شرف خدمة البيت
هلال الهاجري
الحمدُ للهِ الذي وفقَّ عبادَه الطَّائعينَ لأداءِ فريضةِ الحجِّ، ودعاهم فلبَّوا وأتوا من كلِّ بلدٍ وفجٍّ، امتثالاً لأمرِه تعالى: (وَأَذّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ * لّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ)، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، يُنعمُ على حُجَّاجِ بيتِه الحرامِ بالمغفرةِ والرِّضوانِ والإكرامِ، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا محمَّدًا عبدُه ورسولُه، وصفيِّه من خلقِه وخليلِه، خيرَ من حجَّ واعتمرَ وصلَّى وصامَ، بيَّنَ لنا المناسكَ والأحكامَ، فقالَ عليه أفضلُ الصَّلاةِ وأكملُ السَّلامِ: (خذوا عني مناسكَكم)، فيا ربِّ صلِّ على الهادي البشيرِ وعلى آلِه الطَّاهرينَ وصحابتِه الغُرِّ الأعلامِ ومن اقتدى واهتدى بهداهم على الدَّوامِ .. أما بعد:
جهَّزَ أَبرهةُ جيشًا، وخرجَ قاصدًا "البيتَ الحرامَ" ليهدمَه، وهزمَ في طريقِه جيشًا من أهلِ اليمنِ، وجيشًا آخرَ من قبيلةِ خثعمٍ، واستسلمْ له أهلُ الطائفِ، وبعثوا معه دليلاً يُسمَّى "أبو رِغالٍ"، كانت العربُ ترجمُ قبرَه كلَّما مرَّتْ به لخيانتِه، ولمَّا وصلَ جيشُ أبرهةَ مكَّةَ، أصابَ مائتي بعيرٍ لعبدِ المُطَّلبِ بنِ هاشمٍ سيِّدِ مكةَ، فلمَّا قابلَ عبدُ المطَّلبِ أبرهةَ طلبَ منه أن يَردَّ له بُعرانَه المائتينِ، فقالَ له أبرهةُ متعجِّبًا: كنتُ أنتظرُ منك أن تحدِّثني عن هدمِ البيتِ الذي تطوفونَ حولَه، فقالَ له عبدُ المطَّلبِ: (أنا ربُّ الإبلِ، وللبيتِ ربٌّ يحميه)، فأرجعَ أبرهةُ له الإبلَ التي أصابها جيشُه، فلمَّا انصرفوا عنه، ذهبَ عبدُ المطَّلبِ إلى قريشٍ وأخبرَهم بما جرى، وأمرهم بالخروجِ من مكَّةَ والتحرُّزِ في رؤوسِ الجبالِ خوفًا عليهم من معرَّةِ الجيشِ، وقامَ عبدُ المطَّلبِ وأخذَ حلقةَ بابِ الكعبةِ المشرَّفةِ، ومعه نُفرٌ يَدعونَ اللهَ ويستنصرونَه على أبرهةَ وجندِه، وقالَ عبدُ المطَّلبِ وهو آخذٌ بحلقةِ بابِ الكعبةِ:
اللهمَّ إنَّ العبدَ يمنعُ رحلَه، فامْنَع رِحالَك .. لا يَغلِبَّنَّ صليبُهم ومُحالهُم أَبداً مِحالَك .. إِنْ كنتَ تارِكَهُمْ وقِبلَتَنا فَأمُرْ ما بدَا لكْ.
ثمَّ أرسلَ عبدُ المطَّلبِ حلقةَ بابِ الكعبةِ، وانطلقَ هو ومَن معه مِن قريشٍ إلى شَعفِ الجبالِ يتحرَّزونَ فيها، ينتظرونَ ما أبرهةُ فاعلٌ، فلمَّا أصبح أبرهة، تهيَّأ لدخولِ مكَّةَ، وهيَّأ فيلَه، وعبَّى جيشَه، وكانَ اسمُ الفيلِ: "محمودٌ"، فلمَّا وجَّهوا الفيلَ إلى مكَّةَ، أقبلَ نفيلُ بنُ حبيبٍ حتَّى قامَ إلى جَنبِ الفيلِ، ثمَّ أخذَ بأذنِه، فقالَ: اُبركْ محمودٌ، وارجعْ راشدًا من حيثُ أتيتَ، فإنَّك في بلدِ اللهِ الحرامِ، وأرسلَ أُذنَه، فبركَ الفيلُ.
وخرجَ نفيلُ بنُ حبيبٍ يشتدُّ حتى أُصعدَ في الجبلِ، وضربوا الفيلَ ليقومَ فأبى، فضربوا رأسَه ليقومَ، فأبى، فوجَّهوه راجعًا إلى اليمنِ، فقامَ يُهرولُ، ووجَّهوه إلى الشَّامِ ففعلَ مثلَ ذلك، ووجَّهوه إلى المشرقِ، ففعلَ مثلُ ذلك، ووجَّهوه إلى مكَّةَ فبركَ.
وأرسلَ اللهُ على أبرهةَ وجيشِه أسرابًا من طُيورٍ من البَحرِ أَمْثَالَ الْخَطَاطِيفِ، معَ كلِّ طائرٍ منها ثلاثةُ أحجارٍ يحملُها، حجرٌ في منقارِه، وحجرانِ في رجليه، أمثالُ الحُمِّصِ والعَدسِ لا تُصيبُ منهم أحدًا إلا هلكَ، وليسَ كلَّهم أَصابتْ، وولَّى من نجوا الأدبارَ هاربينَ، يبتدرونَ الطَّريقَ التي منها جاءوا، فخرجوا يتساقطونَ بكلِّ طريقٍ ويهلكونَ بكلِّ مَهلكٍ على كلِّ منهلٍ، وَجَعَلَ نفيلٌ يقولُ وهو فوقَ الجبلِ:
أين المفرُّ والإلهُ الطالبُ *** والأشرمُ المغلوبُ ليس الْغَالِبُ
وأُصيبَ أبرهةُ في جسدِه، وخرجوا به معهَم يسقطُ أُنملةً أُنملةً، كلَّما سقطتْ أُنملةٌ خرجَ مكانَها قيحٌ ودمٌ حتَّى قَدموا به صَنعاءَ، وهو مِثلُ فَرخِ الطَّائرِ، فما ماتَ حتَّى انصدعَ صدرُه عن قلبِه.
أقولُ ما تَسمعونَ واستغفرُ اللهَ لي ولكم وللمسلمينَ فاستغفروهُ إنَّهُ هو الغفُورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله حمدا طَيِّبا كَثيرا مُبارَكا فِيه كَمَا يُحبُّ رَبُّنا ويَرضى، ونشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ لَهُ، ونَشهدُ أنَّ مُحمَّداً عبدُ اللهِ ورَسُولُهُ صلَّى اللهُ وسلَّم وباركَ عليهِ وعلى آلِهِ وأصحَابِهِ ومَنْ اقتفى أثَرُهُ، أمَّا بعدُ:
يا أهلَ الإيمانِ .. ما رَأيناهُ في قِصةِ الفيلِ موقفٌ من مواقفِ تعظيمِ اللهِ تعالى لبيتِه الحرامِ، وأن له قَدْراً عظيماً عندَ اللهِ وعندَ النَّاسِ، ولا يَزالُ والحمدُ للهِ ظَاهراً فِيما نَراهُ من العنايةِ والتَّعظيمِ لهو شيءٌ يفوقُ الوصفَ، توسعةٌ عظيمةٌ تَسِعُ الملايين، ومصنعٌ خاصٌ لكُسوةِ الكعبةِ بأفضلِ التَّقنياتِ والأيدي الحِرفيَّةِ، نظافةٌ وصيانةٌ على مدارِ السَّاعة، ماءُ زمزمٍ في كلِّ وقتٍ وحينٍ، أمنٌ وأمانٌ، عبادةٌ واطمئنانُ، وأجواءٌ مليئةٌ بالسَّعادةِ والإيمانِ، وصدقَ اللهُ تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ).
وأما خِدمةُ الحُجَّاجِ فهو أغربُ من الخيالِ، استنفارٌ للجميعِ، حكومةً وشعباً وعلى رأسِهم المَلكُ، أجهزةُ الأمنُ بجميعِ قطاعاتِها، والصِّحةُ وكلُّ أقسامِها، والدوائرُ الحكوميةُ وسائرُ خدماتِها، فأمنُ الحُجاجِ خطٌ أحمرُ، وراحتُهم غايةٌ عظمى، إرشادٌ وعِنايةٌ، إطعامٌ وسِقايةٌ، معالمُ التَّوحيدِ ظاهرةٌ، ومظاهرُ الشِّركِ داحرةٌ، معروفٌ به يُؤمرُ، ومنكرٌ عنه يُنهى، اجتماعُ الملايينَ من بلادٍ مُختلفةٍ، وعاداتٍ مُختلفةٍ، في مكانٍ واحدٍ، وفي وقتٍ واحدٍ، وتفويجُهم بينَ المَناسكِ بانسيابيَّةٍ تامَّةٍ، وعنايةٍ هامَّةٍ، فحُقَّ لهذهِ البلدِ أن تفخرَ بشرفِ خدمةِ البيتِ، وشرفِ ضيافةِ الحاجِّ، حتى يَرجعَ إلى أهلِه غَانِماً، قد حازَ الأجرَ وأدَّى فريضةَ اللهِ، فلتُحافظوا يا أهلَ المسجدِ الحرامِ، على هذه النِّعمةِ بشُكرِ ذي الفضلِ والإنعامِ.
اللهم يسِّر للحُجَّاجِ حجَّهم، واجعل حجَّهم مبرورًا، وسعيَهم مشكورًا، وذنبَهم مغفورًا، اللهم وأحسِن مُنقلبَهم، وأعِدهم إلى ديارِهم سالمينَ غانمينَ مقبولينَ، بمنِّك وجودِك يا أكرمَ الأكرمينَ،، اللهم آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلحْ أئمتَنا وولاةَ أمورِنا، واجعل اللهمَّ ولايتَنا فيمن خافَك واتَّقاكَ، واتَّبعَ رضاك يا ربَّ العالمينَ، اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرِنا بتوفيقِك، وأعِزَّه بطاعتِك، وأعلِ به كلمتَك، واجعله نُصرةً للإسلامِ والمسلمينَ، وألبِسه لباسَ الصِّحةِ والعافيةِ، وأمِدَّ في عُمرِه على طاعتِك، اللهم وفِّقه ووَليَّ عَهدِهِ وأعوانَه والقائمينَ على أمرِ البيتِ الحرامِ والحُجَّاجِ لما تحبُ وترضى، وخُذ بنواصيهم للبرِّ والتَّقوى، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار).
المرفقات
1688057742_شرف خدمة البيت.docx
1688057760_شرف خدمة البيت.pdf
المشاهدات 1201 | التعليقات 2
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
تقبل الله منا ومنكم وجزاك الله خيراً شيخ محمد
تم العديل وبارك الله فيك وفي الأخوة المباركين في هذا الملتقى على التنبيه والتقويم.
محمد محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جزاكم الله خيرا وأحسن إليكم
عيدكم مبارك
تقبل الله منا ومنكم ومن المسلمين
شيخنا الكريم: وقع سبق قلم(عبدالمطلب بن هشام) والصواب: (عبدالمطلب بن هاشم).
نفع الله بكم وبعلمكم
تعديل التعليق