شذا العرف في سيرة ابن عوف!

د. محمد بن سعود
1440/03/28 - 2018/12/06 11:01AM

....

الحمد لله، الحمد لله تفرَّد بكل كمال، بيده الخير، ومنه الخير، وله الحمد على كل حال وفي كل حال، أحمده -سبحانه- تفضَّل بجزيل النوال، وأشكره جل وعلا في جميع الأحوال، جواد كريم، يبدأ بالإحسان قبل السؤال، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، تنزَّه عن الأشباه والأنداد والأمثال، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، الصادق الأمينُ شريفُ الخصال، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه خير صحب وآل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وسار على الحق واجتنب سُبُلَ الضلال، وسلم تسليما كثيرا مزيدا إلى يوم المآل .أما بعد:-

فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله -رحمكم الله-، وتزودوا من ممركم لمقركم، وأحسِنوا العملَ في هذه الدار، واجتهِدوا فيما بقي من الأعمار، طهِّروا بفيض الدمع أدرانَ القلوبِ، وأيقِظوها بتجافي الجنوب )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ(

عُميرةَ ودّعْ إن تجهزْتَ غاديًا ** كفى الشيبُ والإسلامُ للمرء ناهيا

عباد الله: في كل أمة رجالٌ تفاخر بهم، وتسطِّر تاريخَهم، فدعونا اليوم نحلق مع أحدِ عظماء الرجال، دعونا نشنف آذاننا بسيرة الكبار، فقد تعبت أسماعُنا من سير البسطاءِ الصغار.

ستطرب الآذان بالحديث عن أحدِ العشرة المبشرين بالجنة، وأهلِ الشورى والمنّة، وَأَحَدِ الثَّمَانِيَةِ السَّابِقَيْنَ إِلَى الْإِسْلَام والجنة.

يأتي الحديث عن هذا الرجل الفذ في زمنٍ صُدِّر فيه التافه، ورُفع فيه قدر الحقير، علّنا نستلهم عبقًا من سيرةٍ زكية،

يُسوّدُ أقوامٌ وليسوا بسادة *** بل السيد المعروف سلْمُ بنُ نوفلِ

أسلم قديما قبل دخول دار الأرقم، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرا وسائر المشاهد.

وتشهدُ معْ رسول الله بدرًا *** لترميَ بالسهام وما تبالي

وقد صلّى النبي r خلف هذا الرجل. وَهَذِهِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لَا تبارَى، وهي مسجلة في موسوعة الأرقام القياسية.

قال لأجله رسولُ الله r: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ». متفق عليه.

وقال فيه عمر t: هو سيد من سادات المسلمين.

وقال عثمان t: مَا يَسْتَطِيْعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْتَدَّ عَلَى هَذَا الشَّيْخِ فَضْلاً فِي الهِجْرَتَيْنِ جَمِيْعاً.

إنه أبو محمد؛ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفِ بنِ عَبْدِ عَوْفٍ بْنِ عَبْدِ الحَارِثِ بنِ زُهْرَةَ بنِ كِلاَبِ بنِ مُرَّةَ بنِ كَعْبِ بنِ لُؤَيٍّ. القرشي الزهري.

لو كنتَ من هاشم أو مِن بني أسدٍ *** أو عبدِ شمس أو اَصحاب اللوا الصِّيدِ

أو كنتَ من زَهرةَ الأبطالِ قد علموا *** أو من بني جمحِ البيضِ الجلاعيدِ

كَانَ اسْمُه عَبْدَ عَمْرٍو، وقيل: عبدَ الكعبة. فَلَمَّا أَسْلَمَ سَمَّاه رَسُوْلُ اللهِ -r- عَبْدَ الرَّحْمَنِ. وهكذا يشرع في كل اسم قبيح، أن يغيِّر الرجلُ اسمَه إلى اسم حسن.

كان t عظيمًا منذ أسلم، وما كان أحدٌ أعلم بالرجال من النبي r، وهذه المعرفة هي التي جعلت نبيَّ اللهr  يقول لامرأة عبد الرحمنِ بنِ عوف لما خطبها: (انْكِحِيْ سَيِّدَ المُسْلِمِيْنَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ عَوْفٍ). رواه الحاكم وصححه.

ولَمَّا أُصِيْبَ عمرُ t جَعَلَ الأَمْرَ شُوْرَى فِي السِّتَّةِ. فعزل عبدُ الرحمنِ نَفْسَهُ مِنَ الأَمْرِ وَقْتَ الشُّورَى، واختار لِلأُمَّةِ مَنْ أَشَارَ بِهِ أَهْلُ الحِلِّ وَالعَقْدِ، فَنَهَضَ فِي ذَلِكَ أَتَمَّ نُهُوضٍ عَلَى جَمْعِ الأُمَّةِ عَلَى عُثْمَانَ، وَلَوْ كَانَ مُحَابِياً فِيْهَا لأَخَذَهَا لِنَفْسِهِ، أَوْ لَوَلاَّهَا ابْنَ عَمِّهِ سَعْدَ بنَ أَبِي وَقَّاصٍ. وهذا الفعل من أجَلّ أعماله t.

كَانَ أَبْيَضَ مُشْرَبًا حُمْرَةً، حَسَنَ الْوَجْهِ، رَقِيقَ الْبَشَرَةِ، أَعْيَنَ، أَهْدَبَ الْأَشْفَارِ، أَقْنَى، لَهُ جَمَّةٌ، ضَخْمَ الْكَفَّيْنِ، غَلِيظَ الْأَصَابِعِ، لَا يُغَيِّرُ شَيْبَهُ، t، وكان كريمًا جوادًا مُمدّحًا. قال الإمام الزُّهْرِيِّ: تَصَدَّقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ، r بِشَطْرِ مَالِهِ؛ أَرْبَعَةِ آلَافٍ، ثُمَّ تَصَدَّقَ بِأَرْبَعِينَ أَلْفًا، ثُمَّ تَصَدَّقَ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَى خَمْسِمِائَةِ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَى خَمْسِمِائَةِ رَاحِلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَانَ عَامَّةُ مَالِهِ مِنَ التِّجَارَةِ.

وقال طَلْحَةَ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عَوْفٍ:كَانَ أَهْلُ المَدِيْنَةِ عِيَالاً عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ: ثُلُثٌ يُقْرِضُهُمْ مَالَهُ، وَثُلُثٌ يَقْضِي دَيْنَهُمْ، وَيَصِلُ ثُلثاً.

فتى كمُلت خيراتُه غيرَ أنه ** جواد فما يُبقي من المال باقيا

أيها المسلمون: لقد كان عبد الرحمنِ يعلم أنه من أهل الجنة؛ فقد قال رَسُوْلُ اللهِ r: (عشرة في الجنة ... وذكر منهم عبدَ الرحمنِ بنَ عوف). رواه بعض أصحاب السنن بإسناد صحيح. ومع ذلك لم يتكل t على هذا الوعد المؤكد، بل استمر عاملا عابدًا حتى لقي ربه؛ لأنه يعلم أن الجنة لا تنال بغير عمل.

شُم العرانينِ أبطالٌ لَبوسُهُم ** من نسج داودَ في الهيجاْ سرابيلُ

أستغفرَ الله لي ولعبد الرحمنِ بنِ عوف، فاستغفروه يغفر لكم.

   الخطبة الثانية

الحمد لله على إنعامه الموفور، أحمده -سبحانه- وأشكره على مر الدهور، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تُؤنِس في وحشة القبور، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، جاء بالحق والهدى والنور، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ذوي الفضل المشهور، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسلَّم تسليما كثيرا إلى يوم النشور. أما بعد:-

فلا أزال مستمرًا في إهداء شباب الإسلامِ ورودًا عطرةً من سيرة جدهم عبد الرحمنِ بنِ عوف؛ ولئن تفاخر الناس بالمال والجاه؛ فبحسبِ ابن عوف فخرًا أَنَّه مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الآيَةِ: )لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِيْنَ إِذْ يُبَايِعُوْنَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ( [الفَتْحُ: 18] . وأن رَسُوْلَ اللهِ -r- صلى وَرَاءهُ صلاة الفجر.

عباد الله: سدّد اللهُ سبحانه ابنَ عوف فلم يستشرف للولاية، رغم محاولات أقاربه ومحبيه؛ ولما جاء حُمْرَانُ مولى عثمانَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عوف، فَقَالَ له: البُشْرَى! قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: إِنَّ عُثْمَانَ قَدْ كَتَبَ لَكَ العَهْدَ مِنْ بَعْدِهِ. فَقَامَ بَيْنَ القَبْرِ وَالمِنْبَرِ، فَدَعَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ مِنْ تَوْلِيَةِ عُثْمَانَ إِيَّايَ هَذَا الأَمْرَ فَأَمِتْنِي قَبْلَهُ، فَلَمْ يَمْكُثْ إِلاَّ سِتَّةَ أَشْهُرٍ حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ.

كان t صاحب عفو وصفح، فقد كَانَ بَيْنَه وبين طَلْحَةَ y تَبَاعُدٌ، فَمَرِضَ طَلْحَةُ، فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عوف يَعُوْدُهُ. فَقَالَ طَلْحَةُ: أَنْتَ -وَاللهِ- يَا أَخِي خَيْرٌ مِنِّي. قَالَ: لاَ تقل يَا أَخِي! قَالَ: بَلَى -وَاللهِ- لأَنَّكَ لَوْ مَرِضْتَ مَا عُدْتُكَ. كما كان t متواضعًا جدًا حتى إنه لاَ يُعْرَفُ مِنْ بَيْنِ عَبِيْدِهِ.

وهو المشهور بقوله: (دُلوني على السوق) قال الإمام ابن عبد البر: كَانَ ابنُ عوف مَجْدُوْداً (أي محظوظًا) فِي التِّجَارَةِ، خَلَّفَ أَلْفَ بَعِيْرٍ، وَثَلاَثَةَ آلاَفِ شَاةٍ، وَمَائَةَ فَرَسٍ. وهو الغني الشاكر t.

مات عبد الرحمنِ بنُ عوف سنة ثنتين وثلاثين من الهجرة، وصلى عليه عثمان بن عفان y ودُفن بالبقيع. قَالَ عَلِيٌّ t: اذْهَبْ يَا ابْنَ عَوْفٍ فَقَدْ أَدْرَكْتَ صَفْوَهَا، وَسَبَقْتَ رَنْقَهَا. يعني كدرها. وقالت عائشة رضي الله عنها: سَقَى اللهُ ابْنَ عَوْفٍ مِنْ سَلْسَبِيْلِ الجَنَّةِ.

لَعَمْرُكَ مَا وَارَى التُّرَابُ فِعَالَهُ        وَلَكِنَّهُ  وَارَى  ثيابًا  وَأَعْظُمًا

 اللهم ارض عن عبد الرحمن وعن جميع الصحابة أهل الرضوان، ياكريمُ ما منان، وعنا معهم يا رحمن.

...

المرفقات

الرحمن-بن-عوف

الرحمن-بن-عوف

المشاهدات 1036 | التعليقات 0