شعبان .. يغفل الناس عنه !

عبدالله اليابس
1437/08/05 - 2016/05/12 16:28PM
شعبان الجمعة 6/8/1437هـ

الحمد لله الذي زين قلوب أوليائه بأنوار الوفاق، وجعل للإيمان في قلوب المؤمنين حلاوة لذيذة المذاق، وألزم قلوب الخائفين الوجَل والإشفاق، فلا يعلم الإنسان في أي الدواوين كُتِب ولا في أيِّ الفريقين يساق، فإن سامح سبحانه فبفضله، وإن عاقب فبعدلِه، ولا اعتراض على الملك الخلاق.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، إلهٌ عزَّ مَن اعتز به فلا يضام، وذلَّ مَن تكبر عن أمره ولقي الآثام.
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، خاتم أنبيائه، وسيد أصفيائه، المخصوص بالمقام المحمود، في اليوم المشهود، الذي جُمع فيه الأنبياء تحت لوائه.
آياتُ أحمدَ لا تُحَدُّ لواصف ... ولوَ انَّه أُمليْ وعاش دهورَا
بشراكمُ يا أمة المختار في ... يوم القيامة جنة وحريرَا
فُضِّلتمُ حقًّا بأشرف مرسَل ... خير البرية باديًا وحضورَا
صلى عليه الله ربي دائمًا ... ما دامت الدنيا وزاد كثيرَا

فاللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه، وتمسَّك بسنته، واقتدى بهديه، واتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ونحن معهم يا أرحم الراحمين.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. اليوم هو السادس .. السادس من شهر شعبان.. شعبان الذي هو ــ في واقع الأمر ــ آخر مرحلة من جسر العام الذي يوصل إلى رمضان, أيام قلائل تفصِلنا عن خير الأيام والليالي, أيام قلائل تفصِلنا عن الصيام وروحانيتِه, والتراويح وخشوعها, أيام قلائل تفصِلنا عن ليلة القدر .. التي هي خير من ألف شهر.
كان بعض الصالحين قد صام حتى انحنى وانقطع صوته فمات فرآه بعض أصحابه في المنام فسأله عن حاله فضحك وأنشد:
قد كسي حلة البَهاء وطافت ... بالأباريق حولَه الخُدَّامُ
ثم حُلِّيْ وقيل يا قاريء ارقه ... فلَعَمري لقد براك الصيام
أيام جميلة قادمة.. هي ألذ أيام العام, ومن مُتع الدنيا, ومن لحظات العمر التي لا تنسى.
ولا ندري والله هل ينسأ في آجالنا حتى ندركَها أم لا؟
أسأل الله أن يبلغنا جميعًا شهر رمضان, ويعيننا على صيامه وقيامه.
أيها الإخوة.. هل دخلتم هذه الأيام أحد مراكز التسويق المنتشرة؟ ألم تلاحظوا أن التجار بدأوا في الدعاية لبعض المنتجات؟ وعمل تخفيضات على منتجات أخرى؟ هدفهم من ذلك ولا شك: زيادة أرصدتهم, وتكثير أموالهم, واستغلال هذا الموسم فيما ينفعهم, وُحقَّ لهم ذلك.
إذا كان هذا حال تجار الدنيا مع موسم رمضان قبل بدايته .. فما حال تجار الآخرة مع هذا الموسم قبل بدايته؟
كلنا نريد الجنة إن شاء الله .. فالجنة بالنسبة لكل منَّا هدف واضح .. يطمح للوصول إليه.. البعض يخطط للوصول لهذا الهدف ويعمل ويبذل جهده ويستفرغ وسعه, وينوع الوسائل للوصول إليه, ولَعلَّه يحقق مناه, والبعض الآخر هذا الهدف بالنسبة له كأنه من الأهداف الهامشية في حياته, فهو لا يعيره كثير اهتمام, ولا يخطط للوصول إليه, وإنما وضعه كهدف يعمله متى تيسر.. ولم يبدأ للعمل في تحقيقه بالشكل المطلوب.
لو ادعى أحد الطلاب أنه يريد النجاح في العام الدراسي وتحقيقَ درجةٍ عاليةٍ ليكون من المتفوقين, لكنه لما بدأ العام إذا به لا يعير الدراسة أي اهتمام لا حضورًا ولا مذاكرة, يحضر حينًا ويغيب أحياناً أخرى, والمذاكرة تركها لأوقات الفراغ .. فحين لا يدري ما يعمل يتصفح الكتاب تصفحًا, فلما اقتربت الاختبارات لم يستعد لها واستمر كحاله سائر العام, ولما حان موعد الاختبار إذا به يدخل الامتحان دون استعداد أو تحضير, ما تقولون في هذا إذا لم ينجح؟ لا شك أن الرسوب أو النجاح بدرجة متدنية نتيجة طبيعية بالنسبة لما قدمه طيلة العام.. ولا شك أيضًا أن ادعاءه بداية العام الدراسي أنه يطمح للتفوق لم ينفعه على أرض الواقع بسبب عدم عمله لتحقيق الهدف المرسوم..
هل يا ترى حال كثير منَّا في سعيهم للجنة كحال ذلك الطالب؟
هل حالنا ــ بالفعل ــ هو حال طلاب الجنة .. الذين يطمحون للدرجات العلا والنعيم المقيم؟
إن موسم رمضان ــ أيها الأحبة ــ موسم ينبغي أن لا يتساهل فيه من يرجو الله والدار الآخرة, أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جاء رمضانُ فُتِحَتْ أبوابُ الجنةِ ، وغُلِّقَتْ أبوابُ النارِ ، وصُفِّدَتْ الشياطينُ".
هل تعرفون موسمًا آخر تصفد فيه الشياطين وتُسلسل فلا يصلون إلى ما كانوا يصلون إليه في غيره من الأيام غير موسم رمضان؟
إن موسمًا بهذه العظمة ينبغي أن نستعد له ونهيِّئَ أنفسنا له قبل بدايته, فشعبان بالنسبة لرمضان كالنافلة القبلية بالنسبة للفريضة, وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهيء نفسه بالإكثار من الصيام في مثل هذه الأيام من شعبان في كل عام, تقول أم المؤمنين أم سلمة -رضي الله عنها- كما عند الترمذي: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان.
وتُفَسِّر هذا الحديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وعن أبيها فتقول: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صيامًا منه في شعبان.
ولما كان إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من الصيام في شعبان أمرًا ملاحظًا تعجب من ذلك بعض الصحابة رضوان الله عليهم, فعن أسامةَ بنِ زيد -رضي الله عنهما- قال: قلت: يا رسول الله: لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان!! قال: "ذاك شهر يغفل الناس فيه عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم".
فيا أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}.
فأكثروا في شعبان من الصيام, فالأعمال فيه مرفوعة, والناس فيه غافلة, ألا وإن أولى ما ينبغي أن يحرص المسلم على صومه ما كان عليه من أيام أفطرها من رمضان الفائت ولم يقضها بعدُ فليبادر إلى قضائها قبل أن يدركه رمضان من هذا العام.
إن أجر الصيام عظيم, يكفيك منه ما رواه النسائي وصححه الألباني من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن صامَ يومًا في سبيلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ باعدَ اللَّهُ وجهَهُ من جَهَنَّمَ سبعينَ عامًا".
مَن يُرِد مُلكَ الجِنان ... فليَدَع عنه التواني
وليَقُم في ظُلمةِ الليل ... إلى نور القران
وليصِل صوماً بصومٍ ... إنَّ هذا العيش فاني
إنما العيش جوارُ اللهِ ... في دار الأمان
بارك الله لي ولكم بالقرآن والسنة, ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة, قد قلت ما سمعتم, وأستغفر الله لي ولكم, إنه هو الغفور الرحيم.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ وراقبوه في السر والنجوى, واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى .
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. "ذاك شهر يغفُلُ الناس عنه" .. هذا الوصف وَصَف به النبي صلى الله عليه وسلم شهر شعبان .. يغفل الناس عنه.. شهر عظيم ترفع فيه الأعمال إلى الله.. ومع ذلك يغفل الناس عنه.
إذا غفل الناس عن العمل .. فلا تكن مع الغافلين.. والحق بركب المتقين, واركب سفينة المتذكرين.
إذا انتبه الإنسان لمواسم الطاعات.. وتَرَك الغفلة .. وَجَد أثر ذلك ولو بعد حين: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً}.
أيها الأخ المبارك .. إذا استعد أهل الدنيا للدنيا .. فاستعد أنت للآخرة.. {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى}..
ابدأ من اليوم للتخطيط لشهر رمضان .. ليكون موسمًا ناجحًا من مواسم الطاعات.. كم ختمة ستختم؟ وكيف ستنظم وقتك لذلك؟ كم صائمًا ستُفّطِّر؟ وكم شخصًا ستدعوه إلى الله مسلماً كان أم غير مسلم؟ كيف ستقضي وقتك في رمضان؟ مالذي ستفعله في الأوقات النفيسة كبَعْدِ الفجر وبعد العصر والمغرب وبعد التراويح؟ ما الكتب التي ستقرؤها قبل بداية الشهر لتتزود بها من أحكام الصيام والقيام؟
خذ ورقة وقلمًا .. ودّوِّن أجابات هذه الأسئلة, ورتب ساعات يومك .. فالأنفاس إذا خرجت لا تعود..
سل الله أن يبلغك رمضان.. وتذكر أنك قد لا تدرك الشهر هذا العام.. فلعل نيتك للعمل تبلغ مبلغ عملك.
عَن سَهلِ بنِ حُنَيفٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- أَنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَن سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدقٍ، بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِن مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ". رَوَاهُ مُسلِمٌ.
يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اسَتَهَلَّ شهرُ شعبان أكبُّوا على المصاحف فقرؤوها, وأخذوا في زكاة أموالهم فَقَوَّوا بها الضعيف والمسكين على صيام شهر رمضان، ودعا المسلمون مملوكيهم فحطُّوا عنهم ضرائب شهر رمضان، ودعت الولاة أهل السجون فمن كان عليه حدُّ أقاموا عليه، وإلا خَلَّوا سبيله.
وكان عمرو بن قيس رحمه الله إذا دخل شعبان أغلق حانوته، وتفرغ لقراءة القرآن".
فإذا كان هذا حالهم في شعبان .. فكيف بحالهم في رمضان؟
مضى رجب وما أحسنت فيـه ... وهذا شهر شـعبان المبـارك
فيـا من ضيع الأوقـات جهلاً ... بحُرمتها أّفِق واحـذر بَوَارَك
فسـوف تفـارق اللذات قهـرًا ... ويُخلي الموتُ قهرًا منك دارك
تدارك ما استطعت من الخطايا ... بتوبة مُخلِصٍ واجعل مـدارَك
على طلب السـلامة من جحيم ... فخيرُ ذوي الجرائم من تدارك
اللهم بلغنا رمضان, وأعنا فيه على الصيام والقيام, واجعلنا فيه من عتقائك من النار.
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
المرفقات

شعبان 6-8-1437.docx

شعبان 6-8-1437.docx

المشاهدات 1590 | التعليقات 0