شجرةُ الخلد

د. سلطان بن حباب الجعيد
1446/05/12 - 2024/11/14 16:31PM

الحمدُ للهِ الَّذي جَعَلَ الجَنَّةَ دارَ النَّعيمِ الخالدِ المُقيمِ، وجعلَ النَّارَ دارَ العذابِ الخالدِ المُقيمِ.

وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلّا هو، شهادةً أرجو بها أن أكونَ من أهلِ جنتِهِ، وأن يُجيرَني بها من عذابِهِ ومقتِهِ.

والصلاةُ والسلامُ على مَن دلَّ الخلقَ على السَّبيلِ الَّتي توصِلُهم إلى الجنَّةِ، وحَذَّرَهم من السُّبُلِ التي تُوصِلُهم إلى النَّارِ.

أيها الناسُ، عليكم بتقوى اللهِ، فإنها السَّبيلُ المُوصِلَةُ إلى دارِ رحمتهِ، قالَ تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٣].

 


أما بعد:

أيها الإخوة: من أسبابِ الشقاءِ والتعاسةِ في هذه الحياةِ، الخوفُ من مفارقةِ النِّعَمِ التي حبانا اللهُ بها؛ من الأموالِ والأولادِ والصحَّةِ والأمنِ والأمان.

وذلك يكونُ بالأمراضِ الَّتي تَزيلُ عنَّا الصحَّةَ، أو الفقرِ الَّذي يزيلُ المالَ، أو الخوفِ الَّذي يُزِيلُ الأمنَ. أجارنا اللهُ وإيَّاكم من فجاءةِ نقمةِ الرَّبِّ وتحوُّلِ عافيتهِ وزوالِ نعمته.

 


وإنْ سَلِمَ الواحدُ من هذه الأسبابِ الَّتي تُنكِّدُ عليه عيشَتَهُ، وتُفارِقُهُ النِّعَمُ بسببِها، لم يسلمْ من الموتِ الَّذي يَنتَزِعُهُ انتِزاعًا من كلِّ نِعمةٍ، وعلى رأسِها نِعمةُ الحياةِ، حتى يكونَ الموتُ بذلك هو الحقيقةَ المُرَّةَ التي تَجثُمُ على صُدورِ البشرِ وتَقنِطُهم من الخلودِ في هذه الدنيا.

ومع هذه الحقيقةِ الَّتي لا يُنكِرُها أحدٌ، وهي أنَّه لا بُدَّ من مفارقةِ النِّعَمِ، إلا أنَّ بَني آدمَ يَتَوقونَ إلى الخلودِ ويَطمعونَ فيهِ ويَسعَونَ لهُ.

 


وهذه غريزةٌ أوجدَها اللهُ في ابنِ آدمَ لحكَمٍ عظيمةٍ، فأبونا آدمُ إنَّما أخرجَهُ من الجَنَّةِ، هذه الغريزةُ، فقد أغراه الشيطانُ ونَفَذَ إليه من خلالها: ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى﴾ [طه: ١٢٠].

ولم تَزَلْ هذه الغريزةُ في بَنِيهِ من بعدِهِ، فاللهُ سُبحانَه وتعالى يُحدِّثُنا عن قومِ عادٍ فيقولُ: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾ [الشعراء: ١٢٩].

 


ونحنُ نُشاهِدُ في واقعِنا، كيفَ أنَّنا نتحرَّكُ ونبني ونكسِبُ ونَجمَعُ الأموالَ، وكأنَّنا مُخَلَّدون، حتى لو أنه قيلَ لنا إنكم ستخلدونَ بالفعلِ في هذه الدنيا، لما زِدنا على ما نقومُ بهِ الآن.

 


وما ذاكَ إلَّا أنَّ الإنسانَ يَعتقِدُ أنَّ الخلودَ وعدمَ التَّحَوُّلِ عن النِّعَمِ، من أسبابِ السعادةِ والطُّمأنينةِ، ولذلك هو يسعى للخلودِ حتى مع يأسِهِ منه.

والأمرُ كذلكَ بالفعلِ، فإنَّ الخلودَ من أسبابِ السعادةِ، ولذلك جعلهُ اللهُ من صفاتِ دارِ السعادةِ وهي الجَنَّةُ، فإنها دارُ الخلدِ كما وصَفَها اللهُ سُبحانَه وتعالى، ولو لم يَكتُب اللهُ لهم فيها الخلدَ لَما كانت دارًا للسعادةِ، قال تعالى: ﴿قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا﴾ [الفرقان: ١٥].

 


وجاءَ في الحديثِ: (يُؤْتَى بالمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فَيُنَادِي مُنَادٍ: يا أَهْلَ الجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ ويَنْظُرُونَ، فيَقولُ: هلْ تَعْرِفُونَ هذا؟ فيَقولونَ: نَعَمْ، هذا المَوْتُ، وكُلُّهُمْ قدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنَادِي: يا أَهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ ويَنْظُرُونَ، فيَقولُ: هلْ تَعْرِفُونَ هذا؟ فيَقولونَ: نَعَمْ، هذا المَوْتُ، وكُلُّهُمْ قدْ رَآهُ، فيُذْبَحُ ثُمَّ يقولُ: يا أَهْلَ الجَنَّةِ خُلُودٌ فلا مَوْتَ، ويا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فلا مَوْتَ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَومَ الحَسْرَةِ إذْ قُضِيَ الأمْرُ وهُمْ في غَفْلَةٍ﴾).

 


والسؤالُ الَّذي يَطرحُ نَفسَهُ: هل من سَبيلٍ لتَخليدِ النِّعَمِ فلا تُفارِقُنا ولا نُفارِقُها، ونتخلَّصُ من هذا الأَرَقِ والقَلَقِ الَّذي يَنتابُنا بسببِ خوفِ فراقِها؟

 


نعم، هُناكَ سببٌ يُمكننا فِعلُهُ فيُكتَبُ لنا الخُلود، إنَّها شَجرةٌ، ألا تَرغَبون أن أَدُلَّكُم على شَجرةِ الخُلدِ ومُلْكٍ لا يَبْلَى، فإنَّه من ذاقَ طَعمَها كُتِبَ له الخُلود، فهي بالفعلِ شجرةُ الخُلدِ الحقيقيةُ، وليست التي أغوى إبليسُ آدمَ حيالَها وزيَّفَها عليه.

 


إنَّها شَجرةُ الإيمان، التي مَن طَعِمَ منها كُتِبَ له الخُلود، فلا يُزايلُ النِّعَمَ ولا تُزايلُهُ، فيزولُ عنه بذلك السَّببُ الأكبرُ للحزنِ والتَّعاسةِ في هذه الدنيا وهو خَوفُ مفارقةِ النِّعَمِ، يقولُ تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ٣٢].

 


وهكذا تُبَيِّنُ لنا الآيةُ، أنه مع الإيمانِ تلكم الشجرةُ العظيمةُ التي أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السماءِ، تستمرُّ النِّعَمُ ولا تنقطعُ عن المؤمنِ، يشترك معه غيرُه من الكفارِ والفجارِ في الاستمتاعِ بها في الدنيا، ثم تنقطع عنهم بالموتِ والعذابِ في الآخرةِ، أما هو فيستمرُّ بالتنعُّمِ بها منفرداً بذلك في الآخرةِ، لأنه انفردَ عن الناسِ في الدنيا بإيمانِه بربِّه وخوفِه منه وشكرِه لنعمهِ.

 


اللهم اكتبنا من أهل الإيمان، واكتب لنا به سعادةَ الدنيا والآخرة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كلِّ ذنبٍ، فاستغفِروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

 


أما بعد:

عبادَ الله، إن شجرةَ الإيمانِ لها ثمراتٌ كثيرةٌ، وكلُّ ثمرةٍ لها اختصاصٌ بنعمةٍ معينةٍ تُخلِّدُها.

فإذا تعاطيتَ هذه الثمرةَ، تعاطيتَ سبباً من أسباب خلودِ تلك النعمةِ.

 


فالصدقة - مثلاً - من ثمراتِ شجرةِ الإيمانِ، فإذا تصدقتَ بمالِكَ، خَلَّدتَه، ولقِيتَه أمامَكَ وافراً محفوظاً مضاعفاً، وذلك خلافاً لما تأكلُه وتحوِزُه، أو تترُكُه وراءَك بعد موتِك، فإنه ليس بخالدٍ، بل كُتِبَ عليه الفناءُ، يقول النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - مُجلياً هذا المعنى العظيمَ، ومُصحِّحاً لهذا المفهوم وقد أُهديت له شاةٌ فتصدقَ بها كلَّها إلا كتفَها أبقاه ليأكلَه وأهلَ بيتِه، فقالت عائشةُ - رضي الله عنها -: “ذَهَبَت كلُّها إلا كتفَها”، فقال عليه الصلاة والسلام: “بل بَقِيَت كلُّها إلا كتفَها”.

أي أن ما يأكلُه ابنُ آدمَ، هو الفاني والزائل، وفي الحديث يقول النبيُّ عليه الصلاة والسلام: “يَقُولُ ابنُ آدَمَ: مَالي! مَالي! وَهَل لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟!”

 


ومن ثمراتِ هذه الشجرة، التقوى، التي من تعاطاها وتمثلها، كُتبَ لصداقاتِه وعلاقاتِه بأصحابه الخلودُ، فالذين يبنون علاقاتِهم على أساسٍ من تقوى الله، بعيداً عن الحظوظ البشريةِ، والمصالحة الآنيةِ، ينعمون بهذا الدوامِ الخالدِ لعلاقاتهم، فلا تنقطع أبداً، يقول الله تعالى:

﴿الأَخِلّاءُ يَومَئِذٍ بَعضُهُم لِبَعضٍ عَدُوٌّ إِلَّا المُتَّقينَ﴾ [الزخرف: ٦٧]

فإن كنتَ تُحبُّ من حولك، ولا ترغبُ في الانقطاعِ عنهم، فعليك بتنقيةِ صداقتِك معهم من كل شائبةٍ دنيويةٍ أو آثامٍ دنيَّةٍ.

فإن أعظمَ فراقٍ بين الأصحابِ وأمَرَّه، هو أن يكونَ أحدُهم في الجنةِ والآخرُ في النارِ، والعياذُ بالله.

 


﴿قالَ قائِلٌ مِنهُم إِنّي كانَ لي قَرينٌ يَقولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ المُصَدِّقينَ أَإِذا مِتنا وَكُنّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنّا لَمَدينونَ …﴾ [الصافات: ٥١-٥٣]

 


وأخيراً، فإن هذه الشجرةَ العظيمةَ، شجرةَ الطريقِ إلى الخلدِ، تحفظُ لك أجلَّ العلاقاتِ، وهي العلاقةُ بالأهلِ والأولادِ، فيدومُ بقاؤهم معك فلا تفترقون أبداً، وتُجنِّبُك أعظمَ ألمٍ بفراقِهم، وهو أن لا يكونوا معك في الجنةِ، أو في درجةٍ أقل منك، وذلك بأن تُربِّيَهم وتُنْشِئَهم على طاعةِ ربهم ومولاهم، يقول تعالى:

﴿وَالَّذينَ آمَنوا وَاتَّبَعَتهُم ذُرِّيَّتُهُم بِإيمانٍ أَلحَقنا بِهِم ذُرِّيَّتَهُم وَما أَلَتناهُم مِن عَمَلِهِم مِن شَيءٍ كُلُّ امرِئٍ بِما كَسَبَ رَهينٌ﴾ [الطور: ٢١]

 


اللهم اجعلنا من أهل دارِ الخلدِ، وجنةِ الخلد، ووفقنا في هذه الدنيا للإيمان بك وأن نعملَ صالحاً ترضاه، وأصلح لنا في ذريَّاتِنا وأزواجِنا، إنَّا تبنَّا إليك وإنَّا من المسلمين.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين…

المشاهدات 29 | التعليقات 0