شهر الله المحرم

إبراهيم بن حمد العقيل
1441/01/05 - 2019/09/04 18:08PM
أمَّا بَعْدُ: مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: جعلَ اللهُ الليلَ والنهارَ خزائِنَ للأعمالِ، ومراحِلَ للآجالِ، إِذَا ذهبَ أحدُهُمَا خلَفَهُ الآخرُ، لإِنهاضِ هِمَمِ العاملينَ إلى الخيراتِ، وتنشيطِهِمْ على الطَّاعاتِ، فمَنْ فاتَهُ الوِرْدُ باللَّيلِ استدْرَكَهُ بالنَّهارِ، ومَنْ فاتَهُ بالنهارِ استدَرْكَهُ باللَّيلِ، قالَ تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا).
فَينبَغِي لِلمُؤمِنِ أنْ يأخُذَ العِبْرَةَ منْ مُرورِ اللَّيالي والأيَّامِ، فإِنَّ الليلَ والنهارَ يُبلِيانِ كلَّ جديدٍ، وَيُقرِّبانِ كُلَّ بعيدٍ، ويَطوِيانِ الأعمارَ، ويُشيِّبانِ الصِّغارَ، ويُفنيانِ الكِبارَ، وكُلُّ يومٍ يمرُّ بالإنسانِ فإنَّهُ يُبعِدُهُ منَ الدُّنْيا ويُقرِّبُهُ مِنَ الآخِرَةِ.
فالسعيدُ -واللهِ- مَنْ حاسبَ نفسَهُ، وتَفكَّرَ في انقِضاءِ عُمُرِهِ، واستفادَ مِنْ وقتِهِ فيما ينفَعُهُ في دينِهِ ودُنياهُ، ومَنْ غَفَلَ عنْ نفسِهِ تصرَّمَتْ أوقاتُهُ، وعَظُمَ فواتُهُ، واشتدَّتْ حَسَراتُهُ، نعوذُ باللهِ منَ التفريطِ والتسويفِ.
أخرَجَ البُخارِيُّ في صحيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ  بِمَنْكِبِي، فَقَالَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، يَقُولُ: «إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ».
وَهَذا الحديثُ مِنْ أبلَغِ الكلامِ في التذكيرِ بالآخِرَةِ وعدمِ الاغتِرارِ بالدُّنيا، وذلِكَ أنَّ الدُّنيا فانيةٌ، مَهْمَا طالَ عمُرُ الإنسانِ فيها، فَهِيَ دارُ ممرٍّ لَا دارُ مقرٍّ، وكلُّ نفسٍ ذائقةُ الموْتِ، وهذِهِ حقيقةٌ مُشاهَدَةٌ، نَراهَا كُلَّ يومٍ وليلةٍ، ونُحِسُّ بها كُلَّ ساعةٍ ولحظةٍ، وإذا كانَ الإِنسانُ لا يَدْرِي متَى ينتَهِي أجلُهُ ويأتِيهِ الموْتُ فعلَيْهِ أنْ يستَعِدَّ للرَّحيلِ، وأنْ يكونَ عابِرَ سبيلٍ، فلَا يَرْكَنُ إلى الدُّنْيا ولا يتعلَّقُ بها ولا يتَّخِذُها وَطنًا ولا تُحدِّثُهُ نفسُهُ بالبَقاءِ فيها، فلَا يتعلَّقُ منها إِلَّا بِمَا يتعلَّقُ بهِ الغَرِيبُ في غيْرِ وطنِهِ الذي سيُفَارِقُهُ مهْمَا تكُنْ راحَتُهُ وهنَاؤُهُ، وأنْ يكونَ فيها كالمُسَافِرِ الذي يكتَفِي في سَفَرِهِ بالقليلِ الذي يُساعِدُهُ على بُلوغِ غايتِهِ وتحقيقِ مقصِدِهِ.
فالواجبُ علينا ونحنُ نستقْبِلُ عامًا جديدًا أنْ نغتَنِمَ الأوقاتَ، ونبادِرَ بالأعمالِ الصالحةِ قبلَ أنْ يُحالَ بينَنا وبينَها، إِمَّا بشُغْلٍ وإِمَّا بمرضٍ وإِمَّا بمَوْتٍ.
عبادَ اللهِ: أخرَجَ الإمامُ مسلمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : «أَفْضَلُ الصِّيَامِ، بَعْدَ رَمَضَانَ، شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ، بَعْدَ الْفَرِيضَةِ، صَلَاةُ اللَّيْلِ».
وشهْرُ اللهِ المحرَّمُ هوَ الشَّهرُ الذي تبدَأُ بهِ السنةُ الهجريَّةُ، كما تَمَّ الاتِّفاقُ على ذلِكَ في عهْدِ الخليفِةِ الراشِدِ عُمرِ بنِ الخطابِ ، وهوَ أحدُ الأشهُرِ الحُرُمِ التي ذكَرَ اللهُ في كتابِهِ، فقالَ تعالَى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) وعَنْ أَبِي بكرَةَ  عَنِ النَّبِيِّ  قالَ: «السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ وَذُو الحِجَّةِ وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ، الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ». متفقٌ عليهِ.
وقدْ أضافَ اللهُ تعالَى هَذا الشهْرَ إليهِ تَشرِيفًا وتَعظِيمًا، لأنَّ اللهَ تباركَ وتعالَى لا يُضيفُ مِنَ الأشْياءِ إليهِ إِلَّا خَواصُّها كَبَيْتِ اللهِ، ورَسولِ اللهِ، وسُمِّيَ مُحَرَّمًا تأكيدًا لتَحْرِيمِهِ.
قالَ قتادةُ : (إنَّ الظلمَ في الأشهُرِ الحُرُمِ أعظمُ خطيئةً وَوِزْرًا مِنَ الظُّلمِ فيما سِواهَا، وإِنْ كانَ الظلمُ على كُلِّ حالٍ عظيمًا، ولكِنَّ اللهَ يُعَظِّمُ مِنْ أمرِهِ ما يشاءُ).
وقدْ جعلَ اللهُ هذهِ الشهورَ الهلاليَّةَ مواقيتَ للناسِ، لأنَّهَا علاماتٌ محسوسةٌ يعرِفُ كلُّ أحدٍ بدايَتَهَا ونهايَتَهَا، كما أنَّ التاريخَ الهِجْرِيَّ عنْدَ المُسلمِينَ ارْتَبَطَ بِرَسُولِهِمْ وبِشَعَائِرِ دينِهِمْ وعِبادَتِهِمْ.
عنْ عائشةَ  قالَتْ: «كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ صَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تَرَكَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ» أخرجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ.
فصومُ عاشوراءَ كانَ واجبًا في أوَّلِ الأمرِ بعدَ هجرةِ النبيِّ  إلى المدينَةِ، ثمَّ لمَّا فُرِضَ رمضانُ في السنةِ الثانيةِ منَ الهجرَةِ نُسِخَ وجوبُ صومِ عاشوراءَ، وبَقِي الاستِحبابُ.
عنْ أَبِي قتادةَ  أنَّ رسولَ اللهِ سُئِلَ عنْ صومِ يومِ عاشوراءَ، فقالَ: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ» وفِي روايةٍ : «وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ» أخرجَهُ مسلمٌ.
وعنِ ابنِ عباسٍ  أنَّه سُئِلَ عنْ صيامِ يومِ عاشُوراءَ، فقالَ: «مَا عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ يَوْمًا يَطْلُبُ فَضْلَهُ عَلَى الْأَيَّامِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ وَلَا شَهْرًا إِلَّا هَذَا الشَّهْرَ» متفقٌ عليهِ.
فينْبَغِي للمسلِمِ أنْ يصومَ هذا اليَوْمَ، ويَحُثَّ أهلَهُ وأولادَهُ على صِيامِهِ، اغْتِنامًا لفَضْلِهِ، وتَأَسِّيًا بالنبيِّ , فعَنْ جابرِ بنِ سُمْرَةَ قالَ: (كانَ رَسولُ اللهِ صَلّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يَأْمُرُنا بصِيامِ يَومِ عاشُوراءَ، وَيَحُثُّنا عَلَيْهِ، وَيَتَعاهَدُنَا عِنْدَهُ... الحديثُ) أخرجَهُ مسلمٌ.
ولْيُعْلَمْ يا عبادَ اللهِ أنَّ كلَّ نصٍّ جاءَ فيهِ تكفيرُ بعضِ الأعمالِ الصالحةِ للذُّنوبِ، كالوُضوءِ وصيامِ رمضانَ وصيامِ يومِ عرفَةَ، وعاشوراءَ وغيرِهَا، أنَّ المرادَ بهِ الصغائِرُ، لأنَّ هذِه العباداتِ العظيمةَ، وهيَ الصَّلواتُ الخَمْسُ والجُمُعَةُ ورمضانُ إِذَا كانَتْ لا تُكَفَّرَ بها الكبائِرُ -كما ثَبَتَ في السُّنةِ- فكيفَ بما دُونَها مِنَ الأعمالِ؟
فالكبائِرُ كالرِّبَا والزِّنَا والسِّحْرِ وغيرِهَا، لا تكفِّرُهَا الأعمالُ الصالحَةُ، بلْ لا بُدَّ لها مِنْ توبةٍ أوْ إقامَةِ الحدِّ فيما يتعلَّقُ بهِ حدٌّ.
فعلَى المسلمِ أنْ يبادرَ بالتوبةِ في هذهِ الأيامِ الفاضلَةِ منْ جميعِ الذنوبِ صغيرِهَا وكبيرِهَا، لعلَّ اللهَ تعالَى أنْ يتوبَ عليْهِ ويغفِرَ ذنبَهُ، ويَقبلَ طاعتَهُ، لأنَّ التوبةَ في الأزمِنَةِ الفاضلَةِ لها شأنٌ عظيمٌ، فإنَّ الغالبَ إقبالُ النفوسِ على الطاعاتِ، ورغبَتُهَا في الخيرِ، فيحصُلُ الاعترافُ الذنبِ، والندمُ على ما مَضَى، لا سِيَّما ونحنُ في بدايةِ عامٍ جديدٍ، وإِلَّا فالتوبَةُ واجبةٌ في جميعِ الأزمانِ.
أمَّا بَعْدُ: مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: لمَّا قَدِمَ رسولُ اللهِ المدينةَ وجَدَ اليهودَ يصومونَ يومَ عاشوراءَ، فسُئِلُوا عنْ ذلِكَ، فقالوا: هَذا اليومُ الَّذِي أظهَرَ اللهُ فيهِ مُوسَى وبَنِي إسرائيلَ على فِرْعَوْنَ، فنحنُ نصومُهُ تَعْظِيمًا لهُ، فقالَ رسولُ اللهُ  : «نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ، ثُمَّ أَمَرَ بِصَوْمِهِ» أخرجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ، وفي رِوايَةٍ لمسلمٍ: «فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا، فَنَحْنُ نَصُومُهُ», وفي رِوايَةٍ: «فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ» أيْ: نحنُ أثبَتُ وأقرَبُ لمتابعَةِ مُوسَى عليهِ السلامُ منْكُمْ، فإِنَّا مُوافِقونَ لهُ في أصولِ الدينِ، ومصدِّقونَ لكتابِهِ، وأنتُمْ مُخالِفونَ لهُمَا بالتغييرِ والتحريفِ، والرسولُ  أطوَعُ وأتبَعُ للحقِّ منهُمْ، فلِذَا صامَ يومَ عاشوراءَ، وأمرَ بصيامِهِ تقريرًا لتعظيمِهِ، وتأكيدًا لذلِكَ.
وعنِ ابنِ عباسٍ أنَّ رسولَ اللهِ لما صامَ يومَ عاشوراءَ وأمَرَ بصيامِهِ قالوا: يا رسولَ اللهِ، إنَّهُ يومٌ تعظِّمُهُ اليهودُ والنَّصارَى، فقالَ رسولُ اللهِ : «فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ» قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ . أخرجَهُ مسلمٌ، وفي روايَةٍ: «لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ».
فيُستَحبُّ لمَنْ أرادَ أنْ يصومَ عاشوراءَ أنْ يصومَ يومًا قبلَهُ، وهو اليومُ التاسعُ، فيكونُ صومُ التاسعِ سنةً وإنْ لمْ يصُمْهُ النبيُّ ، لأنهُ عزمَ على صومِهِ، والغرضُ مِنْ ذلِكَ -واللهُ أعلَمُ- أنْ يضمَّهُ إلى العاشِرِ ليكُونَ هديُهُ مخالفًا لأهْلِ الكتابِ، فإنَّهُمْ كانُوا يصومونَ العاشرَ فقَطْ، وقدْ صحَّ عنِ ابنِ عباسٍ موقُوفًا عليهِ: (صُومُوا التَّاسِعَ والعَاشِرَ خَالِفُوا اليَهُودَ)؛ وفي هَذا دَلالةٌ واضحةٌ على أنَّ المسلِمَ منهِيٌّ عنِ التشبُّهِ بالكُفَّارِ وأهْلِ الكتابِ، لِمَا في تَرْكِ التشبُّهِ بهِمْ مِنَ المصالِحِ العظيمةِ، والفوائِدِ الكثيرَةِ، ومِنْ ذلِكَ قطعُ الطرُقِ المفضِيَةِ إلى محبَّتِهِمْ والمَيْلِ إليهِمْ، وتحقيقُ مَعْنَى البراءَةِ مِنْهُم، وبُغضُهُمْ في اللهِ تعالى، وفيهِ -أيضًا- استقلالُ المسلمينَ وتميُّزُهُمْ.
وبناءً على قرارِ المحكمَةِ العُلْيا بشأنِ دُخولِ شهْرِ محَرَّمِ فإنَّ يومَ الاثنينِ القادِمِ هوَ العاشِرُ مِنْ الشهْرِ المحرَّمِ.
اللهُمَّ وفِّقْنَا لما يُرضِيكَ، وجَنِّبْنَا معاصِيكَ، واجْعَلْنا من عبادِكَ الصالحينَ، وحزبِكَ المفلحينَ، واعفُ عنا وتُبْ علينا، واغْفِر لنا ولوالدِينا، وصلّى اللهُ وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ.
اللهم فقِّهْنا في دينِنا، وارزُقْنا العملَ بهِ والاستقامةَ عليهِ، ويسِّرْنا لليُسْرى، وجنِّبْنا العُسْرى، واغفِرْ لنا في الآخِرَةِ والأُولى، وصلَّى اللهُ وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ.
المشاهدات 941 | التعليقات 0