن عبد الحكم: كان الإمام مالك إذا دخل رمضان يفرّ من قراءة الحديث، ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف، وقال عبد الرزاق: كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن، وقال سفيان: "كان زُبيد اليامي إذا حضر رمضان أحضر المصاحف وجمع إليه أصحابه".

وإن الإكثار في هذا الشهر من الختم، كان هديُ القوم، فكان الإمام البخاري يختم في رمضان في النهار كلَّ يوم ختمة، ويقوم بعد التراويح كلَّ ثلاثَ ليال بختمة، وكان سعيد بن جبير يختم القرآن في كل ليلتين، وكان قتادة يختم القرآن في سبع ليال، وإذا جاء رمضان –مع اشتغاله بتدريس القرآن- ختم في كل ثلاثٍ، فإذا جاء العشر الأواخر ختم كل ليلةٍ، وقال الربيع بن سليمان - تلميذ الشافعي رحمه الله -: كان الشافعي يختم القرآن في شهر رمضان ستين ختمة، -يعني في كل ليلة يختمه مرتين- وفي كل شهر ثلاثين - أي في غير رمضان - ختمة.

فلينظر كل امرئ حاله، وكم أعطى لكتاب ربه من وقته، فالساعتين من أربع وعشرين تأتي فيها بيُسر على ستة الأجزاء فتكون في يومك هذا الخامس في ختمة أخرى، فكيف بمن جعل مع الساعتين أخريين، سوى من يُقدره الله على  أكثر من ثلاثة أجزاء في الساعة، وانظر إلى ما من وقتك أبقيت لا إلى ما بالطاعة عمرت، فالأمر مرابحة فلا ترضى فيها من نفسك بالمواضعة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن أرفع درجات القلوب فرحها التام بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وابتهاجها وسرورها، كما قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} ففضل الله ورحمته: القرآن والإيمان، من فرح به فقد فرح بأعظم مفروح به، ومن فرح بغيره فقد ظلم نفسه ووضع الفرح في غير موضعه).

قال ابن عبدالبر: (ومن أعظم ما يتقرّب به العبد إلى الله تعالى من النوافل: كثرة تلاوة القرآن، وسماعه بتفكّر وتدبّر وتفهّم، قال خباب بن الأرت لرجل: "تقرّب إلى الله ما استطعت، واعلم أنّك لن تتقرب إليه بشيء هو أحبُّ إليه من كلامه") .

 

 

الخطبة الثانية

عباد الله.. إنّ الله جعل رمضان مِضْماراً لِخَلْقِه يَتسَابقون فيه إلى رَحْمتِه، فَسَبَق أقوامٌ ففازُوا، وتخلَّف أقوامٌ فَخَابوا، فالعَجب من الضاحِكِ اللاّهي في اليوم الذي فاز فيه السابقون، وخاب فيه المتخلِّفون؟ أما واللّهِ لو كُشِف الغِطاء لَشَغَلَ مُحْسِناً إحسانُه ومُسِيئاً إساءتُه، قاله الحسن البصري، وهو القائل: "تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء : في الصلاة وفي الذكر وقراءة القرآن، فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مغلق".

عباد الله.. إن شهركم كما سُمي شهر الصيام فقد سُمي شهر القيام "من قام رمضان يمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" متفق عليه، وقد جاءت السنة بقيامه جماعة حيث قام النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه ليلتين أو ثلاثا ثم قطع خشية أن تفرض، كما في صحيح البخاري عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ – رضى الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – صَلَّى ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَصَلَّى بِصَلاَتِهِ نَاسٌ ، ثُمَّ صَلَّى مِنَ الْقَابِلَةِ فَكَثُرَ النَّاسُ ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: « قَدْ رَأَيْتُ الَّذِى صَنَعْتُمْ وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلاَّ أَنِّى خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ » ، فانظر حرص الصحابة رضون الله عليهم، لذا لما كان في خلافة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- جمع الناس عليها، لانعدام العلة بخوف فرضيتها، ففي صحيح البخاري عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ – رضى الله عنه – لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ ، إِلَى الْمَسْجِدِ ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ يُصَلِّى الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ ، وَيُصَلِّى الرَّجُلُ فَيُصَلِّى بِصَلاَتِهِ الرَّهْطُ فَقَالَ عُمَرُ إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاَءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ . ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى ، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ قَارِئِهِمْ ، قَالَ عُمَرُ نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ ، وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنَ الَّتِي يَقُومُونَ . يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ  .

عباد الله.. ليس الشأن في القيام حصول اسمه وإنما تحقق رسمه، وهو المسمى بالتراويح وإذا كانت القراءة فيها في غاية القصر فأي ترويح، وفي صحيح  البخاري ومسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يصلي أربعًا، فلا تسأل عن حُسْنهنَّ وطُولهنَّ، ثم يصلي أربعًا، فلا تسأل عن حُسْنهنَّ وطُولهنَّ، ثم يُصلي ثلاثًا"، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر أبيَّ بن كعب وتميما الداري رضي الله عنهما أن يقوما للناس في رمضان بإحدى عشرة ركعة، فكان القارئ يقرأ بالمئين، قال الراوي: حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر،  وعن ابن أبي مليكة قال: “كنت أقوم بالناس في شهر رمضان فأقرأ في الركعة: {الحمد لله فاطر} ونحوها، وما يبلغني أن أحدا يستثقل ذلك”.

وإن السنة كما تُتحرى بأداء الصلاة على هيئتها وكان خاتمتها الوتر، فإن السنة فيه ألا يكون قنوت كل ليلة، وإنما في نصف الشهر الآخِر، كما جاء عن بعض الصحابة كعلي وأبيِّ بن كعب وابنِ عمر رضي الله عنهم، وهكذا عن الأئمة الزهري ومالك بن أنس وأحمد بن حنبل، وهكذا السنة فيه عدم الإطالة، وإنما المروي فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه قصير، لذا كره الأئمة فيه التطويل، وإن السجود خير مواطن الدعاء، قال صلى الله عليه وسلم: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" رواه مسلم .

المرفقات

رمضان-شهر-الصيام-والقيام-والقرآن-5رمضا

رمضان-شهر-الصيام-والقيام-والقرآن-5رمضا

رمضان-شهر-الصيام-والقيام-والقرآن-5رمضا-2

رمضان-شهر-الصيام-والقيام-والقرآن-5رمضا

رمضان-شهر-الصيام-والقيام-والقرآن-5رمضا

رمضان-شهر-الصيام-والقيام-والقرآن-5رمضا

المشاهدات 1839 | التعليقات 0