شرح حديث العرباض بن سارية للعلامة ابن عثيمين.
علي الفضلي
1433/11/28 - 2012/10/14 03:50AM
شرح حديث العرباض بن سارية:
(( عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون وهذا من دأبه صلى الله عليه وسلم أنه كان يعظ الناس أحيانا على وجه راتب كما في يوم الجمعة خطب يوم الجمعة وخطب العيدين؛ وأحيانا على وجه عارض إذا وجد سبب يقتضي الموعظة قام عليه الصلاة والسلام فوعظ الناس ومن ذلك موعظته صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الكسوف فإنه خطب ووعظ موعظة عظيمة بليغة من أحب أن يرجع إليها فعليه بكتاب زاد المعاد لابن القيم رحمه الله.
أما هنا فيقول وعظنا موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون ..
(وجلت) يعني خافت؛ وذرفت العيون من البكاء فأثرت فيهم تأثيرا بالغا حتى قالوا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا؛ لأن المودع إذا أراد المغادرة فإنه يعظ من خلفه بالمواعظ البليغة التي تكون ذكرى لهم فلا ينسونها؛ ولهذا تجد الإنسان إذا وعظ عند فراق لسفر أو غيره فإن الموعظة تمكث في قلب الموعوظ وتبقى لهذا قالوا: كأنها موعظة مودع فأوصنا؛ فقال صلى الله عليه وسلم: أوصيكم بتقوى الله؛ وهذه الوصية هي التي أوصى بها الله عز وجل عباده كما قال تعالى وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ. والتقوى كلمة جامعة من أجمع الكلمات الشرعية ومعناها اتخاذ وقاية من عذاب الله أن يتخذ الإنسان وقاية من عذاب الله ولا يكون هذا إلا بفعل الأوامر واجتناب النواهي، ولا يكون فعل الأوامر واجتناب النواهي إلا بعلم الأوامر والنواهي، إذن فلابد من علم ولابد من عمل، فإذا اجتمع للإنسان العلم والعمل نال بذلك خشية الله وحصلت له التقوى؛ فتقوى الله إذن أن يتخذ الإنسان وقاية من عذابه بفعل أوامره واجتناب نواهيه؛ ولا وصول إلى ذلك إلا بالعلم وليس المراد بالعلم أن يكون الإنسان بحرا! لا المراد به العلم بما يتعين عليه من أوامر الله؛ والناس يختلفون في ذلك فمثلا من عنده مال يجب أن يعلم أحكام الزكاة، ومن قدر على الحج وجب عليه أن يعلم أحكام الحج، وغيرهم لا يجب عليهم، فالعلوم الشرعية فرض كفاية إلا ما تعين على العبد فعله، فإن علمه يكون فرض عين .
قال صلى الله عليه وسلم: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي؛ السمع والطاعة يعني لولي الأمر؛ وإن تأمر عليكم عبد حبشي: سواء كانت إمرته عامة كالرئيس الأعلى في الدولة أو خاصة كأمير بلدة أو أمير قبيلة وما أشبه ذلك، وقد أخطأ من ظن أن قوله: "وإن تأمر عليكم عبد حبشي" أن المراد بهم الأمراء الذين دون الولي الأعظم الذي يسميه الفقهاء الإمام الأعظم، لأن الإمارة في الشرع تشمل الإمارة العظمى وهى الإمامة، وما دونها كإمارة البلدان والمقاطعات والقبائل وما أشبه ذلك، ودليل هذا أن المسلمين منذ تولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانوا يسمون الخليفة أمير المؤمنين فيجعلونه أميرا، وهذا لا شك فيه ثم يسمى أيضا إماما لأنه السلطان الأعظم، ويسمى سلطانا؛ لكن الذي عليه الصحابة أنهم يسمونه أمير المؤمنين.
وقوله: وإن تأمر عليكم عبد حبشي، يعني حتى ولو لم يكن من العرب لو كان من الحبشة وتولى وجعل الله له السلطة فإن الواجب السمع والطاعة له، لأنه صار أميرا؛ ولو قلنا بعدم السمع والطاعة له لأصبح الناس فوضى كل يعتدي على الآخر، وكل يضيع حقوق الآخرين. وقوله: السمع والطاعة: هذا الإطلاق مقيد بما قيده به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال إنما الطاعة في المعروف ثلاث مرات، يعني فيما يقره الشرع؛ وأما ما ينكره الشرع فلا طاعة لأحد فيه حتى لو كان الأب أو الأم أو الأمير العام أو الخاص؛ فإنه لا طاعة له؛ فمثلا لو أمر ولي الأمر بأن لا يصلي الجنود، قلنا لا سمع ولا طاعة لأن الصلاة فريضة فرضها الله على العباد وعليك أنت أيضا أنت أول من يصلي وأنت أول من تفرض عليه الصلاة فلا سمع ولا طاعة! لو أمرهم بشيء محرم كحلق اللحى مثلا قلنا لا سمع ولا طاعة نحن لا نطيعك! نحن نطيع النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال أعفوا اللحى وحفوا الشوارب وهكذا كل ما أمر به ولي الأمر إذا كان معصية لله فإنه لا سمع له ولا طاعة؛ يجب أن يعصى علنا ولا يهتم به لأن من عصى الله وأمر العباد بمعصية الله فإنه لا حق له في السمع والطاعة؛ لكن يجب أن يطاع في غير هذا، يعني ليس معنى ذلك أنه إذا أمر بمعصية تسقط طاعته مطلقا، لا؛ إنما تسقط طاعته في هذا الأمر المعين الذي هو معصية لله، أما ما سوى ذلك فإنه تجب طاعته.
وقد ظن بعض الناس أنها لا تجب طاعة ولي الأمر إلا فيما أمر الله به وهذا خطأ لأن ما أمر الله به فإنه يجب علينا أن ننفذه ونفعله سواء أمرنا به ولي الأمر أم لا فالأحوال ثلاثة:
إما أن يكون ما أمر به ولي الأمر مأمورا به شرعا كما لو أمر بالصلاة مع الجماعة مثلا فهذا يجب امتثاله لأمر الله ورسوله ولأمر ولي الأمر.
وإما أن يأمر ولي الأمر بمعصية الله من ترك واجب أو فعل محرم فهذا لا طاعة له ولا سمع.
وإما أن يأمر الناس بما ليس فيه أمر شرعي ولا معصية شرعية فهذا تجب طاعته فيه لأن الله قال: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } فطاعة ولي الأمر من غير معصية طاعة لله ولرسوله.
ثم قال صلى الله عليه وسلم فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا يعني أن من سيعيش منكم ويمد له في عمره فسيرى اختلافا كثيرا اختلافا كثيرا في الولاية واختلافا كثيرا في الرأي واختلافا كثيرا في العمل واختلافا كثيرا في حال الناس عموما وفي حال بعض الأفراد خصوصا، وهذا الذي وقع فإن الصحابة رضي الله عنهم لم ينقرضوا حتى حصلت الفتن العظيمة منها قتل عثمان رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وقبلهما مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغير ذلك من الفتن المعروفة في كتب التاريخ .
والذي يجب علينا إزاء هذه الفتن أن نمسك عما شجر بين الصحابة وألا نخوض فيه وألا نتكلم فيه لأنه كما قال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -: هذه دماء طهر الله سيوفنا منها فيجب أن نطهر ألسنتنا منها وصدق رضي الله عنه فما فائدة أن ننبش عما جرى بين علي بن أبي طالب وعائشة رضي الله عنها أو بين علي ومعاوية من الحروب التي مضت وانقضت ذكر هذه الحروب وتذكرها لا يزيدنا إلا ضلالا لأننا في هذه الحال نحقد على بعض الصحابة ونغلو في بعض كما فعلت الرافضة حين غلو في آل البيت فزعموا أنهم يوالون آل البيت وإن آل البيت لبراء من غلوهم .
............. المهم أنني أقول إن مذهب أهل السنة والجماعة أن نسكت عما شجر بين الصحابة فلا نتكلم فيه، نعرض بقلوبنا عما جرى بينهم ونقول كلهم مجتهدون المصيب منهم له أجران والمخطئ منهم له أجر واحد وتلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يفعلون.....
المهم أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا وهذا هو الذي وقع وكان ولكن هل هذه الجملة تنزل على كل زمان بمعني أن كل من عاش من الناس فسوف يرى التغير أو أن هذا خاص بمن خاطبهم الرسول عليه الصلاة والسلام ؟
نقول: إنه ينطبق على كل زمان فالذين عمروا منا يجدون الاختلاف العظيم بين أول حياتهم وآخر حياتهم فمن عاش ومد له في العمر رأى التغير العظيم في الناس رأى التغير لأنه كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا.
ثم حث النبي صلى الله عليه وسلم عند هذا الاختلاف على لزوم سنة واحدة فقال عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا عندما نرى هذا الاختلاف أن نلزم سنته.
فقوله: عليكم بسنتي يعني الزموها؛ وكلمة: "عليكم" يقول علماء النحو: إنها جار ومجرور تحول إلى فعل الأمر يعني: الزموا سنتي؛ وسنته عليه الصلاة والسلام هي طريقته التي يمشي عليها عقيدة وخلقا وعملا وعبادة وغير ذلك؛ نلزم سنته ونجعل التحاكم إليها كما قال الله تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } فسنة النبي عليه الصلاة والسلام هي سبيل النجاة لمن أراد الله نجاته من الخلافات والبدع وهى ولله الحمد موجودة في كتب أهل العلم الذين ألفوا في السنة مثل الصحيحين للبخاري ومسلم والسنن والمسانيد وغيرها مما ألفه أهل العلم وحفظوا به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: "وسنة الخلفاء الراشدين المهديين" : والخلفاء جمع خليفة وهم الذين خلفوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمته علما وعملا ودعوة وجهادا وسياسة؛ وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وألحقنا بهم في جنات النعيم. هؤلاء الخلفاء الأربعة ومن بعدهم من خلفاء الأمة الذين خلفوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمته هم الذين أمرنا باتباع سنتهم؛ ولكن ليعلم أن سنة هؤلاء الخلفاء تأتي بعد سنة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فلو تعارضت سنة خليفة من الخلفاء مع سنة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الحكم لسنة محمد صلى الله عليه وسلم لا لغيرها لأنها - أعني سنة الخلفاء - تابعة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم .
.........فكيف بمن عارض قول الرسول صلى الله عليه وسلم بقول من دون أبي بكر وعمر بمراحل؟!!! يوجد بعض الناس إذا قيل له هذه هي السنة؛ قال: لكن قال العالم الفلاني كذا وكذا من المقلدين المتعصبين لكن من احتج بقول عالم وهو لا يدري عن السنة فهذا لا بأس به لأن التقليد لمن لا يعلم بنفسه جائز ولا بأس به.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تمسكوا بها" أي: تمسكوا بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين؛ "وعضوا عليها بالنواجذ" والنواجذ: أقصى الأضراس؛ وهو كناية عن شدة التمسك فإذا تمسك الإنسان بيديه بالشيء وعض عليه بأقصى أسنانه فإنه يكون ذلك أشد تمسكا مما لو أمسكه بيد واحدة أو بيدين بدون عض؛ فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نتمسك أشد التمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده عليه الصلاة والسلام.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أمر باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين المهدين وحث على التمسك بها والعض عليها بالنواجذ قال: "وإياكم ومحدثات الأمور" يعني: أحذركم من محدثات الأمور أي: من الأمور المحدثة وهذه الإضافة من باب إضافة الصفة إلى موصوفها، والأمور المحدثة يعني بها صلوات الله وسلامه عليه المحدثات في دين الله، وذلك لأن الأصل فيما يدين به الإنسان ربه ويتقرب به إليه الأصل فيه المنع والتحريم حتى يقوم دليل على أنه مشروع؛ ولهذا أنكر الله عز وجل من يحللون ويحرمون بأهوائهم فقال تعالى { وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ } وأنكر على من شرع في دينه ما لم يأذن به فقال: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ } وقال { قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون }.
أما الأمور العادية وأمور الدنيا فهذه لا ينكر على محدثاتها إلا إذا كان قد نُص على تحريمه أو كان داخلا في قاعدة عامة تدل على التحريم؛ فمثلا السيارات والدبابات وما أشبهها لا نقول إن هذه محدثة لم توجد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يجوز استعمالها لأن هذه من الأمور الدنيوية؛ الثياب وأنواعها لا نقول لا تلبس إلا ما كان يلبسه الصحابة البس ما شئت مما أحل الله لك، لأن الأصل الحل، إلا ما نص الشرع على تحريمه كتحريم الحرير والذهب على الرجال وتحريم ما فيه الصورة وما أشبه ذلك .
فقوله صلوات الله وسلامه عليه إياكم ومحدثات الأمور يعني في دين الله وفيما يتعبد به الإنسان لربه ثم قال فإن كل بدعة ضلالة يعني أن كل بدعة في دين الله فهي ضلالة وإن ظن صاحبها أنها خير وأنها هدي فإنها ضلالة لا تزيد من الله إلا بعدا.
وقوله صلوات الله وسلامه عليه: "كل بدعة ضلالة" يشمل ما كان مبتدعا في أصله وما كان مبتدعا في وصفه: فمثلا لو أن أحدا أراد أن يذكر الله بأذكار معينة بصفتها أو عددها بدون سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإننا ننكر عليه، ولا ننكر أصل الذكر ولكن ننكر ترتيبه على صفة معينة بدون دليل.
ولا شك أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم كل بدعة ضلالة عام وهو صادر من أفصح الخلق وأنصح الخلق عليه الصلاة والسلام وهو كلام واضح كل بدعة مهما استحسنها مبتدعها فإنها ضلالة والله الموفق))اهـ باختصار يسير من شرح رياض الصالحين للعلامة ابن عثيمين.
(( عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون وهذا من دأبه صلى الله عليه وسلم أنه كان يعظ الناس أحيانا على وجه راتب كما في يوم الجمعة خطب يوم الجمعة وخطب العيدين؛ وأحيانا على وجه عارض إذا وجد سبب يقتضي الموعظة قام عليه الصلاة والسلام فوعظ الناس ومن ذلك موعظته صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الكسوف فإنه خطب ووعظ موعظة عظيمة بليغة من أحب أن يرجع إليها فعليه بكتاب زاد المعاد لابن القيم رحمه الله.
أما هنا فيقول وعظنا موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون ..
(وجلت) يعني خافت؛ وذرفت العيون من البكاء فأثرت فيهم تأثيرا بالغا حتى قالوا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا؛ لأن المودع إذا أراد المغادرة فإنه يعظ من خلفه بالمواعظ البليغة التي تكون ذكرى لهم فلا ينسونها؛ ولهذا تجد الإنسان إذا وعظ عند فراق لسفر أو غيره فإن الموعظة تمكث في قلب الموعوظ وتبقى لهذا قالوا: كأنها موعظة مودع فأوصنا؛ فقال صلى الله عليه وسلم: أوصيكم بتقوى الله؛ وهذه الوصية هي التي أوصى بها الله عز وجل عباده كما قال تعالى وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ. والتقوى كلمة جامعة من أجمع الكلمات الشرعية ومعناها اتخاذ وقاية من عذاب الله أن يتخذ الإنسان وقاية من عذاب الله ولا يكون هذا إلا بفعل الأوامر واجتناب النواهي، ولا يكون فعل الأوامر واجتناب النواهي إلا بعلم الأوامر والنواهي، إذن فلابد من علم ولابد من عمل، فإذا اجتمع للإنسان العلم والعمل نال بذلك خشية الله وحصلت له التقوى؛ فتقوى الله إذن أن يتخذ الإنسان وقاية من عذابه بفعل أوامره واجتناب نواهيه؛ ولا وصول إلى ذلك إلا بالعلم وليس المراد بالعلم أن يكون الإنسان بحرا! لا المراد به العلم بما يتعين عليه من أوامر الله؛ والناس يختلفون في ذلك فمثلا من عنده مال يجب أن يعلم أحكام الزكاة، ومن قدر على الحج وجب عليه أن يعلم أحكام الحج، وغيرهم لا يجب عليهم، فالعلوم الشرعية فرض كفاية إلا ما تعين على العبد فعله، فإن علمه يكون فرض عين .
قال صلى الله عليه وسلم: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي؛ السمع والطاعة يعني لولي الأمر؛ وإن تأمر عليكم عبد حبشي: سواء كانت إمرته عامة كالرئيس الأعلى في الدولة أو خاصة كأمير بلدة أو أمير قبيلة وما أشبه ذلك، وقد أخطأ من ظن أن قوله: "وإن تأمر عليكم عبد حبشي" أن المراد بهم الأمراء الذين دون الولي الأعظم الذي يسميه الفقهاء الإمام الأعظم، لأن الإمارة في الشرع تشمل الإمارة العظمى وهى الإمامة، وما دونها كإمارة البلدان والمقاطعات والقبائل وما أشبه ذلك، ودليل هذا أن المسلمين منذ تولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانوا يسمون الخليفة أمير المؤمنين فيجعلونه أميرا، وهذا لا شك فيه ثم يسمى أيضا إماما لأنه السلطان الأعظم، ويسمى سلطانا؛ لكن الذي عليه الصحابة أنهم يسمونه أمير المؤمنين.
وقوله: وإن تأمر عليكم عبد حبشي، يعني حتى ولو لم يكن من العرب لو كان من الحبشة وتولى وجعل الله له السلطة فإن الواجب السمع والطاعة له، لأنه صار أميرا؛ ولو قلنا بعدم السمع والطاعة له لأصبح الناس فوضى كل يعتدي على الآخر، وكل يضيع حقوق الآخرين. وقوله: السمع والطاعة: هذا الإطلاق مقيد بما قيده به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال إنما الطاعة في المعروف ثلاث مرات، يعني فيما يقره الشرع؛ وأما ما ينكره الشرع فلا طاعة لأحد فيه حتى لو كان الأب أو الأم أو الأمير العام أو الخاص؛ فإنه لا طاعة له؛ فمثلا لو أمر ولي الأمر بأن لا يصلي الجنود، قلنا لا سمع ولا طاعة لأن الصلاة فريضة فرضها الله على العباد وعليك أنت أيضا أنت أول من يصلي وأنت أول من تفرض عليه الصلاة فلا سمع ولا طاعة! لو أمرهم بشيء محرم كحلق اللحى مثلا قلنا لا سمع ولا طاعة نحن لا نطيعك! نحن نطيع النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال أعفوا اللحى وحفوا الشوارب وهكذا كل ما أمر به ولي الأمر إذا كان معصية لله فإنه لا سمع له ولا طاعة؛ يجب أن يعصى علنا ولا يهتم به لأن من عصى الله وأمر العباد بمعصية الله فإنه لا حق له في السمع والطاعة؛ لكن يجب أن يطاع في غير هذا، يعني ليس معنى ذلك أنه إذا أمر بمعصية تسقط طاعته مطلقا، لا؛ إنما تسقط طاعته في هذا الأمر المعين الذي هو معصية لله، أما ما سوى ذلك فإنه تجب طاعته.
وقد ظن بعض الناس أنها لا تجب طاعة ولي الأمر إلا فيما أمر الله به وهذا خطأ لأن ما أمر الله به فإنه يجب علينا أن ننفذه ونفعله سواء أمرنا به ولي الأمر أم لا فالأحوال ثلاثة:
إما أن يكون ما أمر به ولي الأمر مأمورا به شرعا كما لو أمر بالصلاة مع الجماعة مثلا فهذا يجب امتثاله لأمر الله ورسوله ولأمر ولي الأمر.
وإما أن يأمر ولي الأمر بمعصية الله من ترك واجب أو فعل محرم فهذا لا طاعة له ولا سمع.
وإما أن يأمر الناس بما ليس فيه أمر شرعي ولا معصية شرعية فهذا تجب طاعته فيه لأن الله قال: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } فطاعة ولي الأمر من غير معصية طاعة لله ولرسوله.
ثم قال صلى الله عليه وسلم فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا يعني أن من سيعيش منكم ويمد له في عمره فسيرى اختلافا كثيرا اختلافا كثيرا في الولاية واختلافا كثيرا في الرأي واختلافا كثيرا في العمل واختلافا كثيرا في حال الناس عموما وفي حال بعض الأفراد خصوصا، وهذا الذي وقع فإن الصحابة رضي الله عنهم لم ينقرضوا حتى حصلت الفتن العظيمة منها قتل عثمان رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وقبلهما مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغير ذلك من الفتن المعروفة في كتب التاريخ .
والذي يجب علينا إزاء هذه الفتن أن نمسك عما شجر بين الصحابة وألا نخوض فيه وألا نتكلم فيه لأنه كما قال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -: هذه دماء طهر الله سيوفنا منها فيجب أن نطهر ألسنتنا منها وصدق رضي الله عنه فما فائدة أن ننبش عما جرى بين علي بن أبي طالب وعائشة رضي الله عنها أو بين علي ومعاوية من الحروب التي مضت وانقضت ذكر هذه الحروب وتذكرها لا يزيدنا إلا ضلالا لأننا في هذه الحال نحقد على بعض الصحابة ونغلو في بعض كما فعلت الرافضة حين غلو في آل البيت فزعموا أنهم يوالون آل البيت وإن آل البيت لبراء من غلوهم .
............. المهم أنني أقول إن مذهب أهل السنة والجماعة أن نسكت عما شجر بين الصحابة فلا نتكلم فيه، نعرض بقلوبنا عما جرى بينهم ونقول كلهم مجتهدون المصيب منهم له أجران والمخطئ منهم له أجر واحد وتلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يفعلون.....
المهم أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا وهذا هو الذي وقع وكان ولكن هل هذه الجملة تنزل على كل زمان بمعني أن كل من عاش من الناس فسوف يرى التغير أو أن هذا خاص بمن خاطبهم الرسول عليه الصلاة والسلام ؟
نقول: إنه ينطبق على كل زمان فالذين عمروا منا يجدون الاختلاف العظيم بين أول حياتهم وآخر حياتهم فمن عاش ومد له في العمر رأى التغير العظيم في الناس رأى التغير لأنه كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا.
ثم حث النبي صلى الله عليه وسلم عند هذا الاختلاف على لزوم سنة واحدة فقال عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا عندما نرى هذا الاختلاف أن نلزم سنته.
فقوله: عليكم بسنتي يعني الزموها؛ وكلمة: "عليكم" يقول علماء النحو: إنها جار ومجرور تحول إلى فعل الأمر يعني: الزموا سنتي؛ وسنته عليه الصلاة والسلام هي طريقته التي يمشي عليها عقيدة وخلقا وعملا وعبادة وغير ذلك؛ نلزم سنته ونجعل التحاكم إليها كما قال الله تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } فسنة النبي عليه الصلاة والسلام هي سبيل النجاة لمن أراد الله نجاته من الخلافات والبدع وهى ولله الحمد موجودة في كتب أهل العلم الذين ألفوا في السنة مثل الصحيحين للبخاري ومسلم والسنن والمسانيد وغيرها مما ألفه أهل العلم وحفظوا به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: "وسنة الخلفاء الراشدين المهديين" : والخلفاء جمع خليفة وهم الذين خلفوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمته علما وعملا ودعوة وجهادا وسياسة؛ وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وألحقنا بهم في جنات النعيم. هؤلاء الخلفاء الأربعة ومن بعدهم من خلفاء الأمة الذين خلفوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمته هم الذين أمرنا باتباع سنتهم؛ ولكن ليعلم أن سنة هؤلاء الخلفاء تأتي بعد سنة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فلو تعارضت سنة خليفة من الخلفاء مع سنة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الحكم لسنة محمد صلى الله عليه وسلم لا لغيرها لأنها - أعني سنة الخلفاء - تابعة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم .
.........فكيف بمن عارض قول الرسول صلى الله عليه وسلم بقول من دون أبي بكر وعمر بمراحل؟!!! يوجد بعض الناس إذا قيل له هذه هي السنة؛ قال: لكن قال العالم الفلاني كذا وكذا من المقلدين المتعصبين لكن من احتج بقول عالم وهو لا يدري عن السنة فهذا لا بأس به لأن التقليد لمن لا يعلم بنفسه جائز ولا بأس به.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تمسكوا بها" أي: تمسكوا بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين؛ "وعضوا عليها بالنواجذ" والنواجذ: أقصى الأضراس؛ وهو كناية عن شدة التمسك فإذا تمسك الإنسان بيديه بالشيء وعض عليه بأقصى أسنانه فإنه يكون ذلك أشد تمسكا مما لو أمسكه بيد واحدة أو بيدين بدون عض؛ فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نتمسك أشد التمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده عليه الصلاة والسلام.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أمر باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين المهدين وحث على التمسك بها والعض عليها بالنواجذ قال: "وإياكم ومحدثات الأمور" يعني: أحذركم من محدثات الأمور أي: من الأمور المحدثة وهذه الإضافة من باب إضافة الصفة إلى موصوفها، والأمور المحدثة يعني بها صلوات الله وسلامه عليه المحدثات في دين الله، وذلك لأن الأصل فيما يدين به الإنسان ربه ويتقرب به إليه الأصل فيه المنع والتحريم حتى يقوم دليل على أنه مشروع؛ ولهذا أنكر الله عز وجل من يحللون ويحرمون بأهوائهم فقال تعالى { وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ } وأنكر على من شرع في دينه ما لم يأذن به فقال: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ } وقال { قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون }.
أما الأمور العادية وأمور الدنيا فهذه لا ينكر على محدثاتها إلا إذا كان قد نُص على تحريمه أو كان داخلا في قاعدة عامة تدل على التحريم؛ فمثلا السيارات والدبابات وما أشبهها لا نقول إن هذه محدثة لم توجد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يجوز استعمالها لأن هذه من الأمور الدنيوية؛ الثياب وأنواعها لا نقول لا تلبس إلا ما كان يلبسه الصحابة البس ما شئت مما أحل الله لك، لأن الأصل الحل، إلا ما نص الشرع على تحريمه كتحريم الحرير والذهب على الرجال وتحريم ما فيه الصورة وما أشبه ذلك .
فقوله صلوات الله وسلامه عليه إياكم ومحدثات الأمور يعني في دين الله وفيما يتعبد به الإنسان لربه ثم قال فإن كل بدعة ضلالة يعني أن كل بدعة في دين الله فهي ضلالة وإن ظن صاحبها أنها خير وأنها هدي فإنها ضلالة لا تزيد من الله إلا بعدا.
وقوله صلوات الله وسلامه عليه: "كل بدعة ضلالة" يشمل ما كان مبتدعا في أصله وما كان مبتدعا في وصفه: فمثلا لو أن أحدا أراد أن يذكر الله بأذكار معينة بصفتها أو عددها بدون سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإننا ننكر عليه، ولا ننكر أصل الذكر ولكن ننكر ترتيبه على صفة معينة بدون دليل.
ولا شك أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم كل بدعة ضلالة عام وهو صادر من أفصح الخلق وأنصح الخلق عليه الصلاة والسلام وهو كلام واضح كل بدعة مهما استحسنها مبتدعها فإنها ضلالة والله الموفق))اهـ باختصار يسير من شرح رياض الصالحين للعلامة ابن عثيمين.