شهر الغفران

هلال الهاجري
1442/08/25 - 2021/04/07 09:48AM

إِنَّ اَلْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيئَاتِ أعْمَالنَا، مَنْ يَهْدِهِ اَللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلل فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) .. أما بعد:

ارْتَقَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: (آمِينَ)، ثُمَّ ارْتَقَى ثَانِيَةً، فَقَالَ: (آمِينَ)، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَيْهِ فَقَالَ: (آمِينَ)، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: عَلَى مَا أَمَّنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، فَقَالَ: (أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ: آمِينَ، ثُمَّ قَالَ: رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يُدْخِلاهُ الْجَنَّةَ، فَقُلْتُ: آمِينَ، ثُمَّ قَالَ: رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، فَقُلْتُ: آمِينَ).

رغِمَ أنفُ عبْدٍ أي التصقَ بالرَّغامِ أي التُرابِ، وذلك لخيبتِه وخسارتِه، فأنتم تلاحظُونَ أن من خَسِرَ يطأطئُ رأسَه قليلاً، ولكن أن يصلَ الأمرُ إلى أن يلتصقَ أنفُه بترابِ الأرضِ، فهذه واللهِ خيبةٌ عظيمةٌ.  

فلماذا هذه الدعوةُ من جبريلَ عليه السلامُ والتأمينُ من النبيِ صلى اللهُ عليه وسلمَ على خسارةِ وخيبةِ من أدركَ شهرَ رمضانَ ثم لم يُغفرْ له؟، والجوابُ الواضحُ الأكيدُ: أنَّ المغفرةَ في رمضانَ في متناوَلِ الجميعِ، كلُكم يستطيعُ أن يُدركَ هذا الفضلَ العظيمَ، فتُغفرُ له ذنوبُ العُمُرِ بأعمالٍ يسيرةٍ، فينالُها كلُ حريصٍ على الخيرِ مُجتهدٌ، ويَخسرُها كلُ محرومٍ من الخيرِ مُبتعِدٌ.

ما ظنُّكم بشهرٍ، صيامُه مغفرةٌ: كما قالَ عليه الصلاة والسلامُ: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)، وقيامُه مغفرةٌ: (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)، بل وقيامُ ليلةٍ من لياليهِ فيه مغفرةٌ لسنينِه المديدةِ، وفتحٌ لصفحةٍ جَديدةٍ: (مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ).

وفي كثرةِ ركعاتِ القيامِ مع الإمامِ قد يُوافقُ تأمينُك – أي قولُ آمين – تأمينَ الملائكةِ فتفوزَ فوزاً عظيماً وأنت لا تشعرُ، قال عليه الصلاةُ والسلامُ: (إذَا أَمَّنَ الإِمَامُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ).

وهل يعجزُ أحدُنا أن يُحسنَ الوُضوءَ في بيتِه ثم يخرجَ من بيتِه للمسجدِ لصلاةِ الجماعةِ؟، فهذا فيه خيرٌ كبيرٌ، وأجرٌ من اللهِ تعالى على ذلك العملِ اليسيرِ، تَوَضَّأَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضيَ اللهُ عنه يَوْمًا وُضُوءًا حَسَنًا ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ: (مَنْ تَوَضَّأَ هَكَذَا ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يَنْهَزُهُ – أي لا يُخرجُه - إِلَّا الصَّلَاةُ غُفِرَ لَهُ مَا خَلَا مِنْ ذَنْبِهِ).

فإن دخلَ المسجدَ ثم صلى ركعتينِ خاشعتينِ، فلعلَه ينالُ بذلك ما جاءَ في الحديثِ: (مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يَسْهُو فِيهِمَا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)، ثم لا يزالُ في خيرٍ وفي صلاةٍ ما انتظرَ الصلاةَ، وتدعو له الملائكةُ بالمغفرةِ والرحمةِ، قالَ صلى اللهُ عليه وسلمَ: (لا يَزَالُ الْعَبْدُ فِي صَلاةٍ مَا كَانَ فِي مُصَلاهُ يَنْتَظِرُ الصَّلاةَ، وَتَقُولُ الْمَلائِكَةُ: اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللهُمَّ ارْحَمْهُ، حَتَّى يَنْصَرِفَ، أَوْ يُحْدِثَ).

ولا تنسَ الأذكارَ بعدَ الصلاةِ، ألفاظٌ معدودةٌ، لها مغفرةٌ لا محدودةٌ (مَنْ سَبَّحَ في دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثَاً وَثَلاثِينَ، وَحَمَدَ اللهَ ثَلاثاً وَثَلاثِينَ، وَكَبَّرَ اللهَ ثَلاثَاً وَثَلاثِينَ فَتِلْكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ ثُمَّ قَالَ تَمَامَ المائَةِ: لا إِله إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وُلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ لَهُ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ).

كثيرٌ منا في رمضانَ يستمعُ للأذانِ للإمساكِ والفطورِ، فلا يفوتُنا أن نقولَ بعدَ تشهدِ المؤذنِ هذا الدعاءَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ) .. مغفرةٌ في كلِّ الأوقاتِ، ومغفرةٌ على أعمالٍ يسيراتٍ، فأينَ أنتَ من مواطنِ المغفرة؟.

اللهم لا تحرمنا فضلَك، واغفر لنا في هذا الشهرِ المباركِ ولجميعِ المسلمينَ ما تقدمَ من ذنوبِنا إنك أنت الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ غافرِ الذنبِ وقابلِ التوبِ شديدِ العقابِ، ذي الطولِ لا إلهَ إلا هو إليه المصيرُ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له خالقُ الخلقِ مدبرُ الأمرِ، له الفضلُ الكبيرُ، وأشهدُ أن سيدَنا ونبيَنا محمداً عبدُه ورسولُه، الرحمةَ المهداةَ، والنعمةَ المسداةَ، والسراجَ المنيرَ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه وسلمَ تسليماً كثيراً .. أما بعدُ:

اسمع إلى هذا الحديثِ يا من فطَّرَّ الصائمينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (غُفِرَ لِامْرَأَةٍ مُومِسَةٍ مَرَّتْ بِكَلْبٍ عَلَى رَأْسِ رَكِيٍّ – أي بئرٍ - يَلْهَثُ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ فَنَزَعَتْ خُفَّهَا فَأَوْثَقَتْهُ بِخِمَارِهَا فَنَزَعَتْ لَهُ مِنَ الْمَاءِ فَغُفِرَ لَهَا بِذَلِكَ)، فإذا كانَ قد غُفرَ لمومسةٍ بكلبٍ سقتُه ماءً، فكيفَ بمن فطّرَ إنساناً مسلماً على عطشِ وجوعِ هذه العبادةُ العظيمةُ؟.

بل أسهلُ من ذلك: إذا أفطرَ الصائمُ، ثم حمِدَ اللهَ على نِعمِه الجليلةِ، أكلٌ وشربٌ وحمدٌ ثم ماذا؟، (مَنْ أَكَلَ طَعَامًا فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ).

وإذا أدركَكَ السُّحورُ في آخرِ الليلِ، فتذكر نزولَ العظيمِ الجليلِ، وكيف ينادي: (مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ)، وقلها صادقاً من قلبِكِ، نادماً على ذنبِكَ .. أبعدَ هذا كلُه، ومع ما يعرفُه كلُ مسلمٍ عن مغفرةِ اللهِ تعالى، ورحمتِه التي وسعت كلَ شيء، نستغربُ ذلك الدعاءَ على من أدركَ رمضانَ فلم يُغفرُ له؟، فاستعن باللهِ ولا تعجزْ لعلها تُدركُك مغفرةٌ من الغفورِ الرحيمِ، فتكن من عُتقاءِ رمضانَ من نارِ الجحيمِ.

إِذَا أَنْتَ لَمْ تَزْرَعْ وَأَبْصَرْتَ حَاصِدًا *** نَدِمْتَ عَلَى التَّفْرِيطِ فِي زَمَنِ الْبَذْرِ

اللهم أعنا على صيامِ رمضانَ وقيامِه إيماناً واحتساباً واجعلنا فيه من العتقاءِ من النارِ يا أرحمَ الرحمينَ، اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرتَه، ولا هماً إلا فرجتَه، ولا دَيناً إلا قضيتَه، ولا مريضاً إلا شفيتَه، ولا مبتلىً إلا عافيتَه، ولا غائباً إلا رددتَه، ولا ضالاً إلا هديتَه ولا عسيراً إلا يسرتَه، ولا كرباً إلا نفستَه ولا حاجةً من حوائجِ الدنيا والآخرةِ هي لك رضاً ولنا فيها صلاحٌ إلا أعنتنا على قضائِها ويسرتَها برحمتك يا أرحمَ الراحمينَ، اللهم أصلح أحوالَ المسلمينَ حكاماً ومحكومين، اللهم ألّف بين قلوبِ المسلمينَ وأصلح ذاتَ بينِهم، واهدِهم سبلَ السلامِ، ونجِهم من الظلماتِ إلى النورِ، وانصرهم على عدوِك وعدوِهم يا قويُ يا عزيزُ، اللهم اغفر لموتى المسلمينَ الذين شهدوا لك بالوحدانيةِ ولنبيكَ بالرسالةِ وماتوا على ذلك اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعفُ عنهم ووسع مدخلَهم وأكرم نزلَهم واغسلهم بالماءِ والثلجِ والبردِ ونقهم من الذنوبِ والخطايا وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه برحمتك يا أرحم الراحمين.

المرفقات

1617788883_شهر الغفران.docx

1617788896_شهر الغفران.pdf

المشاهدات 2280 | التعليقات 0