شرف الصيام ... وأحوال الناس في رمضان

جابر السيد الحناوي
1431/09/04 - 2010/08/14 05:48AM
*
شرف الصيام
وأحوال الناس في رمضان



الإخوة الخطباء والدعاة
الإخوة والأخوات رواد المنتدى
أعتذر لكم جميعا عن عدم الكتابة في المنتدى بقية شهر رمضان ، لسفري لأداء العمرة . وأتشرف بإنزال خطبة اليوم أرجو أن تتناسب والجمعة القادمة ، وإلي أن نلتقي في شهر شوال ـ إن شاء الله ـ إن كان في العمر بقية وأراد الله لنا اللقاء ، أرجو ألا تنسونا من صالح دعائكم ، والمسامحة من كل من أكون قد أسأت إليه . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين .
*** ** ***

الصيام هو الركن الرابع من أركان الإسلام فرضه الله على عباده تزكيةً لنفوسهم وتربية لأبدانهم ، وغذاءً لقلوبهم ، قال سبحانه وتعالي : " يَا أَيُهّا الذين آمنُوا كُتِبَ عَليكُمُ الصّيامُ كَمَا كُتِبَ عَلى الّذينَ مِن قَبلِكُم لَعَلكُم تَتقُونَ "( [1] ) فالصوم المطلوب فى جو الآية الكريمة مرتبط بالتقوى ، فالتقوى هدف الصيام وثمرته ، التقوى هى أغلى ما تطلبه النفس المؤمنة ، لأنها التزام بفعل المأمورات ، وترك للمنهيات ، وهى أساس الخشية والخوف من الله.
والتقوى ثمرتها النهائية رضوانُ الله وجنتُه ، والبعدُ عن نارِهِ وعذابِهِ ، وهذا هو أمل كلِّ عاقل ، وشهر رمضان إذا أحسنا استغلاله مع الله فسوف يسلمنا إلى النتيجة المرجوة ، بتوفيق الله ، لا كما يزعمأهل الضلال والانحلال من أن الله فرضه ليشق على عباده ويكلفهم مالا يطيقون ، وإنماالسرفي فريضة الصيام هو : " لِيَعلم اللّهُ من يَخَافُهُ بِالغَيبِ " ( [2] ) وإلا لو قال العبد : إني صائم وانزوى في مكان عن أعين الناس يأكل ويشرب ويستمتع ما شعر به أحد ، لكنه لا يغيب عمن لا تخفى عليه خافية ، فهذه الخشية بالغيب هي سر التكليف الذي هدفه " لَعَلكُم تَتَقُونَ "
والصيام من أجلّ العبادات وأفضلها ، قال عز وجل : " شَهّرُ رَمَضّانَ الّذي أُنزِلَ فيهِ الّقُرآنُ " ( [3] ) فإنزال القرآن في شهر الصيام علامة على فضله.
وقَولَ اللَّهُ عز وجلفي الحديث القدسي : " كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَّا الصِّيَامَ هُوَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ " ( [4] ) فاستثناءالصيام من دون بقية عمل ابن آدم ، واختصاص الله عز وجل بمضاعفة الأجرعليه أضعافاً كثيرة بغيرحصر ولا عدد ، دليل آخر علي شرف عبادة الصيام .
ومما يدلل أيضا علي شرف عبادة الصيام ، أن النبي صلي الله عليه وسلمسمي شهر رمضان بـ" شَهْرَ الصَّبْرِ " ( [5] ) وفي حديث آخر قال : " الصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ" ( [6] ) فالصيام من الصبر والله قد قال في الصبر: " إنّمَا يُوَفى الصابِرُونَ أَجرَهُم بِغَيرِ حِسَاب" ( [7] ) كل هذا يبين مدي فضل عبادة الصوم عند الله سبحانه وتعالي .
وورد أيضا في شرف شهر الصيام عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال : "عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً "( [8] ) وما هذا إلا لشرف الزمان فيحصل به مضاعفة الأجور على الأعمال .
وقد أدرك التابعون هذا الفضل لشهر الصيام .. ورد في الأثر : إذا حضر رمضان فانبسطوا فيه بالنفقة ، فإن النفقة فيه مضاعفة كالنفقة في سبيل الله ، وتسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة في غيره ، والمقصودبالانبساط في النفقة أي على الفقراء والمحتاجين وتفطير الصائمين ونحو ذلك ، لا ما يفعله كثير من الناس اليوم من الإسراف في المآكل والمشارب.
هذابيان لبعض فضائل الصيام ، تدعو العاقل لأن يعض علي هذه العبادة بالنواجذ ، ومع ذلك فإن أحوال الناس تتباين مع هذا الشهر الكريم ، والمشاهد أن أحوال الناس في الصيام تدور بين العادة والعباده ، فما هو الفرق إذاً بين المتعبد والمتعود في رمضان ؟؟
من المسلمات أن المحبون يغارون من اطلاع الغير على الأسرار التي بينهم وبين من يحبهم ويحبونه ، فالمحب لا يرضي أن يفشي سـر محبوبه ، ويحرص علي سرية علاقته به ، فإذا كان هذا في الأمور العاطفية الدنيوية ، فمن باب أولي ـ ولله المثل الأعلي ـ فإنه يجب أن نحقق ذلك في علاقتنا مع الله فيما يتعلق بالصوم ، فالمؤمن المحقق للعباده هو الذي عرف أن الصيام سرًّ بين العبد وربه لا يطلع عليه غيره ، لأنه مركب من نية لا يطلع عليها إلا الله ، ومن ترك لتناول الشهوات التي يستخفي بتناولها في العادة ، ولذلك قيل : "لا تكتبه الحفظة " وقيل : " إنه ليس فيه رياء "
وبعض المؤمنين لو ضرب على أن يفطر في شهر رمضان لغير عذر لم يفعل لعلمه بكراهة اللهلفطره في هذا الشهر، وذلك من علامات الإيمان أن يكره المؤمن ما يلائمه من شهوات إذا علم أن الله يكرهه ، فَتَصَبَّر فيما يرضي مولاه وإن كان مخالفاً لهواه ، ومثل ذلك المدخن الذي يقلع عن التدخين ابتغاء مرضاة الله ، فهو يتحمل آلام الآثار الجانبية للإقلاع عن التدخين بنفس راضية ، بل وبسعادة غامرة ، فالعبد إذا كمل إيمانه كان ألمه فيما يكرهه مولاه وإن كان موافقاً لهواه ، وكان كرهه لذلك كله أعظم من كراهته للقتل ، ولهذا جعل النبي صلي الله عليه وسلم من علامات وجود حلاوة إيمان :"... َأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ"( [9] ) وهذا من قبيل ما قاله يوسف عليه السلام : " رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّايَدْعُونَنِي إِلَيْهِ "( [10] )
وهذا المؤمن المحقق لعبادة ربه علم أن الصيام كَسْـرٌ للنفس ؛ فالشبع والري ومباشرة النساء تحمل النفس على الأشر والبطر والغفلة ، فإذا انكسرت النفس تخلى القلب للفكر والذكر، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان وتنكسر سورة الشهوة والغضب ، ومن هنا بيَّن النبي صلي الله عليه وسلم أن : " الصوم وجاء " لقطعه شهوة النكاح .
صفة أخرى من صفات هذا المؤمن المحقق لعبادة ربه في رمضان هي العمل بقوله صلي الله عليه وسلم : " مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ "( [11] ) فهذا المؤمن علم بأنه لا يتم التقرب إلى الله سبحانه وتعالي بترك الشهوات المباحة في غير حالة الصيام إلا بعد التقرب إليه بترك ما حرمه الله في كل حال ، من الكذب والظلم والعدوان على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم ، فانتهي عن كل ذلك ليسلم له صيامه من كل ما يمنعه من القبول .
الصائم الحق هو الذي استبشر بدخول رمضان لعلمه بما يجده من اللذه بصيامه ومن الأنس في قيامه ، فنهاره كله يقضيه في الطاعات .. بين تسبيح وتهليل وتحميد وبر وإحسان وأمر بالمعروف ونهي عنالمنكر ... الخ صنوف الطاعات ، وأما ليله فلا يتهجع فيه إلا القليل ، يقضيه بين الصلاة ، وتدبر للقرآن ، والاستغفار بالأسحار ، ما وصفهم الله سبحانه وتعالي : " كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ "( [12] )
فهوعلى هذه الحال طوال أيام شهره ولياليه ، فإذا دخل العشر الأواخر جدّ كما كان يجدّ رسول الله صلي الله عليه وسلم : فـ "ُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ " ( [13] ) مستشعراً قوله صلي الله عليه وسلم: " مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ... " ( [14] ) مستحضراً نصيحته صلي الله عليه وسلم : " ... فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ من رمضان ..." ( [15] )فإذا كانت صبيحة العيد تحققت له أولى الفرحتينممزوجة بالحزن ، حين يصبح مفطراً حامداً لله على تمامه الصيام حزيناً على فراق رمضان ، الذي قضى في كنفه طوال أيام الشهر، و هو لا يدري أيلقاه مرة أخري في عام قابل أم لا يكون ملاقيا .

*** *** ***
وأما الصنف الآخرمن الناس فهم الصائمون بالعادة لا بالعبادة ، فهؤلاء حدث عن حالهم ولا حرج ، ومما يؤسف له فإنهم في هذا الزمان كثير إلا من رحم الله ، جعلني الله وإياكم ممن رحم . قال سبحانه وتعالي : " وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ "( [16] )
فمن هؤلاء من يتشدد علي نفسه بغير علم ، فيصوم على ما تقتضيه الموائد لا على ما يقتضيه الإيمان ويوجبه ، فَلِجَهْلِه وقلة فقهه قد لا يفطر لعذر ولو تضرر بالصوم ، مع أن الله يحبمنه أن يقبل رخصته ، " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ " ( [17] ) فمثل هذا يصوم جرياً منه على العاده ، يشق علي نفسه فلا يفطر لعذر المرض ، وهو مع ذلك قد يكون ممن اعتاد ما حرم الله من الزنا والربا ، وأخذ أموال الناس وأعراضهم بغير حق ، فهذا يجري في ذلك كله على العوائد لا على مقتضى الإيمان.
ومن هؤلاء من إذا صام عن شهواته المحرمة التي اعتاد فعلها في غير رمضان كان صيامه عنها وقتياً ، فتراه يتحين غروب الشمس ليهرع إلى ما استمراً عليه من شهواته المحرمة ، بل ربما بادر بالفطر على شيء من هذه المحرمات كما يفعل بعض المدخنين هداهم الله.
وربما لو صام بعضهم عما أباحه الله من الأكل والشرب والجماع ، لكنه في الحقيقة لم يصم عن بقية المحظورات كاللغو والسباب والغيبة والنميمة والغشّ في التعامل والربا وسائر صنوف العصيان مما حرمه الله على الإطلاق ، فكيف بحرمتها على الصائم ، وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم : " رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ " ( [18] )
فالصيام قربة ولكن هذاالتقرب إلى الله بترك المباحات لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات فمنارتكب المحرمات ثم تقرب بترك المباحات كان بمثابة من ترك الفرائض ويتقرب بالنوافل .
ومن أهل الصيام بالعادة من لا يستشعر لذة الصيام وحلاوة القيام ، فإذا أفطر من يومه كأنه انحط عنه ثقل عظيم ، فإذا حل الفجر لصيام اليوم التالي عاد إليه ذلك الثقل وزاد عليه الهمّ ، يحسب لأيام الشهر كم بقي علي آخره وكأن شهرَه دهر ، فإذا انقضى رمضان انتابته سعادة باهتة بانقضاء الشهر لا بالفرح بالصيام والقيام ، وذلك لأنه لم يصم على سبيل التعبد ولكن على سبيل التعود ، فلم يحدث الصيامُ عنده توبة أو إنابة ولا مزيدَ طاعةٍ أو عبادة .
والصيام عند هؤلاء أيضاً يقطع عنهم لذة التمتع في نهارهم بأكل الحرام وشرب الحرام وارتكاب الحرام مع أنهم في لياليهم لا يتورعون عن ذلك كله ، فليلُهم يهدم نهارَهم ، وسيئاتُهم تذهب حسناتِهم ...
فما أن ينقضي الشهر إلا ويعود على ما كان عليه من الغفلة والإعراض ، وهكذا دواليك زماناً بعد زمان حتى يبادره هادم اللذات كأن لم يثبت فيهاإلا ساعة من نهار.
ولو فحصت القوم لوجدت أهل العادة أكثر وأهل العبادة قليل ، وصدق الله إذ يقول : " إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُم " ( [19] )
فهل لك أخي - يا من ترجو رحمة الله - أن تسعى لتكون من القليل ، أن تكون ذاك المتعبد لا المتعود ، نسأل الله العزيز الرحيم أن يجعلني وإياكم منهم .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين .
(جميع الحقوق متاحة لكافة المسلمين بمختلف الوسائل غير الربحية فإنها تحتاج إلي تصريح كتابي )




[1] سورة البقرة الآية 183
[2] سورة المائدة الآية 94
[3] سورة البقرة الآية 185
[4] مسند أحمد 21 / 180
[5] سنن أبي داود 6 / 403
[6] سنن الترمذي 11 / 425
[7] سورة الزمرالآية 10
[8] سنن ابن ماجه 9 / 82
[9] صحيح البخاري 1 / 26
[10] سورة يوسف الآية 33
[11] صحيح البخاري 6 / 472
[12] سورة الذاريات:18،17
[13] صحيح البخاري 7 / 153
[14] صحيح البخاري 6 / 468
[15] صحيح البخاري 7 / 158
[16] سورة يوسف الآية 103
menupop.gif
[17] مسند أحمد 12 / 137
[18] سنن ابن ماجه 5 / 205
[19] سورة ص الآية 24
المشاهدات 6185 | التعليقات 4

هنيئا لك

وأسأل الله أن يتقبل منا ومنك صالح العمل


اللهم تقبل عمرة الشيخ جابر الحناوي.
ورده إلى بلده سالماً غانماً.


ماجد آل فريان;3900 wrote:
اللهم تقبل عمرة الشيخ جابر الحناوي.

ورده إلى بلده سالماً غانماً.

جزاكم الله كل خير ونسأل الله أن يجعلنا وإياكم من عتقائه من النار


مازن النجاشي;3910 wrote:
هنيئا لك

وأسأل الله أن يتقبل منا ومنك صالح العمل

جزاكم الله كل خير
ونسأل الله أن يجعلنا وإياكم من عتقائه من النار