شماتة الأعداء

هلال الهاجري
1445/02/28 - 2023/09/13 06:13AM

الحَمدُ للهِ العَظيمِ في قَدْرِهِ، العَزيزِ في قَهْرِهِ، العَليمِ بِحَالِ العَبدِ في سِرِّهِ وَجَهرِهِ، يَسمَعُ أَنينَ المَظلومِ عِندَ ضَعفِ صَبرِهِ، ويَجُودُ عَليهِ بِإعانَتِهِ وَنَصرِهِ، أَحمَدُهُ على القَدرِ خَيرِه وَشَرِّهِ، وَأَشكُرُهُ عَلى القَضَاءِ حُلوِهِ ومُرِّهِ، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، لَهُ الآياتُ البَاهِرَةُ، (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ)، وأَشهدُ أَنَّ نَبيَّنَا مُحمَدًا عَبدُهُ وَرَسولُهُ جَاهدَ في اللهِ حَقَّ جِهادِهِ طُولَ عُمُرِهِ، وَسَائرِ دَهرِهِ، صَلَّى اللهُ عَليهِ وعَلى آلِهِ وأَصحابِهِ مَا جَادَ السَّحابُ بِقَطرِهِ، وطَلَّ الرَّبيعُ بِزَهرِهِ، وَسَلَّمَ تَسليمًا كَثيرًا، أَمَّا بَعدُ:

فَاتقُوا اللهَ، واعلَموا أنَّهُ بالتَّقوى تُدفَعُ البَلايَا، وتُرفَعُ الرَّزَايَا، (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)

لَمَّا كَانَ مُوسى عَليهِ السَّلامُ في مِيقَاتِ رَبِّهِ، أَ خبَرَهُ اللهُ تَعَالى بِمَا حَدَثَ بَعدَهُ فِي بَني إِسرَائيلَ، مِنَ الفِتنةِ وعِبَادَتِهم للعِجلِ الذي عَمِلَهُ لَهم السَّامِرِيُّ، (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، وَتَأَمَلوا في قَولِ هَارونَ عَليهِ السَّلامُ: (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ)، لِتَعلَمَ عَظيمَ أَثَرِ شَمَاتةِ الأعدَاءِ، حَتى في قُلوبِ ومَشَاعرِ الأنبياءِ، ولِذَلكَ استَعَاذَ مِنهَا إمَامُ الأتقِياءِ، وَأوصى أُمتَّهُ بِهَذا الدُّعاءِ، فَقَالَ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَهْدِ الْبَلاءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَماتَةِ الأَعْدَاءِ).

فالشَّمَاتةُ لا تَصدُرُ إلا مِنْ شَخصٍ حَاسِدٍ، ولا تَكونُ إلا فِي قَلبٍ حَاقِدٍ، ومِن أَعظَمِ المَصائبِ أن تُبتَلى بِمنْ يَتَرَقَّبُ زَلَّتَكَ، ويَنتَظِرُ سَقطَتَكَ، لِيُظهِرَ شَمَاتَتَهُ، ويُبدي عَدَاوتَهُ، حَتَى قَالَ عبدُ اللَّهِ بنُ أبي عُيَينةَ:

كلُّ المَصَائِبِ قَد تَمُرُّ عَلَى الفَتَى *** فَتَهُونُ غَيرَ شَمَاتةِ الحُسَّادِ
إنَّ المصائِبَ تَنقَضِي أَيَّامُها *** وشَمَاتةُ الأَعدَاءِ بِالمِرصَادِ

الشَّمَاتةُ صِفةٌ مِن صِفاتِ المُنَافقينَ، الذينَ يَفرَحونَ بِمُصابِ المؤمنينَ، كَمَا قَالَ تَعالى: (إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا)، وحَيثُ أَنَّ الشَّمَاتةَ مِن أَعظَمِ البَلوى، فَقَد أوصَانا اللهُ مَعَها بِالصَّبرِ والتَّقوى، فَقَالَ: (وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)، فَمَنْ شَمَتَ شُمِتَ بِهِ، ومَن عَابَ عِيبَ عَليهِ، ومَن اِستَهزأ اسْتُهْزِئَ بِهِ، (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ).

الشَّمَاتةُ خُلُقٌ ذَميمٌ، صَاحِبُهُ لَئيمٌ، وَقَدْ قِيلَ فِي أَمثَالِ العَربِ: الشَّمَاتةُ لُؤمٌ، وَصَدَقوا واللهِ فَهِيَ عَلى صَاحِبِها شُؤمٌ، ولِذلِكَ تَرجِعُ مَغَبَّةُ شَمَاتَتِهِ عَليهِ، ويُوشِكُ أَن يَنقَلبَ الدَّهرُ عَليهِ، كَمَا في الأثَرِ: (لَا تُظْهِرِ ‌الشَّمَاتَةَ لِأَخِيكَ فَيَرْحَمَهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيَكَ)، وَلمَّا رَكَبَ ابنَ سِيرينَ الدَّيْنُ وحُبسَ بِهِ، قَالَ: (إنِّي أَعرِفُ الذَّنبَ الَّذِي أَصَابَني هَذا، عيَّرتُ رَجُلاً مُنذُ أَربعينَ سَنةً، فَقُلتُ لَهُ: يَا مُفلِسُ).

فَقُلْ لِلشَّامِتينَ بِنَا أَفيقُوا *** سَيَلقَى الشَّامِتونَ كَمَا لَقِينَا

كَيفَ يَشمِتُ مَن يَعلَمُ أنَّ الأيَامَ دُولٌ، فَكَم مِن غَنيٍّ افتَقرَ، وكَمْ مِن فَقيرٍ اغتَنى، وَكَم مِن عَزيزٍ ذَلَّ، وكَمْ مِن ذَليلٍ عَزَّ، وَكَم مِن مَعافىً اُبتُليَ، وَكمْ مِن مُبتلىً عُوفيَ، وقَد جَرَت سُنَّةُ اللهِ التي لا تَتَبَدلُ ولا تَتَحوَّلُ أنَّ الشَّمَاتةَ تَعقِبُها النَّدَامةُ، ولَيسَ لِصَاحِبِها سَلامةٌ، يَقُولُ إبراهيمُ النَّخَعيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (إنِّي لأَرَى الشَّيءَ أَكرَههُ، فَمَا يَمنعُنِي أَنْ أَتَكلَّمَ فِيهِ إلَا مَخَافةَ أَنْ أُبتَلَى بِمثلِهِ)، وَصَدَقَ القَائلُ:

وَمَنْ يَرَ بِالأَقْوَام يَوْمًا يَرَوا بِهِ *** مَعَرَّةَ يَومٍ لا تُوَارَى كَوَاكِبُهْ

فَقلْ لِلَّذِي يُبْدِي ‌الشَّمَاتَةَ جَاهِلًا *** سَيَأتِيكَ كَأسٌ أَنتَ لا بُدَّ شَارِبُهْ

بَارَكَ اللهُ لي ولَكمْ في القُرآنِ، ونَفَعَنا بِمَا فِيهِ من الآياتِ والهُدى والفُرقَانِ، أَقولُ هَذا القَولَ، وأَستغفرُ اللهَ لي ولَكم ولِسَائرِ المسلمينَ مِنْ كُلِّ ذَنبٍ فَاستغفِروهُ، إنَّهُ هو الغَفورُ الرَّحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحَمدُ للهِ الكَبيرِ المُتَعالِ، أَحمَدُهُ عَلى جَزيلِ النَّوالِ، وأَشكُرُهُ على كَريمِ الإفضَالِ، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَقدَّسَ عَنِ الأَندادِ والأَمثَالِ، وأَشهدُ أَنَّ نَبيَّنا مُحمَّدًا عَبدُهُ وَرَسولُهُ، كَريمُ الخِصالِ، وشَريفُ الخِلالِ، صَلَّى اللهُ عَليهِ وعَلى آلِهِ وَأَصحَابِهِ خَيرِ صَحبٍ، وَأَكرمِ آلٍ، أَمَا بَعدُ:

أَيُّها الأحبَّةُ .. إنَّ مِن أَعظَمِ الشَّماتةِ التي تَشيبُ مِنهَا رؤوسُ العُقلاءِ، هُو شَماتةُ المُسلمِ بإخوانِهِ عِندَ وُقوعِ البَلاءِ، فَأَينَ هَذَ مِن قَولِ اللهِ تَعَالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، وَرَحِمَ اللهُ الخَليفةَ المَهديَّ حَيثُ كَانَ لا يَتَصوَّرُ أن تَكونَ شَمَاتةُ الأعدَاءِ إلا مِنَ الكُّفارِ، قَالَ الْحَسَنُ الْوَصِيفُ: أَصَابَتْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ أَيَّامَ الْمَهْدِيِّ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا تَسُوقُنَا إِلَى الْمَحْشَرِ، فَخَرَجْتُ أَطْلُبُ الْمَهْدِيَّ، فَوَجَدْتُهُ وَاضِعًا خَدَّهُ عَلَى الْأَرْضِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ احْفَظْ مُحَمَّدًا فِي أُمَّتِهِ، اللَّهُمَّ لَا تُشْمِتْ بِنَا أَعْدَاءَنَا مِنَ الْأُمَمِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ أَخَذْتَ هَذَا الْعَالَمَ بِذَنْبِي، فَهَذِهِ نَاصِيَتِي بَيْنَ يَدَيْك، قَالَ: فَمَا لَبِثْنَا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى انْكَشَفَتِ الرِّيحُ، وَزَالَ عَنَّا مَا كُنَّا فِيهِ.

كَيفَ لِمُسلِمٍ أَن يَشمُتَ بِأخيهِ في بَلاءٍ، كَانَ يَستوجِبُ مِنهُ أَلمَ ومُعَاناةَ الجَسدِ الواحدِ، كَمَا في الحَديثِ: (مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى له سَائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى)، ذَلِكَ البَلاءُ الذي يَنبَغي أن يَستَثيرَ مِنَّا الحُزنَ والدُّعاءَ، وتَقديمَ مَا نَستَطيعُ مِن مَعونةٍ وغِذاءٍ، بَلْ ونُدَافِعَ عَنهم إذا شَمَتَ الأعداءُ.

أَتَشْمَتُ بِالْمُؤْمِنِ الْمُسْلِمِ *** فَترْجِعَ بِالْخِزْيِ وَالْمَأْثَمِ

وَيرْحَمَهُ اللهُ سُبْحانهُ *** وَتُبْلى بِذاك وَلَمْ تُرْحَمِ

اللهمَّ إنَّا نَعوذُ بِكَ مِن زَوالِ نِعمَتِكَ، ومِن تَحوِّلِ عَافيتِكَ، ومِن فُجَاءةِ نِقمَتِكَ، ونَعوذُ بِكَ اللهمَّ مِن جَميِع سَخَطِكَ، اللهمَّ إنَّا نَعوذُ بِكَ مِن جَهدِ البَلاءِ، ودَركِ الشَّقاءِ، وسُوءِ القَضاءِ، وشَماتةِ الأعداءِ، اللهمَّ اجعل أَهلَنا في المَغربِ وليبيا وَسائرِ بِلادِ المُسلمينَ في ضَمانِكَ وأَمانِكَ وإحسَانِكَ يَا أَرحمَ الرَّاحمينَ، اللهمَّ ‌لا ‌تُشمِتْ بِهم أَحَدًا، ولا تَجعَلْ لِعَدوٍّ عَليهِم يَدًا، اللهمَّ اشفِ مَرضَاهم، وَعَافِ مُبتلاهم، واشفِ مَرضَاهُم، وارحمْ مَوتَاهم، واكتُبْ لَهم شَهادةَ الهَدمِ والغَرقِ يا ربَّ العَالمينَ، اللهم عُمَّ بالأمنِ والرَّخاءِ والاستقرارِ جميعَ أَوطانِ المسلمينَ يَا أرحمَ الراحمينَ، اللهمَّ أَدِمْ عَلى بِلادِ الحَرمينَ الشَّريفينِ أَمنَها وَرَخاءَها، وعِزَّها واستقرَارَها، ووفِّق قادتَها لما فِيهِ عِزُّ الإسلامِ وصَلاحُ المسلمينَ يَا رَبَّ العَالمينَ، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

المرفقات

1694574759_شماتة الأعداء.docx

1694574771_شماتة الأعداء.pdf

المشاهدات 2012 | التعليقات 0