(شكر العلي الأعلى على نعم تترى)
سطام بن محمد النجمي
1436/04/10 - 2015/01/30 20:24PM
(شكر العلي الأعلى على نعم تترى)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الكبيرِ المُتعال، صاحبِ العطايا والكرم والإفضال، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، شَهَادَةً أدَّخرها ليومٍ تزولُ فيه الجبال، ويذوق المجرمون فيه الذلَّ والوبال، ويتحلَّى المُتقون بأتَمِّ النَّعيمِ وأبهى الجمال، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَسَيِّدُ الْخلقِ بلا جِدال، أوْضَح ما تحتاجه الأُمَّةُ في الحاضر والمآل، فمَنْ ضلَّ عن سنَّته فقد وقع في الحيرة والضلال، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى أصْحابه وتابعيهم والآل، وَسَلَّمَ تسْليمًا كثيرًا مزيدًا إلى الْيومِ الذي تُعرضُ فيه الأعمال. أما بعد: فاتقوا الله -أيها المسلمون- واعلموا أن مِن أعظم وأجلِّ الطاعات والقربات أن يتذكَّرَ المسلمُ ما أنعم الله به عليه، في بدنِه ودينه ودُنْياه. فما أعظم أنْ تستحضر -أيُّها المسلم- وتتذكرَ على الدوام، نعمَ الله عليك في بدنِك وأولادِك ودينِك قال بعضُ السلف: "ذِكْرُ النِّعمة يورث الحب لله -عزَّ وجلَّ وقال الحسن -رحمه الله-: "أكثروا ذكرَ هذه النِّعَم، فإن ذكرَها شكرُها" عباد الله: إن الكثير من الناس في مجالسهم، يتجاهلون ذكرَ نعم الله عليهم، وما منَّ به عليهم من الصحة والعافية والهداية، ولا يتذكرون سوى النقص والتذمر وهذا لا يليق مع الرب المنْعمِ المتفضِّلِ عليهم ونِعَمُ الله كثيرةٌ عظيمة، وما خَفِيَ منها أكثرُ وأعظم، والكثيرُ من الناس، يستحضر نِعْمةَ المأكلِ والمشربِ والمسكنِ فقط، ولم يعلم أن هذه من أقلِّ ما أنعم الله به عليه، وهي نعمٌ أعطاها الله حتى الكفار والمشركين قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "من لم يعرف نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه، فقد قلَّ علمه، وحَضَرَ عذابه" فوالله لو وضعت أعمالك كلها في كفة ونعمة البصر في كفة لرجحت نعمة البصر على كل أعمالك فسل الله العافية ولا تتكبر وأد شكر النعمة بالشكر باللسان والصدقة قبل فوات الأوان بَـزَقَ النبي صلى الله عليه وسلم يوماً في كَـفِّـه فوضع عليها إصبعه ، ثم قال : قال الله : ابن آدم أنّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه ؟ حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد ، فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ ، حتى إذا بلغت التراقي قلتَ : أتصدق ! وأنّى أوَان الصَّدَقـة . رواه الإمام أحمد -أيها المسلم- كم من النعم العظيمة الجليلة، التي تتمتع وتتقلَّب بها، وأنت لا تتذكَّرها ولا تستحضرها، أليس سترُ الله عليك، وعدمُ كشف معايبك وذنوبك؛ نعمةً لا تُقدَّر بثمن؟! ماذا عن نعمة الله عليك في سلامةِ عرضك وأهلك، ألست مُعافى من الوسوسة المميتة القاتلة، ألست مُعافى في بدنك، عندك قوتُ يومك، آمنًا في بيتك وأهلك، ألست تتمتع بالنظر والسمع والعقل؟! يا مَن تشتكي قلَّة المال، وكثرةَ الديون، حتى أنْستك كلَّ نعمةٍ تتقلب بها، أتحبُّ أنْ تُعطى الأموال، وتُسلبَ نعمةً واحدةً من هذه النعم، فكيف تجحد وتنسى ما أنت فيه من النعم العظيمة، وتشكو حِرمان أموالٍ تافهةٍ قليلة ولكن صدق الله تعالى: (إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) [العاديات: 6]، قال الحسن -رحمه الله-: "الكنودُ هو الذي يَعُدُّ المصائب، وينسى نعم الله عليه"
يـا أيُّها الظـالم في فعله *** والظلم مردودٌ على من ظلم
إلى متى أنـت وحتى متى *** تشكو المصيبات وتنسى النعم
جاء رجلٌ إلى أحد السلف الصالحين، يشكو إليه الحاجة وقلَّة المال، فقال له: أتُحبُّ أنَّ لك ببصرك هذا الذي تُبصِرُ به مائةَ ألف درهم؟! قال الرجل: لا، قال: فبيدك مائة ألف درهم؟! قال: لا، قال: فبِرِجْلِكْ؟! قال: لا، قال: فذكَّره نِعَمَ الله عليه، فقال له: "أرى عندك مئينَ ألوفٍ، وأنت تشكو الفقرَ والحاجة" قال وهب بن مُنَبِّهٍ -رحمه الله-: "مكتوبٌ في حكمة آل داود: العافيةُ: الْمُلْك الخفيُّ" وقد قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ". رواه البخاري أي إن الصِّحَّةَ وَالْفَرَاغ، كثيرٌ من الناس مغبونٌ فيهما، يندم ويتحسَّرُ صاحبُهما يوم القيامة، لعدمِ استغلاله لهما بما ينفعه ويُفيده أيها الْمُسْلم: وإنَّ نِعْمَةَ الله عليك في دينك، وسلامةِ عقيدتك، لهي أعظمُ نعمة، وأفضلُ منَّة، وهي التي يجب عليك شكرُها على الدوام. فإنَّ أكثر مَن في الأرض عقائدُهم باطلةٌ منحرفة قال بعض السلف: "كُنْ لِنِعْمة الله عليك في دينك، أشْكَرُ منك لنعمةِ الله عليك في دُنْياك" كمْ في الأرض مِنْ أُناسٍ يعبدون البقر والحجر، ومَنْ يعبدون الأولياء والأضرحة، ويقدمون النذور للقبور, فاحمد الله أن وفقك لعبادته وحده لا شريك له لو أنَّ رجلاً أكرمك وأسكنك في بيته، وأطعمك من أطيب طعامه، وفرش لك أحسن فراشٍ ولِحاف، هل يليق بك أن تُفسد مُمْتَلَكاتِه؟! وتؤذيَ أهلَه وأبناءَه؟! وهو يُشاهدك ويراك؟! لا والله لا يليق ذلك أبدًا مرَّ أحدُ السلف الصالح بشابٍّ يُراود امرأةً عن نفسها، فقال له: "يا بني: ما هذا جزاء نعمة الله -عز وجل- عليك؟!" واعلم أخي علمَ اليقين أن النعم إذا شُكرت قرَّت وزادت، وإذا كُفِرَتْ فرت وزالت، قال تعالى )وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (إبراهيم: 7]، فمتى أردت دوامَ النعمِ وزيادتَها فالْزم الشكر، وبدونه لا تدوم ولا تَهْنأُ لَكَ نِعْمَة وإذا كنت – وأعلم يا عبْد الله-أنك إن كنت تتقلَّب بنعم الله بأمانٍ واطْمئنان، وأنت مُصِرٌّ على الذنوب والعصيان، فهذا اسْتدراجٌ ومكرٌ بك والعياذُ بالله قال سفيان الثوريُّ -رحمه الله- في قول تعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ [الأعراف: 182]، قال: "نُسْبغ عليهم النِّعَم، ونمنعهم الشكر". وقال غيرُه: "كلما أحدثوا ذنبًا، أُحْدِثَتْ لهم نعمة" وقال الحسن -رحمه الله-: "إن الله لَيُمَتِّعُ بالنعمة مَنْ شاء، فإذا لم يُشْكَر قَلَبَها على صاحبِها عذابًا" وأما إذا كنت شاكرًا لله على نِعَمِه، وسخَّرت جوارحك في طاعته، فهذه كرامةٌ ومنحةٌ ربَّانية، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "أعظم الكرامة لزومُ الاستقامة" وسترى المزيد والتوفيق بإذن الله تعالى قال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "من عرف نعمة الله بقلبه، وحمده بلسانه، لم يستتم ذلك حتى يرى الزيادة؛ لقول الله -عز وجل-: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) وقال ابن القيم -رحمه الله-: "الشكر معه المزيد أبدًا، فمتى لم تر حالك في مزيد، فاستقبل الشكر" أي إنك حينما لا ترى زيادةً في رزقك، وبركةً في أهلك ومالك وحالك، وانْشراحًا في صدرك، فإنما هو بسبب تقصيرك في شكر الله، فاسْتقبل الشكر الحقيقيَّ الصادق، الذي يكون معه العمل والإخلاص، والطاعةُ والإيمان، وتركُ الشِّكايةِ والتَّسخُّط فالشكر الحقيقي: أن لا يُستعان بشيء من نعمه على معاصيه، كما قاله السلف الصالح، فالنَّظَرُ نعمة، فلا تستعن بها على المعصية، والمال نعمة، فلا تستعن به على المعصية نسأل الله تعالى، أن يُلْهمنا شُكرَ نِعْمِه، وأن يعيذنا من كفرانها، إنَّه سميع قريبٌ مجيب أقول قولي هذا واستغفر الله إنه غفور بر رحيم .
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يُعطي العطاء الجزيل، ويرضى من عباده بالشكر القليل، وأشهد أن محمدًا عبده ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين أما بعد:- عباد الله لقد أثنى الله على أوَّل رسولٍ بعثه إلى أهل الأرض بالشكر فقال: ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [الإسراء:2]، وأمر عبدَه موسى أن يتلقَّى ما آتاه من النبوة والرسالة والتكليم بالشكر فقال عز وجل: يٰمُوسَىٰ إِنْى ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَـٰلَـٰتِي وَبِكَلَـٰمِي فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ وَكُنْ مّنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ [الأعراف:144]، وأثنى على خليله إبراهيم بشكر نعمه: إِنَّ إِبْرٰهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَـٰنِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لأنْعُمِهِ [النحل:120، 121]، وأمر الله به داود فقال: ٱعْمَلُواْ ءالَ دَاوُودَ شُكْرًا [سبأ:12]، ودعا سليمان عليه السلام ربَّه أن يكون من الشاكرين: رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَىٰ وٰلِدَىَّ [الأحقاف:15]، وأمر الله رسوله محمدًا بالشكر فقال: بَلِ ٱللَّهَ فَٱعْبُدْ وَكُن مّنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ [الزمر:66]، وأمر الله لقمانَ بالشكر فقال: وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَةَ أَنِ ٱشْكُرْ للَّهِ [لقمان:12]، وأوَّلُ وصية وصَّى بها ربُّنا الإنسانَ [هي الوصية] بالشكر له وللوالدين فقال: أَنِ ٱشْكُرْ لِى وَلِوٰلِدَيْكَ إِلَىَّ ٱلْمَصِيرُ [لقمان:14]. يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (النعمة موصولةٌ بالشكر، والشكر يتعلّق بالمزيد، ولا ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر) ولما تنكَّر قومُ سبأ لنعم الله وجحدوها وقابلوها بالعصيان سلبها الله منهم، وأذاقهم ألوانًا من العذاب، فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ وَبَدَّلْنَـٰهُمْ بِجَنَّـٰتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَـٰهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ ٱلْكَفُورَ [سبأ:16، 17]. وأصحاب الجنة في سورة القلم قابلوا نعمةَ الله بالنكران وحرمان المساكين، فطاف على ثمرهم طائف، فأصبحت زروعهم هباءً منثورا كالليل البهيم، يقول الفضيل بن عياض رحمه الله: "عليكم بملازمة الشكر على النعم، فقلَّ نعمةٌ زالت عن قوم فعادت إليهم". والشاكرون لنعم الله قِلّة في الخلق، قال تعالى: وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ٱلشَّكُورُ [سبأ:12])أخرج الترمذيُّ وصححه الألبانيُّ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ أوَّلَ ما يُسْألُ العبدُ عنه يومَ القيامةِ مِن النَّعِيْم، أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ، وَنُرْوِيَكَ مِنَ الْمَاءِ البَارِدِ؟!" فالله تعالى أنعمَ عليك بنعمٍ لا تُحصى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوهَا) وطلب منك الشُّكرَ، ورضي به منك , ألا وإن من أكبر أنعم الله أن من نِعَم الله عليكم هذا الأمن والاستقرار الذي تنعمون به وقد أصيب قوم بالخوف والقلق والقتال, وإن من نعم الله عليكم ما يسره لكم من أنواع الأرزاق تأتيكم رغدًا من كل مكان وقد كان قوم لا يستطيعون لقمة العيش إلا بتعب وعناء وربما ماتوا من الجوع والإقلال اللهم أعنَّا على ذِكْركَ وشُكرك وحُسن عبادتك، اللهم أوزعنا أنْ نشكر نعمتك التي أنعمت علينا وعلى والِدِينا، وأنْ نعمل صالحًا ترضاه، يا رب العامين واجعلنا متمسكين بحبلك المتين اللهم من أرد الشر ببلادنا وبالمسلمين فجعل مآل فعله ومكره يعود عليه بالوبال والخسران واجعل مجتمعنا لحمة واحدة وسياج متماسك وصخرة تتحطم عليها جباه أهل الضلال يا من إليه العقبى والمآل اللهم ارزقنا البصيرة وأصلح لنا الظاهر والسريرة اللهم أعز الإسلام وأهله وأخذل الكفر وأهله اللهم وفق ولى أمرنا خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان واجعل عهده عهد نهضة وخير وأمان اللهم وأرزقه بطانة صالحة وحكمة راجحة عباد صلوا على خير الورى محمد وعلى أصحابه أجمعين سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الكبيرِ المُتعال، صاحبِ العطايا والكرم والإفضال، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، شَهَادَةً أدَّخرها ليومٍ تزولُ فيه الجبال، ويذوق المجرمون فيه الذلَّ والوبال، ويتحلَّى المُتقون بأتَمِّ النَّعيمِ وأبهى الجمال، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَسَيِّدُ الْخلقِ بلا جِدال، أوْضَح ما تحتاجه الأُمَّةُ في الحاضر والمآل، فمَنْ ضلَّ عن سنَّته فقد وقع في الحيرة والضلال، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى أصْحابه وتابعيهم والآل، وَسَلَّمَ تسْليمًا كثيرًا مزيدًا إلى الْيومِ الذي تُعرضُ فيه الأعمال. أما بعد: فاتقوا الله -أيها المسلمون- واعلموا أن مِن أعظم وأجلِّ الطاعات والقربات أن يتذكَّرَ المسلمُ ما أنعم الله به عليه، في بدنِه ودينه ودُنْياه. فما أعظم أنْ تستحضر -أيُّها المسلم- وتتذكرَ على الدوام، نعمَ الله عليك في بدنِك وأولادِك ودينِك قال بعضُ السلف: "ذِكْرُ النِّعمة يورث الحب لله -عزَّ وجلَّ وقال الحسن -رحمه الله-: "أكثروا ذكرَ هذه النِّعَم، فإن ذكرَها شكرُها" عباد الله: إن الكثير من الناس في مجالسهم، يتجاهلون ذكرَ نعم الله عليهم، وما منَّ به عليهم من الصحة والعافية والهداية، ولا يتذكرون سوى النقص والتذمر وهذا لا يليق مع الرب المنْعمِ المتفضِّلِ عليهم ونِعَمُ الله كثيرةٌ عظيمة، وما خَفِيَ منها أكثرُ وأعظم، والكثيرُ من الناس، يستحضر نِعْمةَ المأكلِ والمشربِ والمسكنِ فقط، ولم يعلم أن هذه من أقلِّ ما أنعم الله به عليه، وهي نعمٌ أعطاها الله حتى الكفار والمشركين قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "من لم يعرف نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه، فقد قلَّ علمه، وحَضَرَ عذابه" فوالله لو وضعت أعمالك كلها في كفة ونعمة البصر في كفة لرجحت نعمة البصر على كل أعمالك فسل الله العافية ولا تتكبر وأد شكر النعمة بالشكر باللسان والصدقة قبل فوات الأوان بَـزَقَ النبي صلى الله عليه وسلم يوماً في كَـفِّـه فوضع عليها إصبعه ، ثم قال : قال الله : ابن آدم أنّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه ؟ حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد ، فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ ، حتى إذا بلغت التراقي قلتَ : أتصدق ! وأنّى أوَان الصَّدَقـة . رواه الإمام أحمد -أيها المسلم- كم من النعم العظيمة الجليلة، التي تتمتع وتتقلَّب بها، وأنت لا تتذكَّرها ولا تستحضرها، أليس سترُ الله عليك، وعدمُ كشف معايبك وذنوبك؛ نعمةً لا تُقدَّر بثمن؟! ماذا عن نعمة الله عليك في سلامةِ عرضك وأهلك، ألست مُعافى من الوسوسة المميتة القاتلة، ألست مُعافى في بدنك، عندك قوتُ يومك، آمنًا في بيتك وأهلك، ألست تتمتع بالنظر والسمع والعقل؟! يا مَن تشتكي قلَّة المال، وكثرةَ الديون، حتى أنْستك كلَّ نعمةٍ تتقلب بها، أتحبُّ أنْ تُعطى الأموال، وتُسلبَ نعمةً واحدةً من هذه النعم، فكيف تجحد وتنسى ما أنت فيه من النعم العظيمة، وتشكو حِرمان أموالٍ تافهةٍ قليلة ولكن صدق الله تعالى: (إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) [العاديات: 6]، قال الحسن -رحمه الله-: "الكنودُ هو الذي يَعُدُّ المصائب، وينسى نعم الله عليه"
يـا أيُّها الظـالم في فعله *** والظلم مردودٌ على من ظلم
إلى متى أنـت وحتى متى *** تشكو المصيبات وتنسى النعم
جاء رجلٌ إلى أحد السلف الصالحين، يشكو إليه الحاجة وقلَّة المال، فقال له: أتُحبُّ أنَّ لك ببصرك هذا الذي تُبصِرُ به مائةَ ألف درهم؟! قال الرجل: لا، قال: فبيدك مائة ألف درهم؟! قال: لا، قال: فبِرِجْلِكْ؟! قال: لا، قال: فذكَّره نِعَمَ الله عليه، فقال له: "أرى عندك مئينَ ألوفٍ، وأنت تشكو الفقرَ والحاجة" قال وهب بن مُنَبِّهٍ -رحمه الله-: "مكتوبٌ في حكمة آل داود: العافيةُ: الْمُلْك الخفيُّ" وقد قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ". رواه البخاري أي إن الصِّحَّةَ وَالْفَرَاغ، كثيرٌ من الناس مغبونٌ فيهما، يندم ويتحسَّرُ صاحبُهما يوم القيامة، لعدمِ استغلاله لهما بما ينفعه ويُفيده أيها الْمُسْلم: وإنَّ نِعْمَةَ الله عليك في دينك، وسلامةِ عقيدتك، لهي أعظمُ نعمة، وأفضلُ منَّة، وهي التي يجب عليك شكرُها على الدوام. فإنَّ أكثر مَن في الأرض عقائدُهم باطلةٌ منحرفة قال بعض السلف: "كُنْ لِنِعْمة الله عليك في دينك، أشْكَرُ منك لنعمةِ الله عليك في دُنْياك" كمْ في الأرض مِنْ أُناسٍ يعبدون البقر والحجر، ومَنْ يعبدون الأولياء والأضرحة، ويقدمون النذور للقبور, فاحمد الله أن وفقك لعبادته وحده لا شريك له لو أنَّ رجلاً أكرمك وأسكنك في بيته، وأطعمك من أطيب طعامه، وفرش لك أحسن فراشٍ ولِحاف، هل يليق بك أن تُفسد مُمْتَلَكاتِه؟! وتؤذيَ أهلَه وأبناءَه؟! وهو يُشاهدك ويراك؟! لا والله لا يليق ذلك أبدًا مرَّ أحدُ السلف الصالح بشابٍّ يُراود امرأةً عن نفسها، فقال له: "يا بني: ما هذا جزاء نعمة الله -عز وجل- عليك؟!" واعلم أخي علمَ اليقين أن النعم إذا شُكرت قرَّت وزادت، وإذا كُفِرَتْ فرت وزالت، قال تعالى )وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (إبراهيم: 7]، فمتى أردت دوامَ النعمِ وزيادتَها فالْزم الشكر، وبدونه لا تدوم ولا تَهْنأُ لَكَ نِعْمَة وإذا كنت – وأعلم يا عبْد الله-أنك إن كنت تتقلَّب بنعم الله بأمانٍ واطْمئنان، وأنت مُصِرٌّ على الذنوب والعصيان، فهذا اسْتدراجٌ ومكرٌ بك والعياذُ بالله قال سفيان الثوريُّ -رحمه الله- في قول تعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ [الأعراف: 182]، قال: "نُسْبغ عليهم النِّعَم، ونمنعهم الشكر". وقال غيرُه: "كلما أحدثوا ذنبًا، أُحْدِثَتْ لهم نعمة" وقال الحسن -رحمه الله-: "إن الله لَيُمَتِّعُ بالنعمة مَنْ شاء، فإذا لم يُشْكَر قَلَبَها على صاحبِها عذابًا" وأما إذا كنت شاكرًا لله على نِعَمِه، وسخَّرت جوارحك في طاعته، فهذه كرامةٌ ومنحةٌ ربَّانية، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "أعظم الكرامة لزومُ الاستقامة" وسترى المزيد والتوفيق بإذن الله تعالى قال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "من عرف نعمة الله بقلبه، وحمده بلسانه، لم يستتم ذلك حتى يرى الزيادة؛ لقول الله -عز وجل-: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) وقال ابن القيم -رحمه الله-: "الشكر معه المزيد أبدًا، فمتى لم تر حالك في مزيد، فاستقبل الشكر" أي إنك حينما لا ترى زيادةً في رزقك، وبركةً في أهلك ومالك وحالك، وانْشراحًا في صدرك، فإنما هو بسبب تقصيرك في شكر الله، فاسْتقبل الشكر الحقيقيَّ الصادق، الذي يكون معه العمل والإخلاص، والطاعةُ والإيمان، وتركُ الشِّكايةِ والتَّسخُّط فالشكر الحقيقي: أن لا يُستعان بشيء من نعمه على معاصيه، كما قاله السلف الصالح، فالنَّظَرُ نعمة، فلا تستعن بها على المعصية، والمال نعمة، فلا تستعن به على المعصية نسأل الله تعالى، أن يُلْهمنا شُكرَ نِعْمِه، وأن يعيذنا من كفرانها، إنَّه سميع قريبٌ مجيب أقول قولي هذا واستغفر الله إنه غفور بر رحيم .
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يُعطي العطاء الجزيل، ويرضى من عباده بالشكر القليل، وأشهد أن محمدًا عبده ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين أما بعد:- عباد الله لقد أثنى الله على أوَّل رسولٍ بعثه إلى أهل الأرض بالشكر فقال: ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [الإسراء:2]، وأمر عبدَه موسى أن يتلقَّى ما آتاه من النبوة والرسالة والتكليم بالشكر فقال عز وجل: يٰمُوسَىٰ إِنْى ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَـٰلَـٰتِي وَبِكَلَـٰمِي فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ وَكُنْ مّنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ [الأعراف:144]، وأثنى على خليله إبراهيم بشكر نعمه: إِنَّ إِبْرٰهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَـٰنِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لأنْعُمِهِ [النحل:120، 121]، وأمر الله به داود فقال: ٱعْمَلُواْ ءالَ دَاوُودَ شُكْرًا [سبأ:12]، ودعا سليمان عليه السلام ربَّه أن يكون من الشاكرين: رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَىٰ وٰلِدَىَّ [الأحقاف:15]، وأمر الله رسوله محمدًا بالشكر فقال: بَلِ ٱللَّهَ فَٱعْبُدْ وَكُن مّنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ [الزمر:66]، وأمر الله لقمانَ بالشكر فقال: وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَةَ أَنِ ٱشْكُرْ للَّهِ [لقمان:12]، وأوَّلُ وصية وصَّى بها ربُّنا الإنسانَ [هي الوصية] بالشكر له وللوالدين فقال: أَنِ ٱشْكُرْ لِى وَلِوٰلِدَيْكَ إِلَىَّ ٱلْمَصِيرُ [لقمان:14]. يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (النعمة موصولةٌ بالشكر، والشكر يتعلّق بالمزيد، ولا ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر) ولما تنكَّر قومُ سبأ لنعم الله وجحدوها وقابلوها بالعصيان سلبها الله منهم، وأذاقهم ألوانًا من العذاب، فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ وَبَدَّلْنَـٰهُمْ بِجَنَّـٰتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَـٰهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ ٱلْكَفُورَ [سبأ:16، 17]. وأصحاب الجنة في سورة القلم قابلوا نعمةَ الله بالنكران وحرمان المساكين، فطاف على ثمرهم طائف، فأصبحت زروعهم هباءً منثورا كالليل البهيم، يقول الفضيل بن عياض رحمه الله: "عليكم بملازمة الشكر على النعم، فقلَّ نعمةٌ زالت عن قوم فعادت إليهم". والشاكرون لنعم الله قِلّة في الخلق، قال تعالى: وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ٱلشَّكُورُ [سبأ:12])أخرج الترمذيُّ وصححه الألبانيُّ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ أوَّلَ ما يُسْألُ العبدُ عنه يومَ القيامةِ مِن النَّعِيْم، أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ، وَنُرْوِيَكَ مِنَ الْمَاءِ البَارِدِ؟!" فالله تعالى أنعمَ عليك بنعمٍ لا تُحصى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوهَا) وطلب منك الشُّكرَ، ورضي به منك , ألا وإن من أكبر أنعم الله أن من نِعَم الله عليكم هذا الأمن والاستقرار الذي تنعمون به وقد أصيب قوم بالخوف والقلق والقتال, وإن من نعم الله عليكم ما يسره لكم من أنواع الأرزاق تأتيكم رغدًا من كل مكان وقد كان قوم لا يستطيعون لقمة العيش إلا بتعب وعناء وربما ماتوا من الجوع والإقلال اللهم أعنَّا على ذِكْركَ وشُكرك وحُسن عبادتك، اللهم أوزعنا أنْ نشكر نعمتك التي أنعمت علينا وعلى والِدِينا، وأنْ نعمل صالحًا ترضاه، يا رب العامين واجعلنا متمسكين بحبلك المتين اللهم من أرد الشر ببلادنا وبالمسلمين فجعل مآل فعله ومكره يعود عليه بالوبال والخسران واجعل مجتمعنا لحمة واحدة وسياج متماسك وصخرة تتحطم عليها جباه أهل الضلال يا من إليه العقبى والمآل اللهم ارزقنا البصيرة وأصلح لنا الظاهر والسريرة اللهم أعز الإسلام وأهله وأخذل الكفر وأهله اللهم وفق ولى أمرنا خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان واجعل عهده عهد نهضة وخير وأمان اللهم وأرزقه بطانة صالحة وحكمة راجحة عباد صلوا على خير الورى محمد وعلى أصحابه أجمعين سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
المشاهدات 3253 | التعليقات 2
نفع الله بعلمك وزادك الله من فضله وعلمه وبارك الله فيك وفي حضورك
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق