شهر القراء.

عاصم بن محمد الغامدي
1438/08/02 - 2017/04/28 06:36AM
[align=justify]الخطبة الأولى:
الحمد لله أهل الحمدِ والثناء، المنفردِ برداء الكبرياء، المتوحدِ بصفات المجدِ والعلاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بالهدى ودين الحق أرسله، صلى الله عليه وعلى أصحابه سادة الأصفياء، وعلى آله قادة البررة الأتقياء، وعلى من تبعهم وأحسن الاقتداء، صلاة محروسة بالدوام عن الفناء، ومصونة بالتعاقب عن التصرم والانقضاء، أما بعد عباد الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلن، فاتقوا الله رحمكم الله، واحذروا اتباعَ الهوى وطولَ الأمل، فاتباعُ الهوى يصدُّ عن الحق، وطولُ الأمل يُنسي الآخرة، ومن صَبرَ على مخالفةِ هوى نفسِه، أوصَلَهُ اللهُ مقامَ أُنسِه، ومن استغرقَ في الملذاتِ دخَلَ في لُجَّة الندامات، ومن غلبت عليه شهواتُه، بَعُد عليه التوفيقُ ومقاماتُه، فالهوى رحمكم الله يُردي، والخوف من الله يقرِّبُ ويدني، {فَأَمَّا مَنْ طَغَى* وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى* وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}.
عباد الله:
النفسُ البشرية تألف ما جُبلت عليه، والعادةُ تتحكم بصاحبها، والابتعادُ الكليُّ عن المألوف، صعبٌ بلا تدرج.
لا يمشي الطفلُ مباشرةً، بل لابدَّ له من الزحف ثم الحبو، ولا يتكلم إلا بعد تأتأةٍ ولَثغة، ولا يستطيع المتسابق المنافسةَ دون تدريب، وصدق الله سبحانه: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوارًا}.
ومراعاة هذا التدرج في التشريعِ جليةٌ، فكثير من التكاليف العملية لم تُشرع إلا بعد استقرار الإيمان في القلوب، والصلاةُ لم تكن واجبةً قبل الإسراء إلا جزءًا من الليل، ثم فُرضت وأصبحت من أركان الإسلام، والصيام كان في أولِ الأمر محلَّ تخيير، من أراد صام، ومن لم يرد أفطر وأطعم، ثم أصبح ركنًا من أركان الإسلام.
والخمرُ كانت أولَ الإسلامِ مباحةً، ثم بيَّن الله تعالى أنها ليست من الرزق الحَسَنِ، ثم نفَّر منها ببيان كثرة إثمها وقلةِ منافعها، ثم مُنع السكران من الصلاة، ثم حرِّمت، وأصبح شربها من كبائر الذنوب.
وهذا التدرج نلحظه في كثير من الأحكام والتشريعات، وهو من رحمةِ الله بعباده، إذ هو خالقهم العالمُ بطبيعة نفوسهم، وصعوبةِ التغيير المفاجئ عليهم.
أيها المسلمون:
حاجة النفسِ البشريةِ إلى التدرجِ قائمةٌ في كل شؤونها، فمن أراد العلمَ تدرَّج في مراتب الطلب، ومن رغب في المال، رضي بالقليلِ منه ثم الكثير.
والقوةُ واستعادةُ الصحةِ بعد المرض لا تكون دفعةً واحدة.
ومن حكمة الله ما شرعه قبل بعضِ العبادات منَ المقدمات، التي تهيؤنا وتساهم في تحقيق مقصود العبادة في نفوسنا، فشرعَ قبل الصلاةِ الطهارةَ، والتبكيرَ إلى المساجدِ، والمشيَ بسكينةٍ ووقارٍ، والدنوَّ من الإمامِ.
وشرع قبل الحج والعمرة الإحرامَ من الميقات، والامتناعَ عن محظوراته، والإكثارَ من التلبيةِ والتكبيرِ، والتهيؤَ بلباسٍ مخصَّصٍ.
والواقعُ يشهد أن الإحسان في المقدمات له انعكاس على العبادات، في التلذذ والاستمتاع بها، وما يجده المرء من أثرها.
وقد اقتربنا أيها الكرامُ، من خير شهور العام، الذي فُرض فيه الصيام، وشرعت فيه قراءةُ القرآن وصلاةُ القيام، وتأبى سُنَّةُ التدرجِ من انقلابِ الإنسانِ بشكلٍ مفاجئ عن عادته، للدخول في روحانية الشهرِ ولذتِه، ونيل فائدته الكاملة وبركتِه، بل لابد للمؤمن من تدريبِ نفسه وتهيئتها، على مخالفة عادته ومألوفاتها.
عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ». [رواه البخاري ومسلم].
الصوم يقطع الإنسان عن كثير من الملهيات، ويساعده في إقباله على الطاعات، والموفق من أدرك حاجته إلى التمهيد والتدريب، واستغل لذلك مثل هذا الوقت الذي تكثر فيه الغفلة.
عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ». [رواه النسائي وحسنه الألباني].
فبادر أيها المبارك إلى ما يزيدك في رمضان نشاطًا وقدرة، صم وقم ولا ينقض هذا الشهر إلا وقد صمت منه ولو ثلاثة أيام، وخصص لك من الليل ولو ثلاثَ ركعاتٍ لا تقبل عنها عوضًا، فالتفريط في هذه الأيام، سببٌ لعدمِ شعور كثير من الصائمين بلذة الصيام والقيام.
وأكثر من قراءة القرآن والذكر والصدقة، فقد كان بعض السلف يسمي شهر شعبان شهر القراء، وبعضهم يغلق حانوته ويتفرغ للقرآن، وإذا أردت يا عبد الله أن تقرأ القرآن كلَّه في رمضان، وأن تكون من أهل التبكير إلى المساجد، و من الذين يقضون فيها وقتًا طويلاً، فجاهد نفسك على ذلك كلَّه قبل بلوغ الشهر ودرِّبها.
اللهم بلغنا رمضان، واجعلنا فيه من الصائمين القائمين العاملين المعتقين يا رب العالمين.

الخطبة الثانية:
الحمدلله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد عباد الله:
فإن العبادة وقتَ الغفلة ديدن الصالحين، وأكدت عليها سنة خير المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، ففي صحيح مسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ»، والمراد بالهرج هنا الفتنة واختلاط أمور الناس، فلا يتفرغ للعبادة في ذلك الوقتِ إلا قليلٌ، والعملُ كلما قلَّ فاعلوه ازدادت صعوبته، وعظمت بركته.
وشعبان بوابة رمضان، فينبغي أن يبادر الإنسان بتصفية صدره من الشوائب، والحذرِ من العقوبة المُعَجَّلَةِ لهجرِ إخوانِه، قَالَ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلامُ: «تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا». [رواه مسلم].
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ». [رواه البخاري ومسلم]، وفي رواية صحيحة: «فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ». [رواه أبو داود وصححه الألباني].
فإن وصل الهجر سنةً كاملة فالأمر أشدُّ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ». [رواه أبو داود وصححه الألباني].
فالموفقُ من ختم قصة الهجر، وبدأ حكايةَ العفوِ وسلامةِ الصدر، وبذل كلَّ ما يطيق ليُرفع عملُه لربه، وقلبه صافٍ لإخوانه.
جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنَه، وبلغنا رمضان، وجعلنا فيه من عتقائه من النيران.
ثم صلُّوا وسلِّموا على خير الورى طُرًّا، فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
[/align]
المشاهدات 1022 | التعليقات 0