شهادة الزور و أضرارها

أبو عبد الرحمن
1432/10/18 - 2011/09/16 05:26AM
شهادة الزور و أضرارها (مقتبسة مزيدة)

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صلِّ على محمد عبدك ورسولك، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه.
)يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون(
)يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا(
)يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا(
إخوة الإسلام، لقد جاء دين الإسلام وفي أبرز مقاصده إقامة العدل وتأسيسه ومنع الظلم بشتى صوره وأشكاله فالقسط والعدل هو غاية الرسالة المحمدية بل الرسالات كلها ) لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط( عدلٌ ينظم ميادين الحياة كلها ويعم حق الخالق والمخلوق جميعها، ويشمل الأفعال والأقوال والتصرفات بشتى أشكالها. عدلٌ في كل ميدان وقسط مع كل إنسان )إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى( وإن دين الإسلام وهو يقرر مبادئ الحق ويصوغ قواعد الإصلاح ويؤسس مناهج الخير فهو الدين الذي يكفل لهذه المبادئ الخيِّرة والمناهج الإصلاحية طرق توصل إليها ووسائل تضمن سلامتها مما يُخل بها, أو يناقض أغراضها ويهدد مقصودها.
وإن من أبرز أسباب إقامة العدل وأظهر ركائز القسط القيام بالشهادة ومعرفة أهميتها ودورها في المجتمع ومراعاة حقها والواجب نحوها.
الشهادة ـ عباد الله ـ معيار لتميز الحق من الباطل وحاجز يفصل الدعاوى الصادقة من الكاذبة، قال بعضهم: الشهادة بمنزلة الروح للحقوق فالله أحيا النفوس بالأرواح الطاهرة وأحيا الحقوق بالشهادة الصادقة. والشهادة ضرورية لقيام الحياة الاجتماعية وما يخالطها من أحداث ويصحبها من وقائع مادية وتصرفات إرادية ومعاملات وعلاقات عائلية.
إخوة الإسلام، توفية الشهادة حقها فرض لازم وواجب محتم يقول جل وعلا) وأقيموا الشهادة لله(. والقائمون بشهاداتهم في عداد أهل البر والإحسان ومن زمرة أهل الفضل والإيمان يقول جل وعلا في وصف المكرمين: )والذين هم بشهاداتهم قائمون(.
ومن حقوق الإيمان وواجباته الشهادة في الحق ولو على النفس أو أقرب قريب ) يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين( وإقامة الشهادة تشمل تحملها على إنشاء العقود والتصرفات وأداءها أمام القضاء والقضاة، قال أهل العلم: ومن دُعي إلى الشهادة على عقد أو تصرف من حقوق العباد ولم يوجد غيره يقوم مقامه وجب عليه تحمل الشهادة إذن، وإلا فهو مندوب ومرّغبٌ فيه، وفي حق الجميع حينئذ فرض كفاية، وهذا بعض ما قرروه بالتحمل.
وأما الأداء فقال أهل العلم: وأداء الشهادة فرض على الكفاية إذا قام بها العدد الكافي سقط الإثم عن الجماعة وإن امتنع الجميع أثموا وإذا لم يكن هناك غير ذلك العدد من الشهود الذين يحصل بهم الحكم وخيف ضياع حق العبد وجبت على الإنسان حينئذٍ وجوبًا عينيًا يقول جل وعلا في جميع ما تقدم ) ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ( وهذا في حقوق العباد، أما الحدود فالستر أفضل كما قررته سنة النبي r.
ولئن كان الأمر هكذا بالنسبة للتحمل والأداء فإن ضده وهو الكتمان أمر مذموم شرعًا ومبغوض طبعًا، يقول جل وعلا ) ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه((آثِمٌ قَلْبُهُ) أي: فاجر قلبه. وقد قيل: ما أوعد الله على شيء كإيعاده على كتمان الشهادة، قال ابن عباس رضي الله عنه : (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) أراد به مسخ القلب وخص القلب بذلك لأنه موضع العلم بالشهادة (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنْ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)فكتمان الشهادة عباد الله جرم عظيم وإثم كبير، يقول جل وعلا حكاية عن شهود الوصية )ولا نكتم شهادة الله إنا إذًا لمن الآثمين( قال ابن عباس- رضي الله عنهما-( شهادة الزور من أكبر الكبائر وكتمانها (أي الشهادة)كذلك).
معاشر المسلمين، وإذا تمهدت لنا تلك الحقائق الغراء فإن من اللازم على المسلم العلم بأن شريعة الإسلام وهي تجعل الشهادة أساسًا لإثبات الحدود وطريقًا لإظهار الحقوق، فإنها تحيط الشهادة بسياج يحقق أهدافها وتشرعها وفق ضوابط تضمن تحقيق مقاصدها وتُسيِّرُ طرق إنشائها وعرضها في محيط مبادئ وأسس تمنع الانحراف بها إلى ما يضاد أهدافها وأغراضها، وتأسيساً على ذلك فالأصل في شريعة الإسلام أن تكون الشهادة مبنية على علم وبيان وأن تنشأ عن ثـقة واطمئنان، قال تعالى :)إلا من شهد بالحق وهم يعلمون( ويقول عز وجل حكاية عن إخوة يوسف: )وما شهدنا إلا بما علمنا(.
قال أهل العلم: والأصل أن تكون الشهادة عن مشاهدة وعيان، وأن يكون مستندها أقوى أسباب العلم، فما من شأنه أن يعاينه الشاهد كالقتل والسرقة والغصب والرضاع والزنى ونحو ذلك فلا يصح أن يشهد به إلا بالمعاينة والمشاهدة البصرية له.
وما من شأنه أن يسمع فلا يصح للشاهد أن يشهد به إلا بالسماع والمعاينة لقائله كعقود النكاح والبيوع والإيجارات والطلاق ونحوها. إخوة الإسلام، ومن تلك المنطلقات الآنفة: فإن شهادة الإنسان على ما لا يعلمه أو شهادته بخلاف ما لا يعلمه جريمة عظمى وطامة كبرى.
نعم كيف لا تكون كذلك، وهي حقيقة شهادة الزور التي هي عند أهل العلم الشهادة الكاذبة التي ليس لها أساس من الصحة أياً كانت دوافعها إما بدافع الحمية لمناصرة المشهود له بالباطل، وإما لعداوة للمشهود عليه وإما بدافع الطمع بما يعطيه المشهود له من مكافأة مالية أو غيرها. دون تفكير في العاقبة الوخيمة، ودون خوف من الله جل وعلا .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:(وضابط الزور: وصف الشيء على خلاف ما هو به. وقد يضاف إلى القول فيشمل الكذب والباطل وقد يضاف إلى الشهادة فتختص بها. وقال بعضهم: الزور هو الكذب الذي قد سُوِّي وحُسن في الظاهر ليُحسب أنه صدق) انتهى.
عباد الله: إن شهادة الزور من أكبر الكبائر وأعظم الذنوب: يقول جل وعلا: )واجتنبوا قول الزور(. روى الترمذي وغيره أن النبي r قام خطيبًا فقال: "أيها الناس عدلت شهادة الزور إشراكًا بالله ثم قرأ r:)فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور( " ورُوى ذلك موقوفًا عن ابن مسعود بإسناد حسن.
وفي الصحيحين أن النبي r قال: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا،ً قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وجلس وكان متكئًا، فقال ألا وقول الزور، قال: فمازال يكررها حتى قلنا ليته سكت".
قال الإمام النووي رحمه الله :" فجلوسه صلى الله عليه وسلم لاهتمامه بهذا الأمر، وهو يفيد تأكيد تحريمه، وعظم قبحه، وأما قولهم ليته سكت، فإنما قالوه وتمنوه، شفقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكراهة لما يزعجه ويغضبه" أ.هـ.
شهادة الزور عباد الله واضحة الأضرار سيئة الآثار. فمما يترتب على شهادة الزور: 1- تضليل الحكام عن الحق، والحكم بناء على البينة الظاهرة لأن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، فإذا كانت البينة كاذبة أخذ الحق غير صاحبه والإثم على الشاهد 2-ظلم من شهد له لأنه ساق إليه حقاً ليس له، وهذا من الزور والبهتان، وقد قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: (إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلَا يَأْخُذْهَا)رواه البخاري. 3-الظلم لمن شهد عليه حيث سلبه ماله وحقه بهذه الشهادة الكاذبة، وهنا قد يدعو عليه المظلوم دعوة تحصبه ومن وراءه، فدعوة المظلوم مستجابة 4- تخليص المجرمين من عقوبة الجرائم التي ارتكبوها، فقد يشهد معهم أحد شهادة زور تخلصهم من العقوبة التي تنتظرهم وهنا يكون ظلم شاهد الزور للمجتمع بأسره لأن هذا الشاهد يُعِين على انتشار الجريمة ويجرم في حق نفسه ومجتمعه 5- يترتب على شهادة الزور انتهاك المحرمات وأكل أموال الناس بالباطل 6-القول على الله بغير علم حيث يكذب شاهد الزور ويغير الحقائق دون مراعاة لما يترتب على شهادته، فقد يكون فيها كذب على الله وافتراء على عباد الله 7- يترتب على شهادة الزور أن الحاكم والمحكوم له والمحكوم عليه كلهم خصماء لشاهد الزور يوم القيامة، لأنه أجرم بحقهم جميعاً، ومع أهمية الشهادة وعظمها وضرورتها لإثبات الحقوق إلا أن بعض الناس تساهل فيها وركب مركباً صعباً، فمن الناس من يشهد بما لم يره أو يعلم عنه وإنما تأخذه العاطفة أو الحمية أو العداوة أو الطمع الدنيوي. ومن مظاهر التساهل أن البعض يصدق خبر من يطلب الشهادة حيث يقول له أنا ملكت الأرض الفلانية أباً عن جد وملكها ثابت وأريدك تشهد معي أنها ملكنا، أو يقول له إن الأرض ليست ملكاً لأحد وهي أرض بور وشهادتك لا تضر أحداً لأني إن لم آخذها أخذها غيري، فيشهد بعض الناس ظناً منه أنه لا يضر أحداً، وما علم هؤلاء أن الإثم هنا أعظم لأن هذه الأرض تتعلق بها حقوق الناس الذين يتعلقون ببيت مال المسلمين، فما كان من الأراضي يخص الدولة فنفعه عام للناس ولذا عقوبة الاعتداء عليه أعظم. ومن مظاهر التساهل بالشهادة أن يقابل شخص آخر في المحكمة أو غيرها ويقول له اشهد لي بكذا وأشهد لك، وأحياناً لا يعرف أحدهما الآخر ولا يعلم عن صدقه وكذبه وصلاحه وفجوره. ومن مظاهر التساهل بالشهادة التهاون في تزكية الشهود وجرحهم وهو لا يعلم عن حالهم شيئاً وإنما يأخذه الحماس والعاطفة والانتصار لفلان من الناس لمكانته أو لكثرة أمواله أو لمنصبه، فيقع في أمر عظيم يترتب عليه أكل أموال الناس بالباطل وظلمهم والاعتداء عليهم.
شاهد الزور يستحق الطرد والمقت والتعزير والتشهير وتعريف الناس به حتى يحذروه، كتب عمر بن الخطاب إلى عماله في شاهد الزور أن يضرب أربعين سوطاً، وأن يسوَّد وجهه، ويحلق رأسه، ويطاف به، ويطاول حبسه. وكان الخلفاء رضوان الله عليهم إذا جيء لهم بشاهد زور أوقفوه وعرفوا الناس به وحبسوه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ)رواه البخاري وهؤلاء الذين يأخذهم الحماس ويصدقون فلاناً أو فلانة بأن هذا ملك لهم ولا ينازعهم فيه أحد ويطلبون شهادة عليه فيشهد معهم وهو لا يعلم، وقد يكون ذلك قبل ولادته، كل هذا مما وقع فيه الناس ويقعون فيه، والخصومة بين يدي الله جل وعلا، فاتقوا الله عباد الله والتمسوا سبل المتقين وطريق المؤمنين الذين قال الله جل وعلا فيهم: )والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كرامًا(.أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأشهد ألا إله إلا الله أمر بحفظ الألسنة عن قول الزور وشهادة الزور، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله أصدق الخلق قولاً وأعفهم لساناً صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل الصدق في أقوالهم وأفعالهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله وأطيعوا أمره واجتنبوا نهيه.
عباد الله، إن شريعة الإسلام حريصة كل الحرص على إرساء قواعد الأخوّة في المجتمع وغرس مبادئ المحبة والاتفاق ودرء أسباب النزاع والشقاق؛ لذا شرعت للمسلمين نظام التوثيق ابتداءً لحفظ الحقوق والمقدرات، وضبط الآثار والنتائج من العقود والتصرفات، ولدرء ومنع التجاحد والنكران، وقطع دابر الفساد والتنازع والخصام، ومن أقوى طرق التوثيق: الإشهاد، وقد قيل: المشهود خير من المكتوب.
قال جل و علا في شأن البيوع ونحوها: ) وأشهدوا إذا تبايعتم (. ويقول عز وجل في الفسوخ وأمثالها: ) وأشهدوا ذوي عدل منكم (.ويقول عز وجل في شأن تسليم الأموال والودائع: ) فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبًا (.
عباد الله: ولا يجوز للإنسان أن يتحمل شهادة على جور أو أمر محرم قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) أي كونوا قوامين بالحق لله عز وجل، لا لأجل الرياء والسمعة أو سواها من حظوظ النفس وكونوا (شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل لا بالجور.
وقد ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أنه قال: نحلني أبي نحلاً، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاءه ليشهده على صدقتي. فقال: " أكل ولدك نحلت مثله؟ " قال: لا. فقال: " اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم. وقال:" إني لا أشهد على جور " قال فرجع أبي فرد الصدقة. فهذا دليل على أن الإنسان لا يجوز له أن يشهد على الجور لأن شهادته ستكون وسيلة لثبوته، فيكون معيناً على الجور. وقد لعن النبي -صلى الله عليه وسلم- آكل الربا وشاهديه وكاتبه. لأن كتابة عقود الربا والشهادة عليها وسيلة لإثباتها وإعانة على تعاطيها.
عباد الله: ويجب على الإنسان أن يشهد بالحق ولو على نفسه أو أقرب الناس إليه، لا تأخذه في ذلك لومة لائم ولا يصرفه عن ذلك طمع أو خوف أو محاباة أو عداوة - قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) أي اشهد بالحق ولو عاد ضرر ذلك عليك، وإذا سئلت عن الأمر فقل الحق فيه ولو عادت مضرته عليك. فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجاً ومخرجاً من كل أمر يضيق عليه.
وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك فلا تراعهم فيها؛ فإن الحق حاكم على كل أحد، ولا تراع غنياً لغناه، ولا فقيراً لفقره في أمر الشهادة؛ فالله أولى بهما منك وأعلم بما فيه صلاحهما؛ فالله أرحم بعباده منكم فقد تظنون أن في الشهادة عليهم مضرة، وفي الحقيقة أن الشهادة عليهم فيها رحمة بهم ومصلحة لهم وهي النصرة الحقيقية النافعة لهم في تخليصهم من المظالم وتطهيرهم من المآثم.
وبعد عباد الله: فإن الشاهد يتحمل تبعة الحكم ويشترك في إثم الظلم فاتقوا الله فيمن تشهدون عليه. وفيمن تشهدون له. وتثبتوا فيما تنطقون به. والتزموا ـ رعاكم الله ـ أوامره والتزموا مناهجه تُفلحوا وتسعدوا وتنالوا رضى ربكم. رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ.. اللهم رحمتك نرجو فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وأصلح لنا شأننا كله، لا إله إلا أنت. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب؛ إله الحق آمين اللهم رحمتك ..اللهم أنج عبادك.. اللهم رحمتك بإخواننا المستضعفين والمشردين في كل مكان.. اللهم أفرغ على إخواننا المجاهدين ..اللهم آمنا في أوطاننا . اللهم وفق إمامنا لما تحب وترضى وخذ بناصيته للبر والتقوى وألبسه ثوب الصحة والعافية وإخوانه وأعوانه على الخير اللَّهمَّ صَلِّ على مُحمَّدٍ ، وَعَلى آلِ مُحمَّد ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلى آلِ إبْرَاهِيمَ ...وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
المصادر: خطب في شهادة الزور لكل من الخطباء المشايخ: صالح الفوزان ، حسين آل الشيخ ، عبد الله الطيار وبعض المواقع.
المشاهدات 10819 | التعليقات 1

وهذه خطبة للعبد الفقير إلى عفو ربه عنوانها ( وأقيموا الشهادة لله ) :

الخطبة الأولى :

أما بعدُ ، فأُوصيكم ـ أيها الناسُ ـ ونفسي بِتقوى اللهِ ـ عز وجل ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "
أيها المسلمون ، لقد حَرَّمَ الله ـ تعالى ـ على نفسِهِ الظُّلمَ وجَعَلَه على العِبادِ محرَّمًا ، وَأَمَرَ بِالعَدلِ والإِحسانِ وإِيتاءِ ذِي القُربى ، ونهى عَن كَتمِ الشَّهَادَةِ وَأَمَرَ بِإِقامتِها للهِ ، وحَرَّمَ شَهَادَةَ الزُّورِ وحَذَّرَ مِنها نَبِيُّهُ أَشَدَّ التَّحذِيرِ ، كُلُّ ذلك لحِفظِ حُقُوقِ العِبادِ ، وَضَمَانًا لِئَلاَّ تَضِيعَ لِقُوَّةِ قَوِيٍّ وَضَعفِ ضَعِيفٍ ، أَو يُظهِرَ صَاحِبُ بَاطِلٍ بَاطِلَهُ لِقَلَّةِ تَقوَاهُ ، ويَعجِزَ مُحِقٌّ عَن حَقِّهِ لِعَدَمِ بَيِّنَتِهِ ، وَمِن هُنا فَإِنَّ لِلشَّهَادَةِ في الإسلامِ شَأنًا عَظِيمًا في جميعِ المعاملاتِ ، فَالشَّهَادَةُ في النِّكاحِ شَرطٌ مِن شُرُوطِ صِحَّتِهِ عِندَ كَثيرٍ مِنَ العُلَمَاءِ ، والطلاقُ يُشهَدُ عَلَيهِ أَيضًا ، والإِشهَادُ على الرَّجعَةِ مِنَ الطَّلاقِ شَرطٌ لها عِندَ بَعضِ العُلَمَاءِ ، والبَيعُ والشِّرَاءُ والمُدَايَنَاتُ والعُقُودُ ، كُلُّها يُسَنُّ الإِشهَادُ عَلَيهَا .
لَقَد جَاءَ دِينُ الإِسلامِ وفي أَبرَزِ مَقَاصِدِهِ إِقَامَةُ العَدلِ وَتَأسِيسُهُ ، وَمَنعُ الظُّلمِ بِشَتَّى صُوَرِهِ وَأَشكَالِهِ ، فَالقِسطُ وَالعَدلُ هُوَ غَايَةُ الرِّسَالَةِ المُحَمَّدِيَّةِ ، بَل هُو غَايَةُ الرِّسَالاتِ كُلِّها " لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ " عَدلٌ يُنَظِّمُ مَيَادِينَ الحياةِ كُلَّهَا ، ويَعُمُّ حُقُوقَ الخَالِقِ والمَخلُوقِ جميعَهَا ، ويَشمَلُ الأَفعَالَ والأَقوَالَ وَالتَّصَرُّفَاتِ بِشَتَّى أَشكالِهَا . عَدلٌ في كُلِّ مَيدَانٍ ، وقِسطٌ مَعَ كُلِّ إِنسانٍ " إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى ، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ " وَإِنَّ مِن أَبرَزِ أَسبَابِ إِقَامَةِ العَدلِ وَأَظهَرِ رَكَائِزِ القِسطِ القِيامَ بِالشَّهَادَةِ ، وَمَعرِفَةَ أَهمِيَّتِهَا وَدَورِهَا في المجتمعِ ، ومُراعَاةَ حَقِّها وَالوَاجِبِ نحوَهَا ، إِذْ هِيَ مِعيَارٌ لِتَمَيُّزِ الحَقِّ مِنَ البَاطِلِ ، وَحَاجِزٌ يَفصِلُ الدَّعَاوَى الصَّادِقَةَ مِنَ الكاذِبَةِ ، حتى قال بَعضُهُم : الشَّهَادَةُ بِمَنزِلَةِ الرُّوحِ لِلحُقُوقِ ، فَاللهُ أَحيَا النُّفُوسَ بِالأَروَاحِ الطَّاهِرَةِ ، وَأَحيَا الحُقُوقَ بِالشَّهَادَةِ الصَّادِقَةِ . الشَّهَادَةُ ضَروريَّةٌ لِقِيَامِ الحياةِ الاجتماعيةِ ، وَمَا يُخالِطُهَا مِن أَحدَاثٍ وَمَا يَصحَبُها مِن وَقَائِعَ ، وَمَا يَقَعُ فِيهَا مِن مُعامَلاتٍ مَادِيَّةٍ وَتَصَرُّفَاتٍ إِرَادِيَّةٍ وَعِلاقَاتٍ عَائِلِيةٍ . قال شُرَيحٌ القَاضِي ـ رحمه اللهُ ـ : الحُكمُ دَاءٌ وَالشَّهَادَةُ شِفَاءٌ ، فَأَفرِغِ الشِّفَاءَ على الدَّاءِ .
أيها المسلمون ، إِنَّ تَوفِيَةَ الشَّهَادَةِ حَقَّهَا فَرضٌ لازِمٌ وَوَاجِبٌ مُحَتَّمٌ ، يَقولُ ـ جل وعلا ـ : " وأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ " وَإِنَّ القَائِمِينَ بِشَهَادَاتِهِم في عِدادِ أَهلِ البِرِّ والإِحسانِ ، ومِن زُمرَةِ أَهلِ الفَضلِ وَالإِيمانِ ، يَقولُ ـ جل وعلا ـ في وَصفِ عِبادِهِ المُكرَمِينَ : " والذين هُم بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ " وَمِن حُقُوقِ الإِيمانِ وَوَاجِباتِهِ الشَّهَادَةُ في الحَقِّ وَلَو عَلَى النَّفسِ أَو أَقرَبِ قَرِيبٍ ، قال ـ تعالى ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء للهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا ، فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ ، وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا " وَإِقَامَةُ الشَّهَادَةُ تَشمَلُ تَحَمُّلَهَا عَلَى إِنشَاءِ العُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ ، وَأَدَاءَهَا أَمَامَ القَضَاءِ وَالقُضَاةِ ، قَالَ أَهلُ العِلمِ : وَمَن دُعِيَ إِلى الشَّهَادَةِ عَلَى عَقدٍ أَو تَصَرُّفٍ مِن حُقُوقِ العِبادِ وَلم يُوجَدْ غَيرُهُ يَقُومُ مَقَامَهُ ، وَجَبَ عَلَيهِ تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ إذًا ، وَإِلاَّ فَهُوَ مَندُوبٌ ومُرَغَّبٌ فِيهِ ، وفي حَقِّ الجَمِيعِ حَينَئِذٍ فَرضُ كِفَايَةٍ ، هذا بَعضُ مَا قَرَّرُوهُ بِالتَّحَمُّلِ . وَأَمَّا الأَدَاءُ فَقَالَ أَهلُ العِلمِ : وَأَدَاءُ الشَّهَادَةِ فَرضٌ عَلَى الكِفَايَةِ ، إِذَا قَامَ بها العَدَدُ الكَافي سَقَطَ الإِثمُ عَنِ الجَمَاعَةِ ، وَإِنِ امتَنَعَ الجَمِيعُ أَثِمُوا ، وَإِذَا لم يَكُنْ هُنَاكَ غَيرُ ذَلِكَ العَدَدِ مِنَ الشُّهُودِ الذين يحصُلُ بهم الحُكمُ ، وَخِيفَ ضَيَاعُ حَقِّ العَبدِ ، وَجَبَت على الإِنسانِ حِينَئِذٍ وُجُوبًا عَينِيًّا ، يَقُولُ ـ جل وعلا ـ في جميعِ مَا تَقَدَّمَ : " وَلا يَأبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا ما دُعُوا "
وَلَئِنْ كَانَ الأَمرُ هَكَذَا بِالنَّسبةِ لِلتَّحَمُّلِ وَالأَدَاءِ ، فَإِنَّ ضِدَّهُ وَهُوَ الكِتمَانُ ، أَمرٌ مَذمُومٌ شَرعًا وَمُبغَضٌ طَبعًا ، يَقُولُ ـ جل وعلا ـ : " وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ ، وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ، وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ " قال بعضُ أهلِ العِلمِ : مَا تَوَعَّدَ اللهُ عَلَى شَيءٍ كَتَوَعُّدِهِ عَلَى كِتمَانِ الشَّهَادَةِ حَيثُ قَالَ : " فَإِنَّهُ آثمٌ قَلبُهُ " فَكِتمَانُ الشَّهَادَةِ جُرمٌ عَظِيمٌ وَإِثمٌ كَبِيرٌ ، يَقُولُ ـ جل وعلا ـ حِكَايَةً عَن شُهُودِ الوَصِيَّةِ : " وَلا نَكتُمُ شَهَادَةَ اللهِ ، إِنَّا إِذًا لَمِن الآثمين " قال ابنُ عباسٍ- رضي اللهُ عنهما - : شَهَادَةُ الزُّورِ مِن أَكبرِ الكَبَائِرِ ، وَكِتمَانُهَا كَذَلِكَ .
مَعَاشِرَ المسلمين ، وِإَذَا تمهَّدَت لَنَا تِلكَ الحَقَائِقُ الغَرَّاءُ ، وَاتَّضَحَت لَنَا تِلكَ الأَحكَامُ البَيضَاءُ ، فَإِنَّ مِنَ اللازِمِ على المُسلِمِ العِلمَ بِأَنَّ شَرِيعَةَ الإِسلامِ ، وهي تجعلُ الشَّهَادَةَ أَسَاسًا لإِثباتِ الحُدُودِ وَطَرِيقًا لإِظهَارِ الحُقُوقِ ، فَإِنَّهَا تُحِيطُها بِسِيَاجٍ يُحَقِّقُ أَهدَافَهَا ، وَتَشرَعُهَا وِفقَ ضَوَابِطَ تَضمَنُ تحقِيقَ مَقَاصِدِهَا ، وَتُسيِّرُ طُرُقَ إِنشَائِهَا وَعَرضِهَا في محيطِ مَبَادِئَ وَأُسُسٍ تمنَعُ الانحرافَ بها إلى ما يُضَادُّ أَهدَافَهَا وَيُنَاقِضُ أَغرَاضَهَا ، وَتَأسِيسًا عَلى ذَلِكَ فَإِنَّ الأَصلَ في شَرِيعَةِ الإِسلامِ ، أَنْ تَكونَ الشَّهَادَةُ مَبنِيَّةً عَلَى عِلمٍ وَبَيَانٍ ، وَأَنْ تَنشَأَ عَن ثِقَةٍ وَاطمِئنَانٍ ، قال ـ تعالى ـ : " إلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وهم يعلمون " وقال ـ عز وجل ـ حِكَايَةً عَن إِخوَةِ يُوسُفَ : " وما شَهِدْنَا إلا بما عَلِمْنَا " قال أهلُ العِلمِ : وَالأَصلُ أَن تَكونَ الشَّهَادَةُ عَن مُشَاهَدَةٍ وعيانٍ ، وأن يكونَ مُستَنَدُها أقوى أسبابِ العِلمِ ، فَمَا مِن شَأنِهِ أَن يُعَايِنَهُ الشَّاهِدُ ، كالقَتلِ وَالسَّرِقَةِ وَالغَصبِ ، والرَّضَاعِ والزِّنا ونحوِ ذلك ، فلا يَصِحُّ أَن يَشهَدَ بِهِ إلا بِالمُعَايَنَةِ وَالمُشَاهَدَةِ البَصَرِيَّةِ له . وما مِن شَأنِهِ أَن يُسمَعَ ، فَلا يَصِحُّ للشاهِدِ أن يَشهَدَ بِهِ إلا بِالسَّمَاعِ والمُعَايَنَةِ لِقَائِلِهِ ، كَعُقُودِ النِّكَاحِ وَالبُيُوعِ ، والإِيجَارَاتِ وَالطَّلاقِ وَنحوِهَا . ومِن تِلكَ المُنطَلَقَاتِ الآنِفَةِ : فَإِنَّ شَهَادَةَ الإِنسَانِ على ما لا يَعلمُهُ أَو شَهَادَتُهُ بخلافِ مَا يَعلَمُهُ ، جَرِيمةٌ عُظمَى وطَامَّةٌ كُبرى . وكيف لا تَكونُ كذلك ، وهي حَقِيقَةُ شَهَادةِ الزُّورِ ، الشَّهَادَةِ الكَاذِبَةِ ، التي ليس لها أَساسٌ مِنَ الصِّحَّةِ أيًّا كانت دَوَافِعُهَا وَمَهمَا كانت تَبرِيرَاتُهَا ؟! قال الحافظُ ابنُ حَجَرٍ ـ رحمه اللهُ ـ : وضَابِطُ الزُّورِ : وَصفُ الشَّيءِ على خِلافِ ما هو به . وقد يُضافُ إلى القَولِ فَيَشمَلُ الكَذِبَ وَالبَاطِلَ ، وَقَد يُضَافُ إلى الشَّهَادَةِ فَتُختَصُّ بِهِ . وقال بَعضُهُم : الزُّورُ هو الكَذِبُ الذي قد سُوِّي وحُسِّنَ في الظاهرِ لِيُحسَبَ أنه صِدقٌ .. انتهى كلامُهُ .
عِبادَ اللهِ : إِنَّ شَهَادَةَ الزُّورِ مِن أكبرِ الكبائرِ وأعظمِ الذُّنُوبِ • يَقولُ ـ جل وعلا ـ : " واجتَنِبُوا قَولَ الزُّورِ " وَرَوَى التِّرمذيُّ وغيرُهُ أَنَّ النبيَّ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ قام خطيبًا فقال : " أيها الناسُ ، عَدَلَت شَهَادَةُ الزُّورِ إِشرَاكًا بِاللهِ ، ثم قَرَأَ : " فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ " وفي الصحيحينِ أنَّ النبيَّ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ قال : " ألا أُنَبِّئُكُم بِأَكبرِ الكَبَائِرِ ثَلاثًا " قالوا : بلى يا رسولَ اللهِ . قال : " الإشراكُ بِاللهِ ، وعُقُوقُ الوَالِدَينِ " وَجَلَسَ وكان مُتَّكِئًا ، فقال : " ألا وَقَولُ الزُّورِ " قال : فمازال يُكَرِّرُها حتى قُلنا لَيتَه سَكَتَ . وفي الحديثِ عنهُ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ أنه قال : " لَن تَزولَ قَدَمُ شَاهِدِ الزُّورِ حتى يُوجِبَ اللهُ لَه النَّارَ " أخرجه الحاكمُ وقال : صحيحُ الإسنادِ . شَهَادَةُ الزُّورِ وَاضِحَةُ الأَضرَارِ سَيِّئَةُ الآثَارِ ، ولا غَروَ ولا عَجَبَ ، فَهِيَ تُحَوِّلُ الشَّهَادَةَ عَن وَظِيفَتِهَا إلى ضِدِّها ، فتكونُ سَنَدًا لِلباطِلِ بَدَلَ الحَقِّ ، وَعَونًا لِلجَورِ مَكَانَ العَدلِ ، وَسَبَبًا لِطَمسِ مَعَالمِ الإِنصافِ وَطَرِيقًا لِفَسادِ الأَحكامِ ، وَسَبيلا لِتَقوِيضِ الأَمنِ وهَدمِ الأَمَانِ ، فَاتَّقوا اللهَ ـ عِبادَ اللهِ ـ والتَمِسُوا سَبِيلَ المُتَّقِينَ وَطَرِيقَ المُؤمِنِينَ ، الذين قال اللهُ ـ جل وعلا ـ فِيهِم : " وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا " وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ ، وَلا تُفَرِّطُوا فِيها ولا تَتَهَاوَنُوا بِأمرِها ، ولاسِيَّمَا في الأمورِ التي تَثبُتُ في الذِّمَّةِ ، فإن اللهَ ـ تعالى ـ يقولُ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ " إلى أن قال : " وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ ، فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى ، وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ ، وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ " إلى أن قال : " وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ ، وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ، وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ " أَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ ، أَقِيمُوها للهِ وَحدَهُ ، لا تُحَابُوا فيها قَريبًا مِن أجلِ قَرَابَتِهِ ، ولا صَدِيقًا مِن أجلِ صَدَاقتِهِ ، ولا غَنِيًّا مِن أجلِ غِناهُ ، ولا فَقِيرًا مِن أجلِ فَقرِهِ ، ولا تُقِيمُوها على بَعيدٍ مِن أجلِ بُعدِهِ ، ولا على عَدُوٍّ مِن أجلِ عَدَاوَتِهِ ، ولا تَتركُوها عَلى رَئِيسٍ لأجلِ رِئَاستِهِ ، أَو مَدِيرٍ خَوفَ سُلطتِهِ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَِ للهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ، وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ "



الخطبة الثانية :

أمَّا بَعدُ فاتقوا اللهَ ـ تعالى ـ وأطيعوه ، وراقبوا أَمرَه ونهيَه ولا تعصوه ، واعلموا أَنَّ أَمرَ الشَّهَادَةِ عَظيمٌ وَشَأنَهَا جَسِيمٌ ، الشَّهَادَةُ عَظِيمَةٌ في تَحَمُّلِهَا ، جَسِيمَةٌ في أَدَائِهَا ، ولا يحِلُّ كِتمَانُهَا " وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ، وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ " ولا يحِلُّ لأَحَدٍ أَن يَشهَدَ إِلا أَن يكونَ عالمًا بما يَشهدُ به عِلمًا يَقِينِيًّا ، وأنه مُطَابِقٌ لِلوَاقِعِ تمامًا ، فلا يحِلُّ له أن يَشهَدَ بما لا يَعلَمُ ، ولا يحِلُّ له أَن يَشهَدَ بما يَعلَمُ أَنَّ الأَمرَ بخلافِهِ ، ولا يحِلُّ له أن يَشهَدَ بما يَغلِبُ على ظَنِّهِ ، حتى يَعلَمَه عِلمًا يَقِينيًّا كما يَعلَمُ الشَّمسَ ويراها.
أيها المسلمون ، وإنَّ مما يُؤسَفُ له أَنَّ النَّاسَ اليَومَ مَعَ الشَّهَادَةِ صَارُوا قِسمَينِ ، فَمِنهم مَن يَتَهَاوَنُ بِالشَّهَادَةِ وَيتلاعَبُ بها ، فَيَشهَدُ بِالظَّنِّ المجرَّدِ أو بما لا يَعلَمُ ، أو بما يَعلَمُ أَنَّ الوَاقِعَ خِلافُهُ ، ومِنهم مَن تَتَعَيَّنُ عَلَيهِ الشَّهَادَةُ إِظهَارًا لِلحَقِّ وَإِحقَاقًا له ، وَدَحرًا لِلبَاطِلِ وَدَفعًا له ، فَيَتَنَصَّلُ مِن هَذِهِ المسؤوليةِ العَظِيمَةِ ويَتَهَرَّبُ مِنهَا ، وَيكتُمُ الحَقَّ ولا يجرؤُ عَلَى إِظهَارِهِ ، ومِن بَينِ هَذِينِ الصِّنفِينِ ضَاعَت حُقُوقٌ كَثِيرةٌ ، وتمادى أُنَاسٌ لا يخافونَ اللهَ وتجرَّؤُوا على عِبادِ اللهِ ، وإِنما يدفعُ الناسَ إلى هَذِينِ الأَمرِينِ المُنكَرَينِ العَظِيمَينِ ، مُرَاعَاةُ القَرِيبِ أو التَّوَدُّدِ لِلصَّدِيقِ ، أو المحاباةُ لِغَنيٍّ أوِ العَطفِ على فقيرٍ ، أو خوفًا مِن رَئيسٍ أو مُديرٍ أو صاحبِ سُلطَةٍ أو سَلاطَةٍ ، ويَدَّعُونَ بِذَلِكَ أنهم يُرِيدُون الإِصلاحَ أو يخشونَ الفَسَادَ ، فَبَعضُهُم يَقولُ : لو لم أَشهَدْ لأبي لو لم أَشهَدْ لِعَمِّي ، لو لم أَشهَدْ لأخي لو لم أَشهَدْ لِصِهرِي ، لو لم أَشهَدْ لابنِ عَمِّي لو لم أَشهَدْ لِقَريبي ، لَغَضِبُوا عَلَيَّ وصار ذلك سببًا لِلقَطِيعَةِ ، وآخرون يَكتُمُونَ الشَّهَادَةَ ويَقولُون : هذا مُديرُنا ، وَذَاكَ رَئِيسُنا ، وفُلان صاحبُ سُلطةٍ ومَعروفٌ بِالجُرأةِ ، فكيف نَشهَدُ عليه ؟ ولو شَهِدنَا ضِدَّهُ لَفَعَلَ بِنَا وَلأَضَرَّ بنا ، ويُقالُ لمَن هَذَا شَأنُهُ : وَلْيَغضَبْ عَلَيكَ قريبُك ، وَلْيَغضَبْ مِنكَ مُدِيرُكَ ، وَلْيَغضَبْ عَليكَ أَهلُ الدنيا كُلِّها في مَرضاةِ اللهِ ، فَثِقْ كُلَّ الثِّقَةِ أَنَّكَ إِذَا أَرضَيتَ اللهَ بِسَخَطِ النَّاسِ ، فَإِنَّ اللهَ يَكفِيكَ مَؤُونَةَ الناسِ ويُرضِيهم عنك ، ولو أَنَّكَ أَغضَبتَ اللهَ بِرَضا الناسِ ، لَغَضِبَ اللهُ عَلَيكَ وَأَغضَبَ عَلَيكَ الناسَ ، ولانقَلَبَ رِضا الناسِ عَنكَ غَضَبًا ، فَاتقِ اللهَ في نَفسِكَ وَأَدِّ أَمَانَتَكَ ، وَلا تُداهِنْ أَحَدًا في حُقُوقِ اللهِ ـ عز وجل ـ وفِيمَا أَوجَبَ عليك ، حتى لو غَضِبَ عليك مَن في الأرضِ جميعًا ، واحذر مِن كِتمَانِ الشَّهَادَةِ وَإِضَاعَةِ حُقُوقِ الآخرِينَ بِسَبَبِكَ ، وَخذلانِهِم وَهُم لا نَاصِرَ لهم إلا شَهَادَتُكَ ، فَإِنَّهُ مَا مِن امرئٍ يَخذُلُ امرَأً مُسلِمًا في مَوضِعٍ تُنتَهَكُ فِيهِ حُرمَتُهُ وَيُنتَقَصُ فِيهِ مِن عِرضِهِ ، إِلا خَذَلَهُ اللهُ في مَوضعٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصرتَه ، وَمَا مِن امرِئٍ مُسلِمٍ يَنصُرُ مُسلِمًا في مَوضِعٍ يُنتَقَصُ فِيهِ مِن عِرضِهِ وَتُنتَهَكُ فِيهِ حُرمتُهُ ، إلا نَصَرَهُ اللهُ في مَوضِعٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصرَتَهُ . وفي البخاريِّ قال ـ صلى اللهُ عليه وسلم : " اُنصُرْ أَخَاكَ ظَالمًا أَو مَظلومًا " فقال رجلٌ : يَا رَسولَ اللهِ ، أَنصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظلومًا ، فَرَأَيتَ إِذَا كَانَ ظالمًا كَيفَ أَنصُرُهُ ؟ قَالَ : " تحجِزُهُ أَو تمنعُهُ مِنَ الظُّلمِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَصرُهُ "