شعار الحج وزينته

شِعَارُ الحَجِّ وَزِينَتُهُ
3/12/1433

الحَمْدُ للهِ الغَنِيِّ الكَرِيمِ؛ جَزِيلِ العَطَاءِ، عَظِيمِ الهِبَاتِ، فَتَحَ أَبْوَابَ التَّوْبَةِ لِعِبَادِهِ، وَأَفَاضَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَرْزَاقِهِ وَرَحَمَاتِهِ، وَشَرَّفَهُمْ بِعُبُودِيَّتِهِ وَطَاعَتِهِ، وَكَرَّرَ عَلَيْهِمْ مَوَاسِمَ أَعْيَادِهِ وَأَنْسَاكِهِ، نَحْمَدُهُ كَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْمَدَ، وَنَشْكُرُهُ فَلاَ أَحَدَ أَحَقُّ بِالشُّكْرِ مِنْهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ وَعَدَ أَهْلَ طَاعَتِهِ بِالرَّحْمَةِ وَالرِّضَا، وَالجَزَاءِ الأَوْفَى، وَأَوْعَدَ المُسْتَكْبِرِينَ عَنْ عِبَادَتِهِ بِالغَضَبِ وَالعَذَابِ، وَالخِزْيِّ وَالنَّكَالِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ حَجَّ بِالنَّاسِ حَجَّةً وَاحِدَةً فَوَدَّعَهُمْ، وَعَلَّمَهُمْ مَنَاسِكَهُمْ، وَأَرْسَى قَوَاعِدَ دِينِهِمْ، وَأَوْضَحَ شَرَائِعَهُمْ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاعْمُرُوا هَذِهِ الأَيَّامَ الفَاضِلَةَ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ فَإِنَّهَا أَفْضَلُ الأَيَّامِ، وَالعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ مِثْلِهِ فِي غَيْرِهَا.
مَيِّزُوهَا عَنْ غَيْرِهَا بِالتَّكْبِيرِ، وَتَفَرَّغُوا فِيهَا لِلْعَمَلِ، وَتُوبُوا مِنَ الذُّنُوبِ، وَاحْذَرُوا الْمَعَاصِي؛ فَإِنَّهُ انْتِهَاكٌ لِحُرْمَةِ هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ] {الحَجّ:30}، وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:«مَا العَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ؟»، قَالُوا: وَلاَ الجِهَادُ؟ قَالَ: «وَلاَ الجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ»؛ رَوَاهُ الْبُخَارِي، فَأَرُوا اللهَ تَعَالَى مِنْ أَنْفُسِكُمْ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ خَيْرًا تَجِدُوا خَيْرًا.
أَيُّهَا النَّاسُ: فَضَّلَ اللهُ تَعَالَى مَكَّةَ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَجَعَلَهَا مَقْصِدًا لِلنُّسُكِ الْكَبِيرِ، خَامِسِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَرَ الْخَلِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بَعْدَ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ أَنْ يُنَادِيَ الْبَشَرَ بِالْحَجِّ؛ [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] {الحَجّ:27}؛ فَلَبَّى الْمُؤْمِنُون نِدَاءَهُ مِنْ زَمَنِهِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "لَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ قِيلَ لَهُ: أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ، قَالَ: «رَبِّ، وَمَا يَبْلُغُ صَوْتِي»، قَالَ: أَذِّنْ، وَعَلَيَّ الْبَلَاغُ، قَالَ: فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الحَجُّ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، قَالَ: فَسَمِعَهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّاسَ يَجِيئُونَ مِنْ أَقَاصِي الْأَرْضِ يُلَبُّونَ؛ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
حَجَّ الْخَلِيلُ وَإِسْمَاعِيُل وَيُونُسُ وَمُوسَى وَمُحَمَّدٌ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَجَهَرُوا بِالتَّلْبِيَةِ، وَسَيَحُجُّ عِيسَى بَعْدَ نُزُولِهِ فِي آخِرِ الزَّمَان، وَسَيَبْقَى الْحَجُّ وَشِعَارُهُ التَّلْبِيَةُ إِلَى أَنْ يُخَرَّبَ الْبَيْتُ عِنْدَ فَسَادِ النَّاسِ.
وَسَارَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ عَلَى سِيرَةِ أَبِيهِ الخَلِيلِ -عَلَيْهِمَا الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- فَدَعَا النَّاسَ لِلْحَجِّ كَمَا دَعَا إِبْرَاهِيمَ، وَقَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا فَقَالَ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-:«إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَيْكُمُ الحَجَّ»، فَلَبَّى الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- نِدَاءَهُ، وَلَبَّاهُ التَّابِعُونَ وَأَتْبَاعُهُمْ، وَلَمْ تَنْقَطِعْ تَلْبِيَةُ أُمَّتِهِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا؛ فَفِي كُلِّ عَامٍ يَفِدُ الحُجَّاجُ مِنْ شَتَّى الأَقْطَارِ تَلْبِيَةً لِنِدَاءِ الخَلِيلَيْنِ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلاَةُ وَالسَّلامُ.
وَلِهَذَا كَانَ شِعَارُ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ التَّلْبِيَةَ، لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الجُمْلَةَ عَلِمَ لِمَ كَانَتْ شِعَارَ النُّسُكِ، وَعَرَفَ لِمَ الْتَصَقَتْ بِالإِحْرَامِ.
إِنَّ عُلَمَاءَ اللُّغَةِ وَالشَّرِيعَةِ قَدِ اسْتَوْقَفَتْهُمُ التَّلْبِيَةُ؛ لِكَوْنِهَا شِعَارَ النُّسُكِ، وَلَا شِعَارَ مَعَهَا، وَلاَ يُغْنِي عَنْهَا غَيْرُهَا، فَتَفَنَّنُوا فِي عَرْضِ مَعَانِيهَا، وَبَيَانِ الارْتِبَاطِ الوَثِيقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ العُبُودِيَّةِ للهِ تَعَالَى، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى اتِّسَاعِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ وَمَتَانَتِهَا، وَغَزَارَةِ مَا فِي التَّلْبِيَة مِنَ المَعَانِي العَظِيمَةِ.
لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، شِعَارٌ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ يَمْلَأُ الآفَاقَ، وَيَتَرَدَّدُ عَلَى الأَسْمَاعِ، وَيَبْلُغُ الأَقْطَارَ؛ فَالإِعْلاَمُ المَسْمُوعُ وَالمَرْئِيُّ يَنْقُلُ هَذَا الشِّعَار مِنْ مَوْقِعِهِ فِي مَوَاقِيتِ الإِحْرَامِ، وَمَشَاعِرِ الأَنْسَاكِ إِلَى العَالَمِ كُلِّهِ، وَفِي أَيَّامِ الحَجِّ تَكَادُ تَكُونُ التَّلْبِيَةُ هِيَ أَكْثَرَ مَا يَطْرُقُ الأَسْمَاعَ، وَتَكُونُ مَنَاظِرُ الحُجَّاجِ وَهُمْ مَحْرِمُونَ هِيَ أَكْثَرَ مَا يَغْشَى الأَبْصَارَ.
لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ؛ أَيْ: إِجَابَةً لَكَ بَعْدَ إِجَابَةٍ؛ وَلِهَذَا كُرِّرَتِ التَّلْبِيَةُ إِيذَانًا بِتَكْرِيرِ الإِجَابَةِ، فالمُرَادُ التَّكْرِيرُ وَالتَّكْثِيرُ وَالتَّوْكِيدُ.
‏وَالتَّلْبِيَةُ انْقِيَادٌ؛ أَيِ: انْقَدْتُ لَكَ يَا رَبِّ, وَسَعَيْتُ لَكَ بِنَفْسٍ خَاضِعَةٍ ذَلِيلَةٍ، ‏وَفِي التَّلْبِيَةِ مَعْنَى اللُّزُومِ، كَأَنَّ المُلَبِّي بِتَلْبِيَتِهِ يَقُولُ: رَبِّ إِنِّي مُقِيمٌ عَلَى طَاعَتِكَ، مُلاَزِمٌ لَهَا، ‏َوَتَأْتِي التَّلْبِيَةُ بِمَعْنَى المُوَاجَهَةِ، كَأَنَّ المُلَبِّي يَقُولُ: مُتَوَجِّهٌ إِلَيْكَ يَا رَبِّ، مُوَاجِهُكَ بِمَا تُحِبُّ،‏ وَفِي التَّلْبِيَةِ مَعْنَى الحُبِّ؛ أَيْ حُبًّا لَكَ يَا رَبِّ بَعْدَ حُبٍّ، ‏‏َوَفِي التَّلْبِيَةِ إِعْلاَنُ الخُلُوصِ للهِ تَعَالَى، كَأَنَّ المُحْرِمَ لَمَّا تَجَرَّدَ مِنْ ثِيَابِهِ وَلَبِسَ الإِحْرَامَ قَدْ تَجَرَّدَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَأَقْبَلَ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَالمَعْنَى: أَخْلَصْتُ لُبِّي وَقَلْبِي لَكَ, وَجَعَلْتُ لَكَ لُبِّي وَخَالِصَتِي، ‏وَفِي التَّلْبِيَةِ قَبُولٌ لِلطَّاعَةِ بِانْشِرَاحِ صَدْرٍ، وَفَرَحِ قَلْبٍ، كَأَنَّ المُحْرِمَ وَهُوَ يُلَبِّي يَقُولُ: إِنِّي مُنْشَرِحُ الصَّدْرِ، مُتَّسِعُ القَلْبِ لِقَبُولِ دَعْوَتِكَ يَا رَبِّ وَإِجَابَتِهَا.
وَالمُحْرِم قَرِيبٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى بِانْخِلاَعِهِ مِنْ لُبْسِهِ، وَمُفَارَقَتِهِ وَطَنَهُ، فَكَأَنَّهُ وَهُوَ يُلَبِّي يَقُولُ: اقْتِرَابًا إِلَيْكَ يَا رَبِّ بَعْدَ اقْتِرَابٍ, كَمَا يَتَقَرَّبُ المُحِبُّ مِنْ مَحْبُوبِهِ.
إِنَّ أَمْرَ التَّلْبِيَةِ عَظِيمٌ، وَإِنَّ شَأْنَهَا لَكَبِيرٌ، وَإِلاَّ لَمَا جَعَلَهَا اللهُ تَعَالَى شِعَارًا لِلنُّسُكِ، تَتَابَعَ عَلَيْهِ الرُّسُلُ -عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ- مُنْذُ أَنْ لَبَّى إِبْرَاهِيمُ إِلَى أَنْ يُلَبِّيَ المَسِيحُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ.
رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّ بِوَادِي الْأَزْرَقِ، فَقَالَ: «أَيُّ وَادٍ هَذَا؟»، فَقَالُوا: هَذَا وَادِي الْأَزْرَقِ، قَالَ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- هَابِطًا مِنَ الثَّنِيَّةِ وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللهِ بِالتَّلْبِيَة»، ثُمَّ أَتَى عَلَى ثَنِيَّةِ هَرْشَى، فَقَالَ: «أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ؟»، قَالُوا: ثَنِيَّةُ هَرْشَى، قَالَ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ جَعْدَةٍ عَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ، خِطَامُ نَاقَتِهِ خُلْبَةٌ وَهُوَ يُلَبِّي»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَالجُؤَارُ بالتَّلْبِيَةِ هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِهَا، وَوَرَدَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- كَانَ يَضَعُ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ أَثْنَاءَ التَّلْبِيَةِ مِنْ شِدَّةِ التَّصْوِيتِ بِهَا.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: كَانَتْ تَلْبِيَةُ مُوسَى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَبَّيْكَ، عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدَيْكَ، وَكَانَتْ تَلْبِيَةُ عِيسَى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَبَّيْكَ، عَبْدُكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، وَكَانَتْ تَلْبِيَةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ؛ رَوَاهُ البَزَّارُ.
وَلَمَّا انْدَرَسَ دِينُ الخَلِيلِ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ-، وَانْتَشَرَ الشِّرْكُ فِي العَرَبِ، بَقِيَتِ التَّلْبِيَةُ مِمَّا بَقِيَ مِنْ دِينِ الخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَحَافَظَ عَلَيْهَا الحُنَفَاءُ فِي مَكَّةَ بَعْدَ انْتِشَارِ الشِّرْكِ فِيهَا، وَكَانَتْ تَلْبِيَةُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَبْلَ الإِسْلامِ: لَبَّيْكَ حقًّا حَقًّا، تَعَبُّدًا وَرِقًّا، الْبِرَّ أَبْغى لاَ الْخَال.
وَمِنْ عَظَمَةِ التَّلْبِيَةِ وَأَهَمِّيَّتِهَا أَنَّ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- أَوْصَى هَذِهِ الأُمَّةَ بِرَفْعِ الصَّوْتِ بِهَا؛ فعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:"جَاءَنِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ أَصْحَابَكَ فَلْيَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ، فَإِنَّهَا مِنْ شِعَار الحَجِّ"؛ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَعَمِلَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- بِوَصِيَّةِ جِبْرِيلَ هَذِهِ، فَكَانُوا يُكْثِرُونَ التَّلْبِيَةَ، وَيَرْفَعُونَ الصَّوْتَ بِهَا؛ إِظْهَارًا لِشَعَائِرِ اللهِ تَعَالَى، وَتَعْظِيمًا لَهُ، وَتَمْيِيزًا لِحَالِ الإِحْرَامِ عَنْ غَيْرِهَا، وَإِعْلانَ الوِفَادَةِ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَالانْقِطَاعِ لَهُ فِي أَدَاءِ هَذَا النُّسُكِ العَظِيمِ.
قَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ المُزَنِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ «فَلَبَّى حَتَّى أَسْمَعَ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ»، وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: «التَّلْبِيَة زِينَةُ الحَجِّ».
وعَنْ يَعْقُوبَ بْنِ زَيْدٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قَالَ: «كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لاَ يَبْلُغُونَ الرَّوْحَاءَ حَتَّى تُبَحُّ أَصْوَاتُهُمْ مِنْ شِدَّةِ تَلْبِيَتِهِمْ».
وَخَلَفَهُمُ التَّابِعُونَ فَسَارُوا سِيرَتَهُمْ فِي العِنَايَةِ بالتَّلْبِيَةِ، وَرَفْعِ الصَّوْتِ بِهَا، قَالَ مَكْحُولٌ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-:«التَّلْبِيَةُ شِعَارُ الحَجِّ، فَأَكْثِرُوا مِنَ التَّلْبِيَةِ عِنْدَ كُلِّ شَرَفٍ وَفِي كُلِّ حِينٍ، وَأَكْثِرُوا مِنَ التَّلْبِيَة وَأَظْهِرُوهَا».
وعَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يُوقِظُ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَقُولُ: «قُومُوا لَبُّوا، فَإِنَّ زِينَةَ الحَجِّ التَّلْبِيَةُ».
وَمِنْ عَظِيمِ أَمْرِ التَّلْبِيَةِ أَنَّ الجَمَادَاتِ تُلَبِّي مَعَ المُلَبِّي فَيَكُونُ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مَا لاَ يُحْصَى، كَمَا فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَا مِنْ مُلَبٍّ يُلَبِّي، إِلَّا لَبَّى مَا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، مِنْ حَجَرٍ، أَوْ شَجَرٍ، أَوْ مَدَرٍ، حَتَّى تَنْقَطِعَ الْأَرْضُ، مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا»؛ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
وَكُلَّمَا كَثُرَتِ التَّلْبِيَةُ مِنْ الحَاجِّ كَانَ حَجُّهُ أَفْضَلَ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُئِلَ: أَيُّ الحَجِّ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «العَجُّ وَالثَّجُّ» "العَجُّ": رَفْعُ الصَّوْتِ بالتَّلْبِيَةِ، و"الثَّجُّ": سَيَلانُ دِمَاءِ الهَدْيِ.
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّلْبِيَةِ إِلاَّ أَنَّ مَنْ مَاتَ مُحْرِمًا يُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلَبِّيًا لِأَنَّهَا شِعَارُ النُّسُكِ؛ لَكَانَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي بَيَانِ فَضْلِهَا، وَلُزُومِ الحِرْصِ عَلَيْهَا، وَرَفْعِ الصَّوْتِ بِهَا، وَفِي قِصَّةِ الرَّجُلِ الَّذِي وَقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ فِي عَرَفَةَ، فَمَاتَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلاَ تُحَنِّطُوهُ، وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلَبِّيًا»؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَبَعْدُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ: فَهَذِهِ هِيَ التَّلْبِيَةُ شِعَارُ الحَجِّ وَزِينَتُهُ، فِيهَا تَوْحِيدٌ وَخُلُوصٌ للهِ تَعَالَى، وَإِقْبَالٌ عَلَيْهِ بِالقَلْبِ كَمَا أَقْبَلَ الجَسَدُ عَلَى مَوَاضِعِ النُّسُكِ، وَحَاجَةُ اللهِ تَعَالَى إِلَى عِبَادِهِ صَلاحُ قُلُوبِهِمْ؛ [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ] {الحَجّ:32}.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاعْمُرُوا أَوْقَاتَكُمْ بِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى؛ اسْتِثْمَارًا لهَذِهِ العَشْرِ المُبَارَكَةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ أَيَّامِ الدُّنْيَا، أَكْثِرُوا مِنْ صَلاَةِ النَّافِلَةِ، وَقِرَاءَةِ القُرْآنِ، وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الذِّكْرِ، وَاجْهَرُوا بِالتَّكبِيرِ فِي بُيُوتِكُمْ وَأَسْوَاقِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ، وَكَبِّرُوهُ فِي كُلِّ أَحْوَالِكُمْ قَائِمِينَ وَقَاعِدينَ وَرَاقِدِينَ وَمَاشِينَ، وَفِي سَيَّارَاتِكُمْ وَرَاجِلِينَ؛ فَإِنَّهَا شِعَارُ هَذِهِ الأَيَّامِ كَمَا كَانَتِ التَّلْبِيَةُ شِعَارَ الأَنْسَاكِ.
بَرْوا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ المُبَارَكَةِ وَالِدِيكُمْ، وَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ، وَأَحْسِنُوا إِلَى جِيرَانِكُمْ، وَتَفَقَّدُوا الضُّعَفَاءَ مِنْكُمْ..
أَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَاسْقُوا المَاءَ، وَابْذُلُوا الإِحْسَانَ، وَاسْتَغْرِقُوا أَوْقَاتِكُمْ فِي الطَّاعَاتِ؛ فَإِنَّ العَمَلَ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ مُبَارَكٌ بِبَرَكَتِهَا، وَمُفَضَّلٌ بِفَضْلِهَا.
وَمِنَ العَمَلِ الصَّالِحِ المَشْرُوعِ صِيَامُ هَذِهِ الأَيَّامِ، وَلاَ سِيَّمَا صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ وَاقِفٍ بِعَرَفَةَ، فَقَدْ قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَهَذَا فَضْلٌ عَظِيمٌ أَنْ يُكَفِّرَ اللهُ تَعَالَى سَنَتَيْنِ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَاحِدٍ.
ومِنَ العَمَلِ الصَّالِحِ ذَبْحُ الضَّحَايَا فِي يَوْمِ العِيدِ، وَالتَّقَرُّبُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِهَا؛ [فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ] {الكوثر:2}، وَهِيَ سُنَّةُ الخَلِيلَيْنِ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٌ -عَلَيْهِمَا الصَّلاَةُ وَالسَّلامُ-، وَقَدْ رَوىَ أَنَسٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: «ضَحَّى النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ»؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَاشْكُرُوا اللهَ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ، وَسَخِّرُوهَا فِي طَاعَتِهِ، [وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ] {البقرة:198}.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...


المرفقات

شعار الحج وزينته.doc

شعار الحج وزينته.doc

شِعَارُ الحَجِّ وَزِينَتُهُ.doc

شِعَارُ الحَجِّ وَزِينَتُهُ.doc

المشاهدات 3405 | التعليقات 3

جزاك الله خير الجزاء


وفقك الله وسددك .. وبارك في علمك وعملك .. وجزاك الله خيرا كثيرا


جزاك الله خيرا