شدة الحر خطبة
عبدالرحمن سليمان المصري
شِدَّةُ الحَرِّ
الخطبة الأولى
الحمد لله القائل ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾ يوسف: 105 ،وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ،صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَعَلى آلهِ وَصَحْبهِ وسَلَّمَ تَسلِيماً كَثِيراً ، أمَّا بَعد :
أُوصِيكُمْ ونَفسِي بِتقوَى اللهِ تَعالَى فَهِيَ وَصِيَّةُ اللهِ للأَوَّلينَ والآخِرينَ ، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ النساء : 131.
عباد الله: إِنَّ الدُّنيا دَارُ ابْتِلاءٍ واخْتِبَارٍ ، ومِنْ ابْتِلاءَاتِ الدُّنيا: مَا يَخْلُقُ اللهُ تَعَالى فِيهَا مِنْ حَرِّ الصَّيفِ ، وهوَ آيةٌ منْ آيَاتهِ سُبْحَانَهُ ، قال تعالى:﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾آل عمران:190
وقَدْ جَعَلَ اللهُ بعضَ أَحْوَالِ الدُّنيا يُذَكِّرُ بِالآخِرةِ ، فَكُلُّ شَيءٍ مِنْ مَلاذِّ الدُّنيا وجَمالِهَا ، من المطَاعِمِ والمشَارِبِ ، والأَرْوَاحِ الطَّيبةِ ، والبّهْجَةِ والسُّرُورِ ، والمنَاظِرِ الجَمِيلةِ والأَجَواءِ العَلِيلَةِ ؛ تُذَكِّرُ بِالجَنَّةِ ، كَمَا أَنَّ الكَوَارِثَ والحَوادِثَ ،
والأَوْجَاعَ والآلامَ ، والأَحْزَانَ والأَمْرَاضَ ، والحرَّ الشَّدِيدَ والعَرَقَ ، تُذَكِّر بالنَّارِ .
ولَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ شِدَّةَ الحَرِّ في فَصْلِ الصَّيفِ ؛ مِنَ الظَّوَاهِرِ الطَّبِيعِيةِ ، الظَّاهِرُ مِنْهُ هُوَ اقْتِرَابُ الشَّمْسِ مِنَ الأَرْضِ ، مَعَ السَّببِ الخَفِي البَاطِنِ ؛ وهُوَ قَوْلُهُ ﷺ: " اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا ، فَقَالَتْ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا ، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ ،
نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ ، فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ فِي الْحَرِّ ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ " رواه البخاري.
فَاشْتِدَادِ الحَرِّ للتَذْكِيرِ بِالقِيَامَةِ وبِعَذَابِ الآخِرَةِ ، وحَتى لَا يَرْكَنَ العِبَادُ إلى الدُّنْيَا ، لِيَعْلَمُوا أَنَّها دَارُ مَمرٍّ لا دَارَ مَقرٍّ ، فيتعظُوا وينزجرُوا عمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ غَفْلَةٍ وإِعْرَاضٍ .
عباد الله: والشَّمْسُ مِنَ الآيَاتِ العّظِيمَةِ ، التِي سَخَّرَهَا اللهُ لِعِبَادِهِ ، ومَعْ عَظَمَتِهَا وضَخَامَتِهَا ولَهَبِهَا المُحْرِقِ ، فَهِيَ مُطِيعَةٌ مُذْعِنَةٌ لِرَبِّها ؛ فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: " كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ،
أَتَدْرِي أَيْنَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ؟ قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ " رواه البخاري.
عباد الله: إِنْ كَانَ اتِّقَاءُ حَرِّ الشَّمْسِ في الدُّنْيَا مَقْدُوراً عَلَيْهِ ، بِمَا أَتَاحَ اللهُ لَنَا مِنَ الوَسَائِلِ والأَجْهِزَةِ ، فَإِنَّ يَومَ القِيَامَةِ ، يَوْمٌ شَدِيدُ الحَرِّ عَظِيمُ الْكَرْبِ ، قال ﷺ: " تَدْنُو الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ مِيلٍ ، وَيُزَادُ فِي حَرِّهَا كَذَا وَكَذَا ، يَغْلِي مِنْهَا
الْهَامُّ – أي الرأس - كَمَا تَغْلِي الْقُدُورُ ، يَعْرَقُونَ فِيهَا عَلَى قَدْرِ خَطَايَاهُمْ ، مِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى كَعْبَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى سَاقَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى وَسَطِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ " رواه أحمد بسند قوي.
عباد الله: إِنَّ شِدَّةَ الحرِّ لَا تَمْنعْ مِنْ طَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، والمَشَقَّةُ الحَاصِلَةُ إِنَّما هُوَ ابْتِلاءٌ لِلعِبَادِ ، لِيَظْهَرَ مَنْ يُطِيعُهُ في كُلِّ الأَحْوَالِ والأَوْقَاتِ ، فَحِجَابُ المَرْأَةِ بِتَغْطِيَةِ وَجْهِهَا ، فِيهِ مَشَقَّةٌ ؛ وَلَكِنَّ احْتِسَابَ الأَجْرِ في ذَلِكَ ، شَأْنُهُ عِنْدَ اللهِ
عَظِيمٍ.
والمَشْيُ إلى المَسَاجِدِ لِلْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ ، والتَّخَلُّقِ بِالأَخْلَاقِ الحَسَنَةِ مَعَ العِبَادِ ، وَغَيْرِهَا مِنَ الطَّاعَاتِ ، فَحِيْنَ يَخْرُجُ المُصَلِّي إلى صَلَاةِ الظُّهْرِ أَوْ العَصْرِ ، فَيُحِسَّ بِالشَّمْسِ اللَّاهِبَةِ وَيَشْعُرَ بِالَحِّر الشَّدِيدِ ، وَمَعْ هَذَا يَطْمَعُ في رَحْمَةِ رَبِّ
العَالمِينَ ، ويَدَّخَرُ هَذَا لِيَوْمِ المَزِيدِ ، ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾الشعراء88-89.
عباد الله: وَنَبِيُنَا ﷺ لمَا أَمَرَ الصَّحَابَةَ لِلَّتَجَهُزِ لِغَزْوَةِ تَبُوك ، وَكَانَتْ الظُّرُوفُ شَاقَّةً ، حَتَّى سُمِّيتْ بِغَزْوَةِ العُسْرَةِ ، فَقَدْ كَانَ الجَوُّ شَدِيدُ الحَرَارَةِ ، والمَسَافَةُ بَعِيدةٌ ، والسَّفَرُ شَاقًّا لِقِلَّةِ المَؤُونَةِ وَقِلَّةِ الدَّوَابِّ ، فقاَلَ المُنَافِقُونَ كَمَا حَكَى اللهُ عَنْهُمْ:﴿
وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ﴾ فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِمْ : ﴿ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴾التوبة:81.
عباد الله: كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ إِذَا رَجَعَ مِنْ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ في حَرِّ الظَّهِيرَةِ ، تَذَكَّرَ انْصِرَافَ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ ، فَرِيقٌ إِلَى الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ في السَّعِيرِ.
فَإِنَّ الْقِيَامَةَ تَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَلاَ يَنْتَصِفُ ذَلِكَ النَّهَارُ ؛ حَتَّى يَقِيلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ ، وأَهْلُ النَّارِ في النَّارِ ، قال تعالى:﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ﴾الفرقان:24.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ على إِحسانِهِ ، والشُّكرُ لهُ على تَوفِيقهِ وامتِنانهِ ، وأَشْهدُ أنْ لَا إِلهَ إِلا اللهُ وحْدهُ لا شَريكَ لهُ ، وأَشْهدُ أنَّ مُحمداً عبدهُ ورَسولُهُ ، صَلّى اللهُ عَليهِ وعَلى آلهِ وصَحبهِ ، وسَلَّمَ تسليماً كثيراً ، أما بعد :
عباد الله: إِنَّ المُؤْمِنَ يَتَذَكَّرُ في فَصْلِ الصَّيْفِ وَشِدَّةِ الحَرِّ ، نِعَمَ اللهِ عَلَيْهِ ، بِمَا هَيَّأَ ويَسَّرَ مِنْ وَسَائِلِ التَّبْرِيدِ والتَّكْييفِ المُخْتَلِفَةِ ، مَا تَطْمَئِنُّ بِهِ النُّفُوسَ ، وَتَسْعَدَ بِهِ الأَرْوَاحَ ؛ في البُيُوتِ والمَسَاجِدِ والسَّيَارَاتِ ومَقَارِّ العَمَلِ وَالأَسْوَاقِ ، أَجْهِزَةٌ
تَقْلِبُ الصَّيْفَ شِتَاءً ، والشِّتَاءَ صَيْفاً ، وَتُخَفِّفُ من لَأْوَاءِ الهَاجِرَةِ ، وتُطْفِئُ لَهَبَ الصَّيْفِ ، وَمَنْ تَذَكَّرَ ذَلِكَ وَتَأمَّلَهُ، حَمِدَ رَبَّهُ وَعَبَدَهُ حَقَّ عِبَادَتِهِ .
عباد الله: لَقَدْ تَهَيَّأَ مِنْ أَسْبَابِ الرَّاحَةِ وَوَسَائِلِ دَفْعِ أَذَى الحَرِّ ، مَالَمْ يَتَهَيّأُ لِمَنْ كَانَ قَبْلَنَا ، قال أنس رضي الله عنه "كُنَّا نُصَلِّي مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَيَضَعُ أحَدُنَا طَرَفَ الثَّوْبِ مِن شِدَّةِ الحَرِّ في مَكَانِ السُّجُودِ " رواه البخاري.
فَهَذِهِ النِّعَمُ تَسْتَوْجِبُ الحَمْدُ وَالشُّكْرُ ، ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ إبراهيم: 7.
وَكَانَ ابنُ عُمَرَ رضي الله عنه وَغْيرَهُ مِنَ السَّلَفِ ، إِذَا شَرِبُوا مَاءً بَارِدَاً بَكَوْا ، وَذَكَرُوا أُمْنِيَةِ أَهْلِ النَّارِ ، وَأَنَّهُمْ يَشْتَهُونَ المَاءَ البَارِدَ ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَينَ مَا يَشْتَهُونَ ، وَيَقُولُونَ لِأَهْلِ الجَنَّةِ: ﴿ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ﴾،
فيقولون لهم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾الأعراف: 50 أ. هـ. تفسير ابن رجب.
عباد الله: إن إيقاف البراداتِ فِي المساجدِ والطرقات ، أو بتوفيرِ قوارير المياهِ الباردةِ، ولا سِيِّما لِمَنْ يَحْتَاجُونَها كَالعُمَّالِ وَمَنْ هُمْ في الأَسْوَاقِ ؛ مِنْ خَيْرِ القُرُبَاتِ وأَفْضَلِ الصَّدَقَاتِ ، وَقَدْ أَتَى سَعْدُ بنُ عُبَادةَ رضي الله عنه النَّبِيَّ صلى الله
عليه وسلم ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ ، وَلَمْ تُوصِ ، أَفَيَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَعَلَيْكَ بِالْمَاءِ" رواه الطبراني وصححه الألباني.
عباد الله: بَادِرُوا بِصَالِحِ الأَعْمَالِ قَبْلَ انْتِهَاءِ الآجَالِ ، وَاطْلُبُوا لِأَنْفُسِكُمُ الأَمَانَ لِيَوْمِ الْفَزَعِ وَالأَهْوَالِ
وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281) ﴾البقرة.﴿ .
هَذا وصَلُّوا وسَلِّمُوا على منْ أَمركُمْ اللهُ بالصَّلاةِ والسَّلامِ عَليهِ ، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ الأحزاب :156.
اللهم صَلِّ وسَلِّمْ على عَبدِكَ ورَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ، وعلى آلهِ وصَحبِهِ أَجمَعِينَ .
المرفقات
1717076701_شدة الحر خطبة.pdf