شُكْرُ نُزُولِ الغَيْث

الشيخ عبدالعزيز الراجحي
1447/06/27 - 2025/12/18 11:49AM

الخطبة الأولى

الحمدُ للهِ الَّذي يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا، وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ، وَهُوَ الوَلِيُّ الحَمِيدُ، أَحْمَدُهُ سُبْحانَهُ وَأَشْكُرُهُ وَأَسْأَلُهُ المَزِيدَ مِنْ فَضْلِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، سَخَّرَ لِعِبادِهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرْضِ، وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنا وَنَبِيَّنا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَبارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ وَسارَ عَلَى نَهْجِهِمْ وَطَرِيقِهِمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. أَمَّا بَعْدُ:

أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَتَدَبَّرُوا وَتَأَمَّلُوا قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾ تَدَبَّرُوا هذِهِ الآيَةَ الكَرِيمَةَ، تَرَوْنَها مُطابِقَةً لِحالِنا؛ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُنَزِّلُ الغَيْثَ ـ وَهُوَ المَطَرُ ـ مِنْ بَعْدِ إِياسِ النَّاسِ مِنْ نُزُولِهِ، يُنَزِّلُهُ عَلَيْهِمْ فِي وَقْتِ حاجَتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ إِلَيْهِ، وَذلِكَ أَدْعَى لَهُمْ إِلَى الشُّكْرِ. ﴿وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ﴾ أَيْ: يَعُمُّ بِها الوُجُودَ عَلَى أَهْلِ ذلِكَ القُطْرِ والنَّاحِيَةِ. قالَ عُمَرُ رضيَ اللهُ عنهُ: «مُطِرْتُمْ»، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾. أَيْ: هُوَ المُتَصَرِّفُ لِخَلْقِهِ بِما يَنْفَعُهُمْ فِي دُنْياهُمْ وَأُخْراهُمْ، وَهُوَ المَحْمُودُ العاقِبَةِ فِي جَمِيعِ ما يُقَدِّرُهُ وَيَفْعَلُهُ.

وَاللهُ تَعَالَى يَذْكُرُ نِعَمَهُ عَلَى خَلْقِهِ فِي إِرْسالِهِ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ بِمَجِيءِ الغَيْثِ عَقِبَها، كَما قالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ تَذْكِيرٌ مِنَ اللهِ جَلَّ وَعَلَا لِخَلْقِهِ فِي إِرْسالِهِ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ بِمَجِيءِ الغَيْثِ عَقِبَها، وَلِهذَا قالَ تَعَالَى: ﴿وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ أَيِ: المَطَرَ الَّذِي يُنَزِّلُهُ، فَيَحْيَا بِهِ العِبادُ وَالبِلادُ، ﴿وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ﴾ أَيْ: فِي البَحْرِ حَيْثُ سَيَّرَها بِالرِّيحِ، ﴿وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ أَيْ فِي التِّجارَاتِ وَالمَعايِشِ، وَالسَّيْرِ مِنْ إِقْلِيمٍ إِلَى إِقْلِيمٍ، وَمِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ،
﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ اللهَ عَلَى ما أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنَ النِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالباطِنَةِ الَّتِي لا تُعَدُّ وَلا تُحْصَى. وقالَ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى عِبادِهِ بِإِنْزالِ المَطَرِ بَعْدَ قُنُوطِهِمْ وَعِنْدَ شِدَّةِ حاجَتِهِمْ إِلَى نُزُولِهِ:
﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ۝ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ۝ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ يُبَيِّنُ تَعَالَى كَيْفَ يَخْلُقُ السَّحَابَ الَّذِي يَنْزِلُ مِنْهُ الْمَاءُ، وَأَنَّهُ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا مِنَ الْبَحْرِ أَوْ مِمَّا يَشَاءُ اللهُ، فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ؛ أَيْ يَمُدُّهُ فَيُكَثِّرُهُ وَيُنَمِّيهِ، وَيَجْعَلُ مِنَ الْقَلِيلِ كَثِيرًا، يُنْشِئُ سَحَابَةً تُرَى فِي رَأْيِ الْعَيْنِ مِثْلَ التُّرْسِ، ثُمَّ يَبْسُطُهَا حَتَّى تَمْلَأَ أَرْجَاءَ الْأُفُقِ، ﴿وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا﴾: قِطَعًا مُتَرَاكِمًا أَسْوَدَ مِنْ كَثْرَةِ الْمَاءِ، تَرَاهُ مُدْلَهِمًّا ثَقِيلًا قَرِيبًا مِنَ الْأَرْضِ ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ﴾  أَيْ: فَتَرَى الْمَطَرَ -وَهُوَ الْقَطْرُ- يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ ذَلِكَ السَّحَابِ ﴿فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ أَيْ: يَفْرَحُونَ بِنُزُولِهِ عَلَيْهِمْ وَوُصُولِهِ إِلَيْهِمْ لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ. وَقَدْ كَانُوا قَبْلَ نُزُولِ الْمَطَرِ عَلَيْهِمْ قَانِطِينَ آيِسِينَ، فَلَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِمْ جَاءَهُمْ عَلَى فَاقَةٍ، فَوَقَعَ مِنْهُمْ مَوْقِعًا عَظِيمًا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ﴾.

فَانْظُرْ ـ أَيُّهَا الْعَبْدُ ـ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللهِ، وَهُوَ هَذَا الْمَطَرُ، كَيْفَ يُحْيِي اللهُ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا؛ إِنَّ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى، بِإِعَادَةِ الْأَرْوَاحِ إِلَى الْأَجْسَادِ بَعْدَ تَفَرُّقِهَا وَتَمَزُّقِهَا، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ﴾ يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ يَسُوقُ السَّحَابَ بِقُدْرَتِهِ أَوَّلَ مَا يُنْشِئُهَا وَهِيَ ضَعِيفَةٌ فِي الْأَرْجَاءِ ﴿ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ﴾ يَجْمَعُهُ بَعْدَ تَفَرُّقِهِ ﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا﴾ مُتَرَاكِمًا، يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ﴾ وَهُوَ الْمَطَرُ ﴿يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ﴾ أَيْ مِنْ خَلَلِهِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾ مَعْنَاهُ: أَنَّ فِي السَّمَاءِ جِبَالَ بَرَدٍ يُنَزِّلُ اللهُ مِنْهَا الْبَرَدَ، فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ، ﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ﴾ أَيْ: يَكَادُ ضَوْءُ بَرْقِهِ مِنْ شِدَّتِهِ يَخْطَفُ الْأَبْصَارَ إِذَا انْبَعَثَ وَتَرَاءَى.

وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۝ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ، فَتَلْحَمُ السَّحَابَ الثِّقَالَ مِنْ كَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَاءِ، فَيَسُوقُهُ إِلَى الْبَلَدِ الْمَيِّتِ، وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُجْدِبَةُ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا، فَيُنْزِلُ بِهِ الْمَاءَ، فَيُخْرِجُ بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، وَكَمَا أَحْيَا هَذِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، فَإِنَّهُ يُحْيِي الْأَجْسَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ رَمِيمًا.

وَالْأَرْضُ الطَّيِّبَةُ يَخْرُجُ نَبَاتُهَا بِإِذْنِ رَبِّهَا، وَأَمَّا السَّبِخَةُ فَإِنَّهَا لَا تُخْرِجُ إِلَّا نَكِدًا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ فِي الْآيَةِ قَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي مُوسَى رضيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْهُدَى، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ، أَصَابَ أَرْضًا؛ فَكَانَتْ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً؛ فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ أَنَسٍ  رضيَ اللهُ عنهُ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَتِ الْأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللهَ أَنْ يُغِيثَنَا. فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَرَفَعَ النَّاسُ أَيْدِيَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا. قَالَ أَنَسٌ: فَلَا وَاللهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلَا قَزَعَةٍ، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلَا دَارٍ. قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلَ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ. قَالَ: فَلَا وَاللهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سَبْتًا. ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ، وَرَسُولُ اللهِ ﷺ قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَتِ الْأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللهَ أَنْ يُمْسِكَهَا عَنَّا. قَالَ: فَرَفَعَ النَّبِيُّ ﷺ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالظِّرَابِ، وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ» قَالَ: فَانْقَلَعَتْ، وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

اللَّهُمَّ اجعلْنا عندَ النَّعْماءِ منَ الشَّاكِرِينَ، وعندَ البلاءِ منَ الصَّابِرِينَ، وعندَ الغَفْلَةِ والزَّلَّةِ منَ المُسْتَغْفِرِينَ التَّائِبِينَ، وباركَ اللهُ لي ولكم في القُرآنِ العَظيمِ، واستغفِروا اللهَ؛ إنَّهُ هو الغفورُ الرَّحيمُ.

 

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ المُتَفَضِّلِ على عبادِهِ بجزيلِ النِّعَمِ، أحمدُهُ سبحانهُ وأشكرُهُ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، يَجزي الشَّكورَ بالزِّيادةِ ويصرِفُ عنهُ السُّوءَ والنِّقَمَ، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ، وصَفِيُّهُ وخليلُهُ من خلقِهِ، قُدوةُ عبادِ اللهِ في عبادةِ الرَّبِّ جلَّ وعلا بإحسانِ القولِ والاستقامةِ في العملِ، صلَّى اللهُ وباركَ عليهِ، وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وأتباعِهِ في هذه الدُّنيا قبلَ حلولِ الأجلِ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا. أَمَّا بَعْدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَاشْكُرُوا نِعَمَ اللهِ عَلَيْكُمْ عُمُومًا، وَنِعْمَتَهُ بِإِنْزَالِ الْغَيْثِ خُصُوصًا، وَلْيَكُنْ حَظُّكُمْ مِنْ هَذَا الرِّزْقِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْكُمْ وَسَاقَهُ إِلَيْكُمُ الِاعْتِرَافَ بِهِ لِلَّهِ، وَنِسْبَتَهُ إِلَيْهِ، وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِ عَلَى مَرْضَاةِ اللهِ وَطَاعَتِهِ، وَاحْذَرُوا أَنْ تَنْسِبُوا الْمَطَرَ إِلَى الْأَنْوَاءِ وَالنُّجُومِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ التَّكْذِيبِ وَالْكُفْرِ، وَمِنْ خِصَالِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنْ عَلِيٍّ رضيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ﴾ يَقُولُ: شُكْرَكُمْ، ﴿أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ يَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، وَبِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا. وَهَذَا أَوْلَى مَا فُسِّرَتْ بِهِ الْآيَةُ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ؛ فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكُمْ لِلَّهِ عَلَى مَا أَنْزَلَ إِلَيْكُمْ مِنَ الْغَيْثِ وَالْمَطَرِ وَالرَّحْمَةِ أَنْ تَكْذِبُوا؛ أَيْ: تَنْسِبُوهُ إِلَى غَيْرِهِ.  وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: «أَيْ تَجْعَلُونَ حَظَّكُمْ وَنَصِيبَكُمْ مِنَ الْقُرْآنِ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ». قَالَ: «وَخَسِرَ عَبْدٌ لَا يَكُونُ حَظُّهُ مِنْ كِتَابِ اللهِ إِلَّا التَّكْذِيبَ بِهِ» وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رضيَ اللهُ عنهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ: الْفَخْرُ بِالْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ، وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ: هُوَ نِسْبَةُ السُّقْيَا وَمَجِيءِ الْمَطَرِ إِلَى النُّجُومِ وَالْأَنْوَاءِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي خَافَهُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى أُمَّتِهِ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ، قَالَ: «أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي ثَلَاثًا: اسْتِسْقَاءً بِالنُّجُومِ، وَحَيْفَ السُّلْطَانِ، وَتَكْذِيبًا بِالْقَدَرِ».

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضيَ اللهُ عنهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ اللَّيْلَةَ؟» قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ؛ فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَاكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُضِيفَ أَفْعَالَ اللهِ تَعَالَى إِلَى غَيْرِهِ، وَلَوْ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ؛ فَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّ لِلنَّوْءِ تَأْثِيرًا فِي إِنْزَالِ الْمَطَرِ فَهُوَ كُفْرٌ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَكَ فِي الرُّبُوبِيَّةِ، وَالْمُشْرِكُ كَافِرٌ. وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ، بَلْ نَسَبَهُ إِلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ سَبَبٌ، فَهُوَ مِنَ الشِّرْكِ الْأَصْغَرِ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَ نِعْمَةَ اللهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلِ النَّوْءَ سَبَبًا لِإِنْزَالِ الْمَطَرِ، وَإِنَّمَا هُوَ فَضْلٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ، يَحْبِسُهُ إِذَا شَاءَ، وَيُنَزِّلُهُ إِذَا شَاءَ. وَفِي ذَلِكَ التَّفَطُّنُ لِلْإِيمَانِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَأَنَّ نِعَمَ اللهِ لَا يَجُوزُ أَنْ تُضَافَ إِلَّا إِلَيْهِ وَحْدَهُ، وَهُوَ الَّذِي يُحْمَدُ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ التَّوْحِيدِ. فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ واعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ. وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ. وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا. وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وعَلَيْكُم بِجَمَاعَةِ المُسْلِمِيْن، فإِنَّ يَدَ اللهِ مع الجَمَاعَةِ، ومَنْ شَذَّ شَذَّ فِيْ النَّار.

المرفقات

1766047784_شُكْرُ نُزُولِ الغَيْث.docx

1766047785_شُكْرُ نُزُولِ الغَيْث.pdf

المشاهدات 372 | التعليقات 0