شراهةُ الشِّراء
إبراهيم بن صالح العجلان
(شراهة الشراء) 5/11/1440هـ
إخوة الإيمان:
ظاهرةٌ اجتماعيةٌ فَشَتْ بينَ النَّاسُ، وآفَةٌ حياتِيَّةٌ شَاعتْ بلا نَكيرٍ ولا إحْسَاس.
نهى عنها دينُنَا، وتعجُّ بها دُنيانا.
نشتركُ جميعاً في نقدِها، ونُشارِكُ معاً في بقائِها.
نعترفُ فيها بتجاوزِنا وخطئِنا، وَتَغْلُبُنا عليه عوائدُنا وشهوتُنا.
إنها ... ظاهرةُ شراهةِ الشراء، وَحُمَّى الاستهلاك.
هذه الآفةُ والنازلةُ اجتاحتْ الرجالَ والنساءَ، والأغنياءَ والفقراءَ، أتت على الحواضرِ والبوادي، وكلِّ ما هو موجود، وكل ما هو آتي.
بَرزتْ هذه الظاهرةُ وتورَّمَتْ بسبب سهولةِ الحصولِ على المالِ.
قروض بنكيَّة ميسَّرة، وبطاقات ائتمانية مغرية، تؤزُّ الناسَ نحو النَّهم الشرائي أزَّاً، وأصبحت الطلباتُ الزائدةُ في الأسرةِ تُلبَّى فرداً فرداً، حتى حوَّلت الشراهة الاستهلاكية الكماليات إلى ضروريات.
تقول إحدى الإحصاءات: إن ثُلث ما يتمّ وضعه في عربة المشتريات، هو من قبيل الكماليات، التي يمكن الاستغناء عنها ويكون مصيرها غالبًا إلى سلة النفايات.
إنَّ مواجهةَ حٌـمَّى الاستهلاكِ ليس هو دعوة للبخل والإقتار، وليس هو ترك لإظهار نعمة الله على العبد، بل المقصودُ الشراءُ الزائد فوق الحاجة، فهذا مما يدخل في التبذير والإسراف.
إخوة الإيمان:
التقاربُ والانفتاحُ بين البشر، وسهولةُ التواصلِ بين فئاتِ المجتمعِ أوجدَ هذه الظاهرةَ السلبية، فَتَحوَّلَ الشِّراءُ والاقْتِنَاءُ مِنْ سلوكٍ فَرْدِيٍّ إلى حُمَّى عَامَّة، فَالْوَاجِدُ يُسْرِفُ، وَالَّذِي لَا يَجِدُ يَقْتَرِضُ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُجاري ويصرف.
نَهَمُ الاقْتِنَاءِ جَعَلَتْ البعضَ يَعِيشُ هوسَ كلِّ ما هو جَديد، فإذا لاحتْ إليه رَغْبَةٌ اشْتَرى، وإذا هَامَتْ بِخَاطرهِ نَزْوَةٌ اقتنى.
رغبةُ مجاراةِ الغيرِ أفقرتْ رجالاً، وأفسدتْ بيوتاً، وفرَّقَتْ أسراً، حتى نُزِعَتْ بَركةُ الشملِ والفرحِ مِنْ أهلها.
وشهوةُ الشراء جعلت البعض يمتهنُ الاستدانة لأجل مجاراةٍ في كماليَّات، أو تنافسٍ في مظهريَّات!!.
فلأجلِ سَفَرٍ وسياحة، ورغباتٍ فوق الحاجة، تراهُ يقترضُ من هذا، ويستدين من ذاك، ثم لا يَعْبأُ بعد ذلك بإراقة ماء وجهه؛ فيقرع الأبواب، ويُلْحِفُ في المسألة، ويَتَمَسْكَن في الكلام، وقد كان في سَعَةٍ وغنى عن مثل هذه المواقف!.
لنعلم أهلَ الإيمانِ أنَّ الشراءَ فوقَ الحاجة سلوكٌ إسرافيٌ بامتياز، وأهلُ الإسراف عند ربهم مبغوضون ومبعدون، وعن هداه خاسرون ومحجوبون،
يقول سبحانه في وعيد قرآني شديد ترتجُّ له القلوب: (إِنَّ اللهَ لا يَهدِي مَن هُوَ مُسرِفٌ كَذَّابٌ)، وقال سُبحَانَهُ: (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَن هُوَ مُسرِفٌ مُرتَابٌ) وَقَالَ تَعَالى: (وَأَهلَكنَا المُسرِفِينَ) وقال (إنه لا يحب المسرفين).
سُعَارُ الشراءِ المؤدي للتبذير ذمَّه الشرع في كلِّ صوره، في المطعم والمشرب، والملبس والمركب.
ففي الْأَطْعِمَةِ يقول الله﴿كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَاتُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾
وفِي الْمَلَابِسِ وَالْمَرَاكِبِ وَالْأَثَاثِ يأتي التوجيه الربَّاني:﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ ، وَفي الحديث: «كُلُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ». رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.
كم هو مؤسفٌ ومُزْعِجٌ ما وصل إليه حال المبذرين المتباهين، من نشر صور المفاخرة بالموجودات والمقتنيات، ولسان حالهم:(أنا أكثر منك مالاً وأعزُّ نفراً).
هذا الكائن المفاخر المتزاهي شعر أم لم يشعر أنَّه ظالم نفسه، عاقٌ لمجتمعه، بنشره وإشاعته لثقافة التباهي والبَذَخِ.
إيَّاكَ والإسرافَ في لذَّةٍ ** فليسَ للمسْرِفِ إلا الأَسَى
فاقْصِدْ صلاحَ المالِ تَنْعَمْ به ** ومُدَّ رِجْليْكَ بقدْرِ الكِسا
فكَمْ رأَتْ عيْناكَ مِنْ مُسْرِفٍ ** أَسْرفَ مِنْ قبلك قد أفْلَسا
لا يَلِيقُ والله بِالمؤمِنِ أن يهَدْرَ الْأَمْوَالِ، وَفِي الْمُسْلِمِينَ مُشَرَّدُونَ مَحْرُمُونَ، لَا يَجِدُونَ مَا يَسُدُّ جَوْعَتَهُمْ، وَلَا مَا يَكْسُو عَوْرَتَهُمْ؟! فَهَذَا أَشَدُّ في تَحْرِيـمِ الإِسْرَافِ، وَأَوْلَى بِالتَّحْذِيرِ مِنْهُ.
وإِنَّ عَدَمَ الِاهْتِمَامِ بشأن الإسراف رغم المآسي قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِلْعُقُوبَةِ، وَزَوَالِ الْأَمْوَالِ، وَإِفْقَارِ النَّاسِ، كيف والأَخطَارَ تُحيطُ بِنَا، وَالنُذُرُ تَأتِينَا.
عباد الله:
لا يجتمعان، شراهة الشراء التي يأمر بها الهوى، وحفظ المال الذي أمر به الشرع والهدى، فهذا الهوس الشرائي نهايته إفقار النفس والبيت، وَاللَّهُ تَعَالَى كَرِهَ لَنَا قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ.
وإذا ضاعَ المالُ ضاعتْ معه مصالحُ شرعيَّة، ففي حِفْظَ الْمَالِ صيانة وقوة، فإذا حُفِظُ المال، حفظ الدِّينُ وَالْعِرْضُ وَالشَّرَفُ، وَالْأُمَمُ الَّتِي لَا تَمْتَلِكُ الْمَالَ لَا يَحْتَرِمُهَا الْآخَرُونَ، وَالشَّخْصُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ قُوَّةٌ مِنْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ لَا يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَلَا يَأْبَهُونَ بِهِ؛ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ الْحُكَمَاءُ: "مَنْ حَفِظَ مَالَهُ فَقَدْ حَفِظَ الْأَكْرَمَيْنِ: الدِّينَ وَالْعِرْضَ".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
(يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
الخطبة الثانية
أما بعد فيا أيها الكرام: مُجتمَعُنا الذي نَنْعَمُ من خيراتِهِ، قد أَتَى عليه حينٌ من الدَّهْرِ ذاق فيه أهلُهُ من اللأواء والبأساء، ما يجهله كثيرٌ من الأبناء.
فيا أيتُها الأجيالُ المتنعمةُ، سلوا الْـمُعمَّرين عن سنواتِ الجوعِ التي عاشها الأجداد، حتى تُوفيَ مَنْ تُوفيَ بسببِ المجاعات، وحتى هاجرَ مَنْ هاجرَ خوفاً من شبح الجوع، وحالة المسغبة.
سلوا التاريخ القريب عن سنة 1327هـ وما بعدها؟
ينبئكم أن أهل نجد أكلوا البرسيم من شدة الجوع، حتى عمت أمراض جديدة بسبب هذه المأكولات التي لا تصلح إلا للبهائم.
تُمزِّقُهمْ نُيُوبُ الجُوعِ حتَّى*** يَكادُ الشَّيخُ يَعثُرُ بِالعِيالِ
يَشُدُّونَ البُطُونَ على خَوَاءٍ *** وَيَقتَسِمُونَ أَرْغِفَةَ الخَيالِ
ونَامُوا في العَرَاءِ بِلا غِطاءٍ *** وسَارُوا في العَرَاءِ بلا نِعَالِ
إنها حال من اللأواء يجب أن نتذكرَها، ونُذَكِّرَ بها شبابَنا وأبناءَنا، ونحن نرى اجتياحَ الإسرافِ يَغْزو البيوتَ والأفراد.
فأول ما نقاوم هذه الظاهرة الفاسدة المفسدة أن نستشعرَ النعم، وأنْ نحذرَ فواتَها، وأنْ نسعى بالعملِ الصالحِ في رضا مَنْ وَهَبَهَا.
أيتها الأجيال المتنعِّمة... كم حدَّثنا التاريخُ والواقع عن بيوت عامرة، أسّسها آباء مقتدرون، صارت إلى أولاد غلبَ عليهم البَذَخُ، فأفسدوا وأسرفوا، وأتلفوا ما وَرِثُوا، ثم أصبحوا معدمين، لا يجدون ما ينفقون، وخَربَت أحوالهم بسبب الإسراف، وتناسوا أن المبذرين كانوا إخوان الشياطين، وكان الشيطان لربه كفورا.
وبعد إخوة الإيمان...فحتى لا يقعَ الإسرافُ، ولا نصابَ بمرضِ الإدمان الشرائي، فهذه وصايا وخواطرُ تُعالِجُ شيئاً من هذا الوباء.
يأتي في مقدمتها، الإقرار والاعتراف، أننا مبتلون بالإسراف، لابدَّ أن نصارح ذواتنا، ونحدث أنفسنا أننا مصابون بحمَّى الشراء، وأننا نرغب في التخلص من هذه العادة السيئة المفضية إلى الإسراف والحرام.
وحتى لا يقع الإسراف، فكم نحن بحاجة إلى إرادة جادة، تضبط الرغبات العاطفية.
حتى لا تقع الشراهة الاستهلاكية، لا تدخل السوق والمتجر إلا وأنت متفق مع نفسك وأسرتك في تحديد الحاجات، مع ترويض النفس على لياقة الامتناع.
حتى لا نقع في حمى الشراء عش حياتك، وتمتع بموجوداتك، بعيداً عن هوس المسنِّبِين والمسنِّبات.
وحتى لا نصابَ بِهَوَسِ الشراء لابد من التوعية ونشر ثقافة الاستهلاك، حتى يترسخ لدينا أن الإنفاق هو بقدر الحاجة، حتى لو ملك صاحب المال مع الألف ألوفاً، ومع الصنف صنوفاً.
حتى لا يقع النَّهَمُ الاستهلاكي، فقلل من التسوق الالكتروني، فالواقع والتجربة تقول: إن الإنسان يشتري من هذه المواقع سلعاً لم تكن في ذهنه، ناهيكم الإنسان قد يتوقف عن الشراء في الأسواق بسبب الإرهاق البدني، وهذا أمر لا يوجد في الشراء الالكتروني.
وحتى لا يقع التبذير والشراهة، ما أحوجنا أن نشكر الله تعالى بالقناعة، فهي سبيل السعادة والراحة،وقد كان قدوتنا صلى الله عليه وسلم يقولُ: ( اللهم قنًّعني بما رزقتني، وبارك لي فيه)، وأوصى أبا هريرة رضي الله عنه فقال له: (كن ورعًا تكن أعبدَ الناس، وكن قنعًا تكن أشكر الناس) أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني.
وحتى لا يقع الإسراف، فهذه النفوس بحاجة أن تمتلئ بهذا العلاج النبوي الفعَّال، الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (انْظُرُوا إِلَى مَنْ هو أَسفَل مِنْكُمْ وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوقَكُم؛ فهُوَ أَجْدَرُ أَن لا تَزْدَرُوا نعمةَ اللَّه عَلَيْكُمْ).
اللهم قنا شح أنفسنا وقنِّعنا بما رزقتنا ، واحمي بلادنا مِنَ الْفِتَـنِ المدلهمات، والفواحش والمهلكات.
صلوا بعد ذلك على خير البرية، وأزكى البشرية............
المرفقات
الشراء
الشراء-1
الشراء-2
الشراء-3