شباب الكهف

هلال الهاجري
1445/12/20 - 2024/06/26 06:03AM

الحَمْدُ للهِ الوَلِيِّ الحَمِيدِ، العَلِيمِ المَجِيدِ، يُبْدِئُ وَيُعِيدُ، وَهُوَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، نَحْمَدُهُ حَمْدَ الْشَّاكِرِينَ، وَنَسْتَغْفِرُهُ اسْتِغْفَارَ المُذْنِبِينَ، وَنَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِهِ ، فَلَهُ الحَمْدُ لاَ نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، قَسَمَ بَيْنَ عِبَادِهِ دِينَهُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَهُمْ أَرْزَاقَهُمْ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ اللهُ تَعَالَى رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَهِدَايَةً لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ، فَهَدَى اللهُ تَعَالَى بِهِ مَنْ كُتِبَتْ سَعَادَتُهُمْ، وَعَمِيَ عَنْهُ مَنْ كُتِبَتْ شِقْوَتُهُمْ، فَمَنِ اتَّبَعَهُ فَلَنْ يَضِلَّ وَلَنْ يَشْقَى، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إلى يَوْمِ الدِّينِ .. أما بعد:

لقدْ جعلَ اللهُ تعالى التقوى خيرَ زادٍ فقالَ سبحانَه: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ).

عِبَادَ اللهِ .. لقد اختصرَ اللهُ عزَّ وجلَّ تلك القِصَّةَ العالميَّةَ المشهورةَ عند أهلِ الكِتابِ وأهلِ الإسلامِ والمعروفةَ بقصَّةِ أصحابِ الكهفِ بقولِه تعالى: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)، سِتَّ كَلِماتٍ قد جمعتْ فَصيحَ البيانِ، فيها وصفُ أبطالِ القِصَّةِ الشُّجعانِ.

(إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ)، هذا الوصفُ لهم من اللهِ تعالى فيه عظيمُ المَدحِ والثناءِ، فمع حَداثةِ أسنانِهم إلا أنهم آمنوا بربِّ السَّماءِ، وقَبِلوا الحقَّ الذي ليسَ فِيهِ خَفاءٌ، فربطَ اللهُ قلوباً توَجَّهتْ إليه بالدُّعاءِ، وصَدَعوا بكلمةِ التَّوحيدِ التي اهتزَّ لها الفَضاءُ، (إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا)، وصَدَقوا واللهِ، لقد قالَ شطَطاً أيْ باطلاً وكَذِباً وبُهتاناً من دعا مع اللهِ أحداً.

الشَّبابُ هم أكثرُ النَّاسِ جُرْأَةً إذا اقتَنَعوا، وأَقبلُ للحقِّ إذا صَدَّقوا، وأَهدى للسَّبيلِ إذا تيَقَّنوا، وأرهَفُ إحساساً إذا أحبُّوا، وأذكى في النَظرِ في حقائقِ الأمورِ، فَهَا هُم نَظروا إلى مَا عَليهِ قَومُهم من عبادةِ غيرِ الذي خلقَ كلَ شيءٍ فأبدعَ، ورزقَ كلَ حيٍ فأشبعَ، وعَبَدوا من دونِه من لا يُبصرُ ولا يَسمعُ، ومن لا يضرُّ ولا يَنفعُ، فقالوا: (هَٰؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا).

وما أجملَ الإيمانَ إذا خالطَتْ بشاشتُه قلوبَ الشَّباب، فامتلأتْ نفوسُهم باليقينِ، واختلطَ كلامُهم بالتفاؤلِ، فها هم يتَّجِهونَ إلى كهفٍ في جَبَلٍ، وكُلُّهم في ربِّ السمواتِ والأرضِ الأملُ، (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)، فَيَتَساءَلُ السَّامعُ: أيُّ رحمةٍ ورُشدٍ في فجوةِ جبلٍ قد اجتمعتْ فيه هوَامُّ الأرضِ؟، فنقولُ: إن كانَ الحافظُ هو العزيزُ الجَبَّارُ، أصبحَ الكهفُ مصدرَ أمانٍ وهدوءٍ واستقرارٍ.

وإذا العِنايةُ لاحظتَك عيونُها *** لا تخشَ من بأسٍ فأنتَ تُصانُ

وبكلِّ أرضٍ قد نزلتَ قِفارَها *** نمْ فالمـَخاوفُ كلُّهنَّ أمــانُ

ولِذَلِكَ أصبحَ من خرجَ خائفاً مِن الإعدَامِ، ينامُ في كهفٍ مَفتُوحٍ بِسَلامٍ، ومن يكنِ اللهُ معَه فمعَه العينُ التي لا تنامُ، ومعه القوَّةُ التي لا تُغلَبُ، وهانت عليه المَشاقُّ، وسَهُلَ عليه كلُّ عسيرٍ، وقَربُ له كلُّ بعيدٍ، وزالتْ همومُه وغمومُه وأحزانُه، وما أجملَها من كُهُوفٍ، إن كانَ الصَّاحبُ فيها هو الرَحِيمُ الرَّؤوفُ، فإنها تكونُ سعادةً وأماناً من الخوفِ.

وإذا أردتَ أن تعرفَ هذا فانظر إلى هذا الكهفِ المُخيفِ، كيفَ كانَ بيتاً فسيحاً، وسَريراً مُريحاً، ينامونَ فيه سنَواتٍ عديدةً، (فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا)، وجعلَ اللهُ تعالى على آذانِهم حِجاباً مانعاً من السَماعِ، لِيَنَاموا في أَقصَى دَرجاتِ الرَّاحةِ والاستِمتَاعِ، (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا)، فلا إله إلا اللهُ، ظَاهرةٌ عَجيبةُ الخَبرِ، لا تُقاسُ بقوانينِ البَشرِ.

ومن عجيبِ هذه القِصَّةِ، وكلُّها عَجيبٌ، قولُه تعالى: (وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ)، يحرسُهم عندَ البابِ، فأصابَه ما أصابَهم من النَّومِ على تلك الحالِ، وهذا فائدةُ صُحبةِ الأخيارِ، وأنَّ من أحبَّ أهلَ الخيرِ نالَ من بركتِهم، كلبٌ صَحِبَ أهلَ فضلٍ وإحسانٍ، فذكرَه اللهُ في مُحكمِ القُرآنِ، وصار له ذكرٌ وخبرٌ وشأنٌ، فما ظنُّك بمؤمنٍ مُوَحِّدٍ مُحبٍّ للصَّالحينَ مُجالساً لهم، لذلك عندما يقولُ اللهُ تعالى لملائكتِه عن أهلِ مجالسِ الذِّكرِ: (فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، فَيَقُولُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: فِيهِمْ فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَالَ: هُمُ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى جَلِيسُهُمْ).

أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ الذي جعلَ قوَّةَ هذه الأمةِ في إيمانِها، وعزَّها في إسلامِها، أحمدُه سبحانَه وأشكرُه، وأتوبُ إليه وأستغفرُه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ عليه، وعلى آلِه وأصحابِه، وسلمَ تسليماً كثيراً .. أما بعد:

أيها الشَّبابُ  .. لم يذكرِ اللهُ سبحانَه وتعالى في قصَّةِ أصحابِ الكهفِ أسماءً ولا أماكنَ ولا زمناً، وإنما ذكرَ أنهم (فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ)، بدأوا بالإيمانِ الصَّادقِ لربِّ العالمينَ، واعتزَلوا أصحابَ السُّوءِ المُجرمينَ، فزادَهم هدىً، ونشرَ لهم من رحمتِه، وهيأَ لهم من أمره رشداً، وكذلك كلُّ من آمنَ بربِّه حقَّ الإيمانِ، وتابَ إليه من الذُّنوبِ والعِصيانِ، وهجرَ أهلَ الخطايا والخُسرانِ، والتجأَ إلى اللهِ تعالى مُعتذراً من ذنبهِ ندمانَ، فلْيبشرْ بهدايةٍ وتوفيقٍ وتثبيتٍ ونورٍ ورُشدٍ وإحسانٍ.

ولِذَلكَ جَاءتْ الوَصيَّةُ الرَّبانيَّةَ للثَّباتِ على الدِّينِ بعد ذكرِ قصَّةِ أصحابِ الكهفِ، فَقَالَ: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)، الصُّحبةِ الصَّالحةِ، المُداومينَ على الطَّاعةِ ليلاً ونهاراً، المُخلصينَ الَّذينَ لا يُريدونَ إلا وجهَ اللهِ، ولأن الثَّباتَ عَلى الطَّاعةِ ثَقيلٌ مَتينٌ، جاءَ الأمرُ بتصبيرِ النَّفسِ مَعَ الصَّالحينَ.

واحذَرْ مِن بَريقِ الدُّنيا والشَّهواتِ، ولا تُكثرْ مِن التَّردُّدِ والالتفاتَ، (وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، وانتَبه من هذا الصِّنفِ من الناسِ الذي قالَ عنه تعالى: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا) فالقلبُ غافلٌ عن ذِكرِ العزيزِ الغفورِ، (وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) فهو يَهوي به في مَواطنِ الهَلاكِ والشُّرور، (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) فلا تراه مشغولاً إلا في حَقيرِ الأمورِ، عِندَها سَتَكونُ حَقَّاً مِن أصحابِ الكَهفِ في هَذا الزَّمَانِ، وسَتنزِلُ عَليكَ الرَّحمةُ والهُدى والرُّشدُ مِن الرَّحمَانِ.

اللهم اهدِ شبابَ المسلمينَ، ورُدَّ ضالَهم إليك رداً جميلاً، اللهم جَنبْهم قُرناءَ السُّوءِ والفَسادِ، اللهم أَقرَّ عُيونَ الآباءِ والأمهاتِ بصلاحِ أبنائِهم وبناتِهم يا ربَّ العالمينَ، اللهم اغفر للمسلمينَ والمسلماتِ، والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ منهم والأمواتِ، اللهم فَرِّجْ همَّ المهمومينَ من المسلمينَ، ونَفِّسْ كربَ المكروبينَ، واقضِّ الدَّينَ عن المدينينَ، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمينَ، اللهم يا حيٌ يا قيومٌ، يا ذا الجلالِ والإكرامِ، يا ذا الطَولِ والإنعامِ، نسألُك نصراً وعزاً وتمكيناً للإسلامِ والمسلمينِ، اللهم انصر إخوانَنا المجاهدينَ في سبيلِك، الذين يُقاتلون أعداءَك لإعلاءِ كلمتِك اللهم انصرْهم في كلِ مكانٍ ياربَّ العالمينَ، اللهم وَفِّقْ وَليَّ أمرِنا بتوفيقِك، وأيدُّه بتأييدِك، واجعلْ عملَه في رضاك، اللهم هيئْ له البِطانةَ الصالحةَ، اللهم اربطْه بالعُلماءِ العاملينَ، واجعلْهم له خيرَ دَليلٍ ومُعينٍ، إنَّك على كلِ شيءٍ قديرٍ، ربَّنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنا عذابَ النَّارِ، سبحانَك اللهم وبحمدِك نَشهدُ ألا إلهَ إلا أنتَ نستغفرُكَ ونتوبُ إليكَ.

المرفقات

1719371028_شباب الكهف.docx

1719371035_شباب الكهف.pdf

المشاهدات 986 | التعليقات 0