شعبان تدريب لرمضان
الشيخ عصام بن عبدالمحسن الحميدان
شعبان تدريب لرمضان
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
إنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هديُ محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]؛ أما بعد:
معاشر المسلمين: فإن الإعداد للفتن وللأعداء أنواع كما ذكرنا في الخطبة الماضية، وأهمها الإعداد الإيماني؛ فوالله لا نواجه أعداءنا الكثر، ولا نعصم أنفسنا من الفتن، ولا نحفظ بلادنا من المخربين، ولا نتوصل إلى الفقه الصحيح إلا بالإيمان، ونحن في مواسم الإيمان، شعبان ورمضان موسمان إيمانيان، لا ينبغي أن يمرا دون استثمار صحيح.
والحقيقة أن شهر شعبان شهر مظلوم؛ لأن بعض الناس يعظمون رجبا، وبعضهم يعظمون المحرم، وبعضهم يعظمون الأشهر الحرم، والكل يعظمون رمضان والقلة الذين يعظمون شعبان؛ فهو شهر مغفول عنه، وهذا هو الذي عناه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "شعبان شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين؛ فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم"(رواه أحمد والنسائي عن أسامة -رضي الله عنه-).
عباد الله: فلنعمل على إزالة الغفلة عنا في هذا الشهر، الغفلة التي وقع فيها كثير من الناس، أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً، والإنسان إذا غفل عن الله خاب وخسر؛ قال سبحانه: (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)، وقال سبحانه: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا).
ونحن نغفل -أيضاً- أحياناً عن صلاة الفجر وسائر الصلوات، نغفل عن القرآن، نغفل عن أداء حقوق الآباء والأبناء والزوجات، نغفل عن تنظيف القلوب وتنقيتها من السواد، خير أوقات السنة لإزالة الغفلة شهر شعبان؛ لتدخل رمضان خالياً من الغفلة.
عباد الله: إن أول وسائل إزالة الغفلة الدعاء والتضرع؛ كان -صلى الله عليه وسلم- يدعو ربه بقوله: "اللهم إني أعوذ بك من القسوة والغفلة"(رواه الحاكم والبيهقي بسند صحيح)، ومن لجأ إلى ربه أنقذه من الغفلة؛ وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ بالله من جار السوء، وجليس السوء، ويستعيذ بالله من قلب لا يخشع، وكان يسأل الله الإعانة على الذكر والشكر، وكان يسأل الله حب الطاعة، كل ذلك ليزيل الغفلة عن نفسه.
ثاني وسائل إزالة الغفلة المحافظة على صلاة السنن؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى الضحى ركعتين لا يكتب من الغافلين"(رواه الطبراني بسند حسن)، والسنن تزكي الفرائض، ومن يؤديها تذهب غفلته؛ لأنه لم يقتصر على الفرائض بل أحب أن يتقرب إلى الله بزيادة عليها؛ فاحرصوا على أداء السنن الرواتب وغيرها؛ كصلاة الضحى، وقيام الليل؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين"(رواه أبو داود بسند جيد)، ولا شك أن من يتحرى وقت نوم الناس وغفلتهم فيذكر الله ويصلي لا يكون من الغافلين.
رابع وسائل إزالة الغفلة المحافظة على الصلوات الخمس؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "من حافظ على الصلوات الخمس لم يكتب من الغافلين"(رواه ابن خزيمة في صحيحه)؛ فالذي يذكر الله -سبحانه- ولا ينساه خمس أوقات في النهار والليل ليس من الغافلين، وهذه نعمة من الله -سبحانه- أن يمحوك من سجل الغافلين، ويكتبك في سجل الذاكرين؛ لأنك تصلي الفرائض.
خامس وسائل إزالة الغفلة الصيام، وقد قال بعض العلماء إن صيام شعبان أزكى من صيام أي شهر في السنة غير رمضان، وذلك بسبب اهتمام النبي -صلى الله عليه وسلم- بصيامه أكثر من غيره، وبسبب أنه تهيئة لشهر رمضان خير شهور العام، فكان أحب الشهور يصوم فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شعبان.
وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يصومه كله"(متفق عليه)؛ عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، وقالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: ما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان"(متفق عليه).
والصوم -أيها الإخوة- صحة وعبادة، وصفاء ونقاء للجسم والقلب، والصوم جهاد ومجاهدة.
سادس وسائل إزالة الغفلة تنقية القلوب من الشحناء؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "يطلع الله إلى خلقه ليلة النصف من شعبان؛ فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن"(رواه ابن ماجه وأحمد بأسانيد صحيحة)، وذلك أن الشحناء تقسي القلب فتجعله من الغافلين، لا يذكر إلا حقده وخلافه وأعداءه فينسى الخير، أما الصفح والتسامح فينظف القلب فيذكر الخير.
سابع وسائل إزالة الغفلة قراءة القرآن، ولا شيء يؤثر في إزالة الغفلة كقراءة القرآن المثمرة؛ فإن القرآن الكريم كتاب التذكر، وهو الذكر الحكيم، فهو ضد الغفلة، مزيل للغفلة، وكان السلف الصالح يسمون شعبان شهر القراء، وأنبه هنا إلى الكثير من الدورات القرآنية التي تعنى بحفظ القرآن الكريم في فصل الصيف، وهي دورات خيرة لأن حفظ القرآن الكريم من أزكى الطاعات؛ قال سبحانه: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ)، ولكن مع تسهيل وسائل الحفظ وانتشارها في العالم التقني.
قلت ما سمعتم ولي ولكم فاستغفروا الله ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إلا هو إليه المصير، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
أيها المسلمون: يجب أن نتجه بقوة إلى الدور المنسي الآخر وهو الفهم مع الحفظ، فنحن لسنا أمة حافظة فقط، ولكننا أمة متدبرة عاملة؛ قال الله -سبحانه-: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)، وقال سبحانه: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)، وقال سبحانه: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ)؛ أي تلاوة ألفاظه، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لأن يغدو أحدكم إلى المسجد؛ فيتعلم آية خير له من ناقة وآيتين خير له من ناقتين، ومن أعدادهن من الإبل"(متفق عليه).
ومن أهم وسائل فهم القرآن الكريم الخشوع أثناء التلاوة؛ فإن الله -سبحانه- يفتح بها على قلوب عباده معاني لم يكونوا عارفيها؛ قال سبحانه: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ)، وقال سبحانه: (كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)، وقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا).
ثامن وسائل إزالة الغفلة عدم مصاحبة الغافلين؛ (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)؛ فمن صاحب الغافلين لا يسمع منهم الذكر، ولا يعينونه على الذكر إذا ذكر؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "أنا برئ ممن بات بين أظهر المشركين"؛ أي راضياً بهم لأنهم غافلون، وبعكسه من صاحب الذاكرين؛ (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)، المجالس التي لا يذكر الله فيها مجالس سوء وغفلة.
عباد الله: (إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، وقال صلى الله عليه وسلم؛ "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة" وقال صلى الله عليه وسلم: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فأكثروا علي من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضة علي"، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
اللهم أمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل هذا البلد آمناً مباركاً وجميع بلاد المسلمين.
اللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُكَ مُوجِباتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزائِمَ مَغْفِرَتِكَ، والسَّلامَةَ مِنْ كُلِّ إثمٍ، والغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، والفَوْزَ بالجَنَّةِ، والنَّجاةَ مِنَ النَّارِ
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل بلادنا آمنةً مطمئنة وسائر بلاد المسلمين.