الخطبة الأولى
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى نِعَمِهِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ ، وَلَك الْحَمْدُ أنْ جَعَلْتَنَا مِنْ أُمِّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارَكَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }.
أما بعد ..
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : الْيَوْمَ يَوْمُ الْعِيدِ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ وَاجْتَمَع مَعَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ العِيدِ الأسبُوعِي فَصَار عِنْدَنَا عِيدَانِ فَدَعُوْنَا نَتَأَمَّلُ سُورَةً قَصِيرَةً قَلِيلةً فِي آيَاتهِا عَظِيمَةً فِي مَعَانِيهَا اجْتَمَع فِيهَا ذِكرُ الصَّلَاةِ وَالنَّحْرِ ألا وَهِيَ سُورَةُ الْكَوْثَرِ .
يَقولُ اللَّهُ تَعَالَى : (( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ )) سُورَةُ الْكَوْثَرِ ، مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ ، وَهِيَ ثَلاثُ آيَاتٍ ، جَاءَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا حَدِيثٌ أَخْرَجَه الْبَزَّارُ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَدِمَ كَعْبُ بنُ الأَشْرَفِ مَكَّةَ فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ أَنْتَ سَيِّدُهُمْ أَلا تَرَى إِلَى هَذَا الْمُنْصَبِرِ الْمُنْبَتِرِ مِنْ قَوْمِهِ يَزْعُمُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنَّا وَنَحْنُ أَهْلُ الْحَجِيجِ وَأَهْلُ السِّقَايَةِ وَأَهْلُ السِّدَانَةِ قَالَ أَنْتُمْ خَيْرٌ مِنْهُ فَنَزَلَتْ ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾ .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : يقولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ الْكَوْثَرُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ هُوَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ اللَّهُ خيرًا كثيرًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، رَوَى الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ إِذَا أَنَا بِنَهْرٍ حَافَّتَاهُ قِبَابُ الدُّرِ الْمُجَوَّفِ قُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ ، فَإِذَا طِيبُهُ أَوْ طِينُهُ مِسْكٌ أَذْفَرُ» ، فَيَجِبُ الإِيـمَانُ بِالْحَوْضِ وَهُوَ مَكَانٌ أَعَدَّ اللَّهُ شَرَابًا لأَهْلِ الْجَنَّةِ يَشْرَبُونَ مِنْهُ قَبْلَ دُخُولِهَا لَكِنْ بَعْدَ عُبُورِ الصِّرَاطِ فَلا يُصِيبُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ ظَمَأٌ وَإِنَّمَا يَشْرَبُونَ مِنْ شَرَابِ الْجَنَّةِ تَلَذُّذًا ، ويُصَبُّ فِي الْحَوْضِ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَرَوَى مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ أَغْفَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِغْفَاءَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُبْتَسِمًا فَقُلْنَا لِمَا ضَحِكْتَ فَقَالَ «أُنْزِلَتْ عَلَيَّ ءَانِفًا سُورَةٌ» فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ حَتَّى خَتَمَهَا وَقَالَ «هَلْ تَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ» فَقُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ «هُوَ نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي الْجَنَّةِ عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ءَانِيَتُهُ عَدَدُ كَوَاكِبِ السَّمَاءِ يُخْتَلَجُوا الْعَبْدُ مِنْهُمْ فَأَقُولُ يَا رَبِّي إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي فَيُقَالُ لِي إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ» فنسألُ اللهَ أنْ يرزقَنا رؤيةَ نبيَنا محمدٍ عليه الصاةُ والسلامُ والشُّربَ من حَوضِه..
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : ثُم يقولُ تَعالى﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ فَصَلِّ لِرَبِّكَ أَيْ صَلاةَ الْعِيدِ، وَقِيلَ صَلاةَ الصُّبْحِ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَقِيلَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْس وَانْحَرْ أَيِ اذْبَحْ يَوْمَ النَّحْرِ الذَّبَائِحَ وَهِيَ البُدْنُ جَمْعُ بَدَن وَهِيَ الإِبِلُ وَهِيَ خِيَارُ أَمْوَالِ الْعَرَبِ، وَتَصَدَّقْ عَلَى الْمَحَاوِيجِ خِلافًا لِمَنْ يَدُعُّهُمْ وَيَمْنَعُ عَنْهُمُ الْمَاعُونَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ ، وخصَّ هَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْنِ بِالذِّكْر ؛ لِأَنَّهُمَا أفضلُ الْعِبَادَاتِ وأَجَلُّ الْقُرُبَات ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ تتضمَّن الْخُضُوعَ فِي الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ لِلَّه وَتَنَقُلَه فِي أَنْوَاعِ الْعُبُودِيَّة ، وَفِي النَّحْر تَقَرَّبٌَ إلَى اللَّهِ بِأَفْضَلِ مَا عِنْدَ الْعَبْدِ مِنْ النَّحَائِر ، وَإِخْرَاجِ الْمَالِ الَّذِي جُبِلَت النُّفُوسُ عَلَى مَحَبَّتِهِ وَالشُّحِّ به ، اللهمَّ قِنا شُحَ أنفسِناوارزقنَا أعَالي الجِنانِ ياربَّ العَالمين .
الخطبة الثانية
الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ ..
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : خَتمَ اللُه السورةَ بقولِه ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ: «وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَانِئَكَ عَدُوَّكَ وَالأَبْتَرُ الْمُنْقَطِعُ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ» ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْأَبْتَرَ الَّذِي إذَا مَاتَ انْقَطَعَ ذِكْرُهُ فَتَوَهَّمُوا لِجَهْلِهِم أَنَّهُ إذَا مَاتَ بَنُوه يَنْقَطِعُ ذِكْرُه ، وَحَاشَا وَكِلَا ، فَقَد أَبْقَى اللَّهُ ذِكْرَهُ ، وَأَوْجَب شَرعَه عَلَى رِقَابِ الْعِبَادِ ، مستمرًّا عَلَى دَوَامِ الْآبَادِ إلَى يَوْمِ الْحَشْرِ ، صلواتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دائمًا إلَى يَوْمِ التناد . اهـ .
وهذا كما قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا أُذكَرُ إِلَّا ذُكِرْتَ مَعِي، أَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: رَفَعَ اللهُ ذِكرَهُ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ، فَلَيسَ خَطِيبٌ وَلَا مُتَشَهِّدٌ وَلَا صَاحِبُ صَلَاةٍ إِلَّا يُنَادِي بَها: أَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ، فاللهُمَّ صلِّ وسلِّم على حبيبِنا محمدٍ ما تعاقبَ الليلُ والنهارُ وماغرَّد قُمريٌّ بالأشجارِ وماسَالت دوحةٌ بالأنهار.
اللَّهُمَّ آتِ نُفُوسَنَا تَقْوَاهَا ؛ وزكِّها أَنْتَ خَيْرُ مِنْ زَكَّاهَا ، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاهَا ، اللَّهُمَّ أَصْلِح لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمَرِنَا وَأَصْلَح لَنَا دُنيَانا الَّتِي فِيهَا معاشُنا وَأَصْلَح لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا معادُنا وَاجْعَل الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ وَالْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ .
.
يوسف العوض
عضو نشطعذرا / الجمعة الثانية من شهر ذي الحجة الموافقة ليوم عيد الأضحى1441/12/10هـ
تعديل التعليق