شعبان والاستعداد لرمضان   16/8/1430هـ

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الكبير المتعال، الغني ذو الجمال والجلال، تنزه عن الشبه والمثال، والنقص والحلول، وتقدَّس بصفات الكمال، سبحانه وتعالى من إله عظيم وخالق كريم وربٍّ عظيم، اختصنا بكتابه والسبع الطوال، وبرسوله الشاكر لربه على كل حال، فنحمده حمداً ليس له منتهى ولا يعقبه سؤال.

ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، توحيداً بلا شرك، ووصفاً بلا تشبيه، وإثباتاً بلا تكييف، إلى أن نلقاه يوم الفصال.

ونشهد أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- عبده ورسوله وأمينه على وحيه، بلَّغ رسالة ربه كما أمره لا كما يقول أهل البدع والضلال، صلى الله وسلم عليه؛ أما بعد:

 إنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هديُ محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]؛ أما بعد:

 

أيها المسلمون: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستعد لاستقبال رمضان من أول شهر شعبان بعده أمور: أولها: الاستعداد بالصيام؛ فعَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ -رضي اللهُ عَنْهَا- قَالتْ: كَانَ رَسُول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَصُومُ حَتَّى نَقُول: لا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُول: لا يَصُومُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- اسْتَكْمَل صِيَامَ شَهْرٍ إِلا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ في شَعْبَانَ"(خرَّجه الإمام البخاري في صحيحه).

 

وعن أُسَامَة بْن زَيْدٍ قَال: قُلتُ: يَا رَسُول اللهِ، لمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، قَال: "ذَلكَ شَهْرٌ يَغْفُل النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَال إِلى رَبِّ العَالمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عملي وَأَنَا صَائِمٌ"(رواه أحمد والنسائي وابن خزيمة وصححه).

 

وكان أحب الصوم إليه -صلى الله عليه وسلم- صوم شعبان.(رواه أحمد عن أنس -رضي الله عنه-؛ يقول ابن رجب في كتاب لطائف المعارف: وقد قيل في صوم شعبان: إن صيامه كالتمرين على صيام رمضان؛ لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة؛ بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده، ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته، فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط.اهـ.

 

ولا يزال في شعبان بقية للصيام، ولا يحتج محتج بكراهة الصوم بعد النصف من شعبان؛ فإن جمهور العلماء أنكروا الحديث الوارد فيه، وضعفوه، منهم الإمام أحمد -رحمه الله- وغيره، والله أعلم.

 

الأمر الثاني: الاستعداد بالدعاء؛ فقد روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل رجب يدعو قائلاً: "اللهُمَّ بَارِكْ لنَا في رَجَبٍ وَشَعْبَانَ، وَبَارِكْ لنَا في رَمَضَانَ"(خرَّجه الإمام أحمد في مسنده).

 

ويقول المعلى بن فضل: كانوا يدعون الله- عز وجل ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم، وقال يحيى بن أبي كثير: من دعاء الصالحين في رمضان: اللهم سلِّمني إلى رمضان، وسلِّم لي رمضان، وتسلَّمه مني متقبَّلاً.

فندعو الله -سبحانه وتعالى- أن يبلغنا رمضان ويجعلنا من صوامه وقوامه، ويرحمنا ويغفر لنا ويعتقنا من النار؛ فإذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستعد لرمضان فنحن أولى أن نستعد له بعدة استعدادات منها ما ذكرنا، ومنها: الاستعداد بالقرآن:

قال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: كان المسلمون إذا دخل شعبان انكبُّوا على المصاحف فقرءوها، وأخرجوا زكاة أموالهم تقويةً للضعيف والمسكين على صيام رمضان، وقال أحد السلف: شعبان شهر القُرَّاء؛ فالذي تعود على المحافظة على ورده القرآني قبل رمضان سيحافظ عليه -إن شاء الله- في رمضان.

 

القرآن في حد ذاته شفاء لما في الصدور، وكثرة البعد عنه ترسب على القلب الصدأ والران، فقراءة القرآن في شعبان تزيل صدأ الشهور الماضية، حتى يستنير القلب، ويصبح محلاً طيبًا لتأثير القرآن بالهدى والتقى والنور في رمضان.

 

أذكر مرة أني كنت في زيارة لمدرسة من مدارس تحفيظ القرآن الكريم؛ فكان أصغر حافظ للقرآن الكريم عندهم 15 سنة.

 

الاستعداد بطرد الغفلة: حتى لا تدخل في رمضان غافلاً ثم تبدأ بطرد الغفلة؛ بل كن يقظاً مستعداً لتقبل نفحات القرآن الكريم؛ فشعبان شهر اليقظة، ورمضان شهر القطاف: من هو الغافل؟ الغافل: من لا يتفقد إيمانه ولا يحاسب نفسه.

 

الغافل: من لا يحزن على فقد الخير

الغافل: من يكتفي دائماً بالأقل

الغافل: من لا يتأسف على حاله القليل

الغافل: من لا يجد لذة في العمل العبادي

 

فهل أنت من هؤلاء؟ إن كنت كذلك فعليك بما سأسمعك؛ كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو؛ "اللهم إني أعوذ بك من القسوة والغفلة"(رواه الحاكم والبيهقي)، وهذا الدعاء ليس خاصاً بشعبان بل في كل وقت، ولكنه في شعبان آكد استعداداً لشهر رمضان، فلندع الله -تعالى- أن يذهب عنا الغفلة والقسوة، وأيضاً هناك وسائل لإزالة الغفلة:

الأولى: الصلوات المكتوبات؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "من حافظ على الصلوات المكتوبات لم يكتب من الغافلين"(رواه ابن خزيمة والحاكم وصححه)؛ فالصوم لا يستفيد منه من لا يحافظ على فرائضه.

 

الثانية: قيام الليل؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "من قام بمائة آية لم يكتب من الغافلين"(رواه ابن خزيمة والحاكم وصححه)، وفي رواية؛ "بعشر آيات"(رواه أبوداود وابن خزيمة).

 

قلت ما سمعتم ولي ولكم فاستغفروا الله ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إلا هو إليه المصير، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.

 

عباد الله: الاستعداد بترك الشحناء: قال -صلى الله عليه وسلم-: "يطلع الله إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا لمشرك أو مشاحن"(رواه الطبراني وابن خزيمة عن معاذ -رضي الله عنه- بسند صحيح).

والشحناء: هي الحالقة كما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ "دب إليكم داء الأمم الحسد والبغضاء هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين"(رواه البزار بسند جيد).

 

 

وورد في عدة أحاديث أن المشاحن لا يرفع عمله إلى الله -تعالى- لا في شعبان ولا في غيره، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ترفع الأعمال إلى الله كل اثنين وخميس إلا من كان بينه وبين أخيه شحناء فيقول: أنظروا هذين حتى يصطلحا"(رواه مسلم).

 

وشعبان شهر ترفع فيه الأعمال رفعاً شاملاً غير الرفع الأسبوعي، واليومي؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "شعبان شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين"(رواه أحمد والنسائي وابن خزيمة).

 

فإذا كانت ترفع الأعمال أو يسجل فيه عمل السنة، فحري بالمسلم أن يتجنب أي أمر يحجب رفع الأعمال؛ كالحسد والبغضاء والتقاطع؛ بسبب الدنيا والخلاف حول عرضها الزائل.

 

الاستعداد بحفظ اللسان: فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في حق الصائم: "فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم"(رواه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"(رواه البخاري)، ولا يحفظ لسانه من لم يكن معتاداً على حفظ لسانه قبل رمضان، فلنبدأ بمراجعة أقوالنا ومحاسبة ألسنتنا.

 

عباد الله: (إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، وقال صلى الله عليه وسلم؛ "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فأكثروا علي من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضة علي"، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.

 

اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ.

 

اللهم أمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل هذا البلد آمناً مباركاً وجميع بلاد المسلمين.

 

اللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُكَ مُوجِباتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزائِمَ مَغْفِرَتِكَ، والسَّلامَةَ مِنْ كُلِّ إثمٍ، والغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، والفَوْزَ بالجَنَّةِ، والنَّجاةَ مِنَ النَّارِ

 

اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل بلادنا آمنةً مطمئنة وسائر بلاد المسلمين.

المشاهدات 59 | التعليقات 0